الفصل الثامن
جرع صاحبي كأسين من (البورتو) أفرغا في ذهنه النشاط … وجرعت قدحين من القهوة ألقيَا في عيني اليقظة، وهيآني لاجتياز تلك الليلة التي لن أعود إلى مثلها … وساد علينا صمت مريح … قطعه الرجل قائلًا: والآن إلى العمل قليلًا ولننتهز الفرصة ونتحدث في (السيناريو).
فشعرت كأن الخوَرَ والفتور يدبان في أعصابي، وأحسست كأني موشك على التثاؤب … وأيقنت أن النوم لا بد هاجم عليَّ إذا تحدث هذا الرجل في قصته، فنهضت على قدمي واثبًا، وبادرته: ما قولك في نزهة صغيرة على جسر ترعة هذه القرية.
فقال من فوره: فكرة بديعة.
ثم نهض … ونزل معي إلى الطريق … فوجدنا ببابنا خفيرين نظاميين نصبهما العمدة لحراسة منزلنا فأبيا أن يتركانا نسير في الليل بلا دليل … فبقي أحدهما بالباب، وتبعنا الآخر ببندقيته الحكومية العتيقة الطراز التي تصلح للإرهاب ولا تصلح لقتل الذباب! … ومشينا الهوينا إلى الجسر، فقابلنا قومًا من الفلاحين يهبطون بحميرهم من (داير الناحية) عائدين إلى دورهم … بدأنا بالتحية … فرددنا عليهم بمثلها … وما كادوا يتبينون خلفنا الخفير النظامي حتى أدركوا أن لنا شأنًا وقدرًا فترجلوا احترامًا … وقال لي صاحبي: ما قولك لو استعرنا منهم حمارين نمتطيهما في هذه النزهة؟
فكاشفنا القوم برغبتنا فصاحوا من قلوبهم: تفضلوا! … تفضلوا! … يا ألف مرحبا!
وأقبلوا يرفعون صاحبي بسواعدهم على ظهر حمار … ورأيت بعضهم يهرش جسده هرشًا متصلًا … فقلت لصاحبي أنبهه: لا تنسَ أن القمل قد سكن أجسام هؤلاء المساكين!
فقال صاحبي وهو يعتدل على ظهر الحمار: لا بأس … سأغير ملابسي قبل النوم.
وركبت مثله … ووعدنا الفلاحين برد الحمير إليهم مع الخفير فانصرفوا راضين … وسرنا في طريقنا … والمخرج فرح بالمطية … والتفت إليَّ قائلًا في ابتسام.
– ما أكرمهم! … لعلهم أسكنوا القمل أجسامهم كرمًا منهم وحسن ضيافة! … مهما يكن من أمر فإني أقدِّر هذه النفوس الطيبة الكريمة تقديرًا كبيرًا! … وإنك لتستطيع أن تدرك قيمتهم وتلمس الفرق في المعاملة والسجية لو هبطت قرية أوروبية وسألت أهلها شيئًا يسيرًا … لا … إن شعبكم كريم العنصر بلا جدال … أما قذارة المظهر فهي تدهشني حقًّا … ولست أدري ما علتها؟ … أهي قلة الماء وأنتم لديكم بحران من أكبر البحار، ونهر عظيم، وجو حار يغري الأجسام بالاستحمام!
وسكت فجأة عن الكلام … وارتفعت من فمه صيحة: ستهوي بنا الحمير إلى الماء!
لقد أصاب … فإن تلك الحمير كانت تسير على عادتها العجيبة سيرًا لا يبعث على اطمئنان أمثالنا من الفرسان الخائبين … فلقد كانت تترك عن عمد الطريق الواسعة المستقيمة وتنحدر إلى حافة جسر الترعة حيث لا يفصل بينها وبين الهاوية غير أشبار وهي تسرع في الخطى تارة وتتصادم أرجلها وتشتبك تارة أخرى، غير حافلة بشيء … كأنها تضيق بالأمن والعافية وتسعى إلى الخطر تلاعبه وتداعبه بأطراف حوافرها … كما يفعل المتصوفة الذين ينصرفون عن طرق التفكير المعبَّدة إلى اللعب بأفكارهم على حافة اللانهاية.
