الفصل السابع
دخلت حجرتي فوجدتها تضارع جهنم … فالحر يكتم الأنفاس … والهوام تملأ جو المكان … وصوت البعوض يدوي في الآذان … وجاءني خادم من فلاحي هذه القرية قد ألحق مع من ألحقوا بخدمة هؤلاء الفنانين، فوضع دواء في إناء يتصاعد منه بخار طول الليل يطرد البعوض والهوام … ذكر لي أن السيدة زوجة المصور قد أوفدته به … فهي لا تنسى شيئًا مما ينبغي عمله لتوفير أسباب الراحة الممكنة في هذا الريف … فحمدت لها ذلك … ولحظت نظافة هذا الفلاح … فسألته عن أمره … فذكر لي أن «الست الخوجاية» هي التي علَّمته وأفهمته أن يكون نظيفًا … وأنها تراقب بنفسها كل يوم غسيل ثيابه … وأنها تتعهد بالعلاج ما يمكنها علاجه من صحته … وتلاحظ أمر غذائه ونومه وعمله وتضبط أوقات ذلك كله بالساعة … وهي تقوم بهذا كله له ولجميع من يحومون معه ومن يتصلون بالمنزل من الفلاحين والفلاحات، ومن يفد عليها منهم سائلًا شيئًا، فإن الأيام القليلة التي قضتها في إعداد هذا المنزل كانت كافية لإشعار الأهالي بشخصيتها الكريمة وقلبها الحنون النبيل … فأحبها الجميع وأطاعوها … وأصغوا إلى نصحها وإرشادها … ثم ذكر لي كيف أن هذا المنزل كان ممتلئًا بالقذر والزواحف والتراب المتراكم … فهذا المنزل كان مهجورًا منذ زمن طويل … ونظر الفلاح في أرجاء حجرتي وقال بلهجته الريفية: الست الخوجاية وقفت بنفسها علينا لما طلعنا من القاعة دي، كل غلق تراب واخوه! … أصل القاعة دي ولا مؤاخذة فضلت مقفولة من نهار ما انقتل فيها الراجل.
فقلت واجمًا مرتاعًا: انقتل فيها.
فمضى يقول: إيوه … نزلوا عليه بالبلط والفوس.
هو مين؟!
– الراجل.
– راجل مين؟
المعلم ملطي صاحب البيت.
ثم قص عليَّ القصة … فقال إن صاحب هذا المنزل كان مرابيًا، نزل هذه القرية وأقام فيها أعوامًا يقرض الأهالي على مصوغات نسائهم، حتى لم يبقَ في البلدة شيء يُرهن، غير الأطيان، فجعل ينزع من أملاك الناس ويضيف إلى ملكه، فأثرى ثراء كبيرًا … ولكن الناس أبغضوه بغضًا شديدًا … أدى إلى قتله؛ فقد دخل عليه الجناة فقطعوا جسمه إربًا وهو جالس ذات ليلة في حجرته تلك، «يجْرد» ما يختزنه من مصوغات كعادته كل ليلة قبل أن يأوي إلى فراشه … ومنذ تلك الليلة … لم يرقد في هذه الحجرة أحد … فقد روى الناس أنها … «مسكونة» … وأنه يسمع فيها إذا انتصف الليل رنين المصوغات على النحو الذي كان يحدث في حياة المرابي.
فما كدت أسمع هذا الكلام من الفلاح حتى قلت مرتاعًا: يعني أنا أول من راح ينام فيها بعد الحادثة!
– إيوه.
فتملكني رعب … وأنا شديد الخوف من العفاريت مع الأسف الشديد … فصحت في الحال: هات لي المخرج بالعجل، الله يخرج عينيه من رأسه!