وسرنا لحظة صامتين … نتأمل الحقول والنبات والمياه الجارية في القنوات … وقد اتخذت في ضوء القمر ألوانًا وأشكالًا جديدة … وسكن حولنا كل شيء … فالنسيم كان أرقَّ من أن يثير شيئًا … ومع ذلك فقد كنا نرى الكائنات من حولنا كأنها ساكنة وغير ساكنة … كأن هنالك أنفاسًا خفية تبعث في الأشياء شبه رقصات لاعبة عابثة، لا ندركها بحواسنا الظاهرة، وخُيل إلينا أن آذاننا تسمع ضحكات خافتة تتصاعد من كل شيء. ولكنها ضحكات كالهمسات. وحركات كحركات أجسام الغانيات الثملات لكأن الكائنات تغتسل في ضوء القمر.
وقال المخرج كالمخاطب لنفسه.
– إني أرى الأشياء الآن كما يراها النظارة من خلال ستار الموسلين الذي يضعه مخرجو المسارح عند تمثل الأحلام فلم أحر جوابًا.
وخيم علينا الصمت من جديد … فقد أخرست لساننا تلك الروعة التي تحيط بنا من كل جانب.
وهمس صاحبي من بين شفتيه: ما أجمل هذا الريف!
ثم اعتدل وذكر لي مرة أخرى أن زوجة المصور التي مكثت في هذه القرية أسبوعًا تكاد تجن سرورًا وإعجابًا بهذا البلد … وتتمنى لو تقضي حياتها في ذلك المكان … ولو تمنح أيامها كلها لهؤلاء الفلاحين، تعينهم على تجميل حياتهم وتوسيع مداركهم ليتذوقوا ما وهبتهم الطبيعة من جمال … إنها تقول إن الشمس والقمر في هذه البلاد يعملان عمل الخياطة البارعة … فهما يُلبسان الكائنات بسخاء أثوابًا جديدة مختلفة رائعة الألوان! … إلا الفلاح، فقد خرج من الحساب؛ لأن أمر لباسه ليس من «اختصاص» الشمس والقمر … نعم … كل شيء نظيف جميل في هذا الريف إلا الإنسان وهذا ما يغمرها هي الأخرى دهشة وحسرة.
فقلت لصاحبي وأنا أتنهد: أنا أيضًا يملؤني ذلك دهشة وحسرة منذ أعوام طوال!
فقال: وما العلة؟
فجعلت أفكر وأتكلم كالمخاطب لنفسي: العلة … العلة ظاهرة.
أنت وحدك ذكرتها الآن دون أن تلحظ ذلك … العلة هو أنه لا توجد في مصر بعدُ امرأة مثل زوجة المصور … العلة تستطيع أن نتبينها على نحو بارز، لو رجعنا إلى تاريخ الريف الأوروبي … فلنأخذ ريفكم الفرنسي مثلًا … ما الذي حدث فيه؟ … لقد كان في عهد النظام الإقطاعي بيد الأشراف … أولئك الأشراف هم الذين جملوا الريف … بدأ سيد المقاطعة بتشييد قصره الجميل النظيف … وقطنه مع زوجته وأولاده … واعتبر أهالي المقاطعة رجاله، الذين يعملون لخيره وعزه وسلطانه … ويعمل هو لحمايتهم … على أن المهمة العظمى في رفع مستوى أولئك القرويين، كان قوامها: زوجة الشريف … إنها هي باستقرارها في الريف واتصالها بزوجات كبار القرويين، عملت على إدخال المثل الصالح في النظافة والذوق إلى جميع البيوت … لقد كانت هي المرجع الأعلى لشئون الصحة والبيت … إذا حدث مرض جاءتها النساء يسألنها دواء … وإذا وقع حدث جئنها يسألنها النصح … إنها المدبرة لشئون البيت والصحة والنظافة والذوق للقرية والمقاطعة كما أن زوجها الشريف هو المدير لشئون الأمن والقضاء … إنها هي الحاكمة المطلقة لشئون الحياة الاجتماعية في دائرتها، كما أن زوجها هو الحاكم المطلق لشئون الحرب والكسب … هي التي تنظم الحفلات وتعد المجتمعات وتنثر النماذج الصالحة لكل ما هو جميل … من ملبس وتحف وأوضاع ومراسيم يحتذيها ويقلدها زوجات الأثرياء من القرويين أو المقربات من القرويات وهن مشدوهات الأفواه، مفتوحات العيون، ويذهبن فيتحدثن بهذا في القرى ويُدخلن هذا على أنفسهن وبيوتهن … إلى أن ذهب نظام الإقطاع ومضى زمن الأشراف … وجاء عهد الديمقراطية … فلم يتغير الوضع … فقد حل في الريف محل زوجة الشريف زوجة المالك الكبير أو زوجة القروي الغني … وقد ورثت كل صفات السيدة الشريفة فوجدت من واجبها أن تحتذيها … وتقوم فيمن دونها من فلاحات القرية مقام المرشد المعين … أما في المدن فقد حلت كذلك زوجة التاجر الموسر والصانع والرأسمالي محل النبيلة وورثت واجباتها ومهامها في المجتمع … فأصبحت هي التي تزور الأحياء الفقيرة … تواسي المرضى وتمدهم بالأدوية والنقود وتحمل للأطفال اللعب والحلوى … ولم يأتِ عصر في أوروبا تخلت فيه المرأة عن واجباتها باعتبارها سيدة … لأنها تعلم أن كلمة سيدة لم تطلق جزافًا … إنما هي وظيفة في المجتمع لها عمل يستغرق وقتًا وجهدًا … ولها مظهر سيادة وقيادة لمن يحتاج إلى المعونة من أتباعها في الريف أو جيرانها في المدن … لقد تغيرت الأسماء السياسية والاجتماعية في أوروبا ولكن المهام والأعمال لم تتغير … لقد طلي لون السُّلم الاجتماعي بطلاء آخر … ولكن هذا السلم قائم دائمًا … لأنه من نواميس الحياة الثابتة.
ينبغي أن يكون هنالك دائمًا طبقة تتقدم طبقة في الثراء أو في المعرفة … غير أن الذي شوهد في أوروبا وما زال يشاهد فيها. هو أن كل طبقة في أعلى السُّلم تمد يدها لكل طبقة في أسفله … هنالك تماسك بين الدرجات … هناك نموذج يُتبع ومثل يُعطى من الطبقة العليا للطبقة السفلى.
هذا ما حدث في أوروبا … أما في مصر، فلم يحدث ذلك، فإن الإقطاع في مصر، كان في يد أرستقراطية أجنبية من المغول أو الأتراك العثمانيين، ما كانوا يعتبرون الفلاح رجلهم بالمعنى الأوروبي للكلمة، ولكنهم كانوا يعدونه عبدهم بالمعنى الشرقي للكلمة … بل أقل من عبدهم؛ فقد كان للكلب والفرس عندهم من الحرمة والكرامة والحقوق ما ليس للفلاح، هذا الفلاح الذي يتكلم لغة غير لغتهم، ونبت في أرض لم تكن أرضهم.