فذهب الفلاح يأتي به … ولبثت أنا في الحجرة أجيل النظر في أركانها التي لا يصل إليها ضوء المصباح إلا قليلًا … وصور لي خيالي المصوغات … فارتجفت وعلمت أني لن أغمض جفنًا طول ليلي في هذه الحجرة … نعم إني أرهب الأشباح … وإنه ليخجلني أن أعترف بهذه الحقيقة … رجل مثلي كثير التأمل في أصول الأشياء وجواهر الكائنات … غذته الفلسفة الوضعية وأشبعته الحقائق العلمية … نعم، ولهذا السبب عينه أخاف العفاريت … فالخوف إنما يأتي من حدوث صدمة فجائية لمنطق الحقائق المتواضَع عليها في حياتنا البشرية وبالأخصِّ في حياتنا العقلية … فهذا الفلاح الذي يتصور الوجود تصورًا خرافيًّا لن يصدمه كثيرًا ظهور الأشباح … أما أنا المثقف الذي يفهم الوجود على أساس المنطق العقلي، فإن ظهور شبح، لا أستطيع تعليل سره بعقلي، وأرى أن قد انهار أمام ظهوره منطقي، لخليق أن يصعقني أو يفقدني صوابي من الفور … لقد كان يدهشني دائمًا في قصة «فوست» أن ذلك العالم الفيلسوف لم يحن لظهور «مفستو» إلا أن يكون هذا العالم قد بلغ في قنوطه من العلم مبلغًا وضعه في موضع المنتظر الهادئ لكل أعجوبة خارقة للعلم … ولعل هذا كان قصد «جوته»، نعم، لا ريب عندي أن رجلًا مثل «كانْت» أو مثل «أوجست كونت» إذا رأى عفريتًا لارتاع منه ألف مرة أكثر مما يرتاع رجل كالقديس «سانت أنطوان» أو كالقديس «سان توما» على أن خوفي تلك الليلة من رنين مصوغات المعلم ملطي لم يكن لاعتقادي إمكان ظهور هذه الأصوات … فالاعتقاد أو عدم الاعتقاد لا يقدم عندي ولا يؤخر، إنما أنا أخاف نفسي … أخاف خيالي وما ينسج لي من صور، أكثر مما أخاف الأشباح … في ذاتها إني لا أخشى الواقع … إني لا أخشى الموت، ولا أخشى الخطر ولا أخشى الجبروت … ولا أخشى أن أطلق كلمة جريئة صريحة أعتقد أنها الحق ولو نُصبت خلفها المشنقة … ولكن أخشى الانفراد في مكان يقال لي إنه «مسكون» … آه هذه الكلمة وحدها هي التي «تُسكن» رأسي أشباحًا لن تبرح حتى يطلع النهار.
•••
لم يمضِ قليل حتى سمعت ببابي طرقًا خفيفًا، وظهر المخرج، فما كدت أراه حتى خجلت أن أذكر له شيئًا مما كان يدور في نفسي … فهو قد يسيء فهم موقفي، فيسخر مني أو يظن بي الظنون … فرأيت أن أنتحل سببًا آخر ينقذني من هذه الحجرة تلك الليلة … فقلت له في صوت المختنق وأنا أضع يدي حول عنقي: أف، الحر.
فلم يمهلني حتى أتم عبارتي، وقال موافقًا وهو يجلب الهواء إلى وجهه بمنديله: صدقت الحر شديد الساعة … ما قولك لو صعدنا إلى السطح … ننتفع قليلًا بالنسيم … ونتحدث في أعمال الغد … إلى أن يتقدم الليل قليلًا ويعتدل الجو في الحجرات؟
فأسرعت أنتهز الفرصة: ليس والله خير من ذلك!
وخرجنا من الحجرة … وأنا أرجو في نفسي أن يطول بنا المقام، فلا أعود إلى حجرتي المشئومة تلك الليلة مطلقًا … وصعدنا إلى السطح … فلم أجد به أحدًا … فلقد كان جميع الرفاق الآخرين قد آووا إلى حجراتهم … مطمئنين، هادئين، إلا ذلك المخرج … فقد وجده الخادم لحسن حظي مستيقظًا ما يزال يتمشى على السطح حيث تركه أصحابه عقب العشاء والسمر … فقد راقه جمال الليل … ونقاء الهواء، فنشط ذهنه للتفكير في فنه، وكانت المائدة ما زالت قائمة بعد أن رُفعت عنها الأطباق ولم يبقَ عليها سوى زجاجة من «البورتو» وبضعة أقداح و«ترموس» به قهوة ساخنة … فجلسنا.
وقال لي المخرج.
– كأسًا من البورتو؟ … أو فنجانًا من القهوة؟
فقلت من فوري، وقد تذكرت عزمي على.
– بل كثيرًا من القهوة!