لقد كان القروي الفرنسي يعتبر الشريف سيدًا، ولكن السيد كان يعتبر القروي مثله فرنسيًّا … يحارب معه جنبًا إلى جنب … أما السيد التركي العثماني فكان يعتبر الفلاح المصري من طينة قذرة … فما كان يسمح له بشرف الجندية ولا الفروسية ولا بشرف المصاحبة في حفل أو اجتماع … هذا عمل المولى … أما عمل المرأة زوجة هذا المولى … وهي في أكثر الأحيان من الجواري البيض … فلا شيء إلا متعة سيدها … وهي على كل حال قد وُضعت في الحريم … لا شخصية لها ولا مهمة ولا عمل إلا ما يمكن أن تقوم به المملوكات … يضاف إلى ذلك شعورها هي أيضًا بذلك الازدراء لكل ما يسمى «فلاح» … ذلك الشعور الذي يحول دون كل حدب على هذا الجنس، الذي تعتبره غريبًا عنها، وضيعًا في عينها، فهو جنس المحكومين، حقيرًا في عرفها لا يرجى منه ولا ينبغي أن يرفع من شأنه أو يغير من أمره شيء … وعلى هذا النحو، انشطرت مصر إلى شطرين بعيدين، وانقسمت إلى طبقتين لا تمد إحداهما إلى الأخرى يدًا … وبدأ السلم الاجتماعي على ذلك الشكل العجيب: طائفة في أعلاه وطائفة في أسفله، ثم لا شيء بين ذلك غير فراغ … فقد تحطم وزال في هذا السلم ما بين الأعلى والأسفل من درجات … وانقضى عهد النظام الإقطاعي في مصر … وجاءت العصور الحديثة … فلم يتغير بالطبع هذا الوضع؛ فالمالك الغني أو الفلاح الموسر الذي حل في الأرض محل السيد العثماني، قد ورثه كذلك في طباعه وقلده في ميوله وعاداته … فتزوج هذا الفلاح المالك بالجواري البيض، وجعلهن في الحريم … وازدرى أحيانًا هو أيضًا أبناء جلدته من الفلاحين … ثم ذهبت «بدعة» تقليد الأتراك بالزواج من الجواري البيض … ونشأت القومية المصرية، وظهرت مبادئ جديدة واتجاهات حديثة، وتعلمت المرأة المصرية في المدارس والجامعات، وعرفت كيف تتكلم في المجتمعات، وتكثر من ألفاظ الحرية والمساواة بالرجل، وحقها في هذا وحقها في ذاك … ورغبتها في محاكاة أختها الأوروبية … ولكنها بقيت حتى الساعة التي أحدِّثك فيها وريثة الجواري البيض … قد دخل النور قليلًا رأسها بفعل التعليم، ولكن روحها ما يزال في أكثر الأحيان روح الجواري البيض، إنها ما زالت بعيدة عن أن تكون «سيدة» بالمعنى الأوروبي للكلمة … فالسيدة باعتبارها وظيفة في المجتمع، يقوم على كاهلها أعباء مواساة الفقير ومداواة المريض من أهل حيها أو ريفها، وتجميل القبيح من بيتها، وتعمير الخرب من أحوال بيئتها … السيدة باعتبارها شخصية قائمة إلى جانب زوجها السيد، مسئولة عن أشياء لا يستطيع هو القيام بها … هذه السيدة التي تعَدُّ قوة بناء في المجتمع لم توجد بعد … ولكن الذي وجد حتى الآن، نساء يرتدين أحدث ثياب السهرة مقلدات «السيدات» … قد أتقنَّ بعض الشيء الظهور في الحفلات ودور السينما والولائم والرطانة ببعض اللغات.
ولكن …
وصِحت في الحال فقد قطع حديثي صوت غريب دوَّى في الفضاء الساكن، ألقى الاضطراب والخوف في نفوسنا … وكنا قد بلغنا في سيرنا منزلًا كبيرًا جميلًا، لا ينبعث منه ضوء ولا صوت إلا ذلك الصوت الغريب … فالتفتنا إلى الخفير خلفنا مرتاعين فهدَّأ من روعنا قائلًا: دي سراية الباشا.
ثم ذكر لنا أنها مغلقة، ولا أحد فيها غير ناظر العزبة، يحتل منها الطابق الأرضي … أما الطابق الأعلى فيسكنه ذلك «البوم» الذي يحدث هذا الصوت الغريب … وجعل يصف لنا هذه السراية وما فيها من أثاث، ويقول بلهجته الريفية في إعجاب: آه لو كنتم تدخلوها وتتفرجوا عليها من جوَّه! … يا صلاة النبي أحسن! … ما ييجي في ريحها بقى إلا سراية البك عبد الغني!
فسألناه عن هذه السراية الأخيرة، فقال إنها في الجهة الأخرى من الجسر في عزبة واسعة لهذا البك، وقال لنا أيضًا إنها مغلقة؛ لأن البك والست مقيمان في القاهرة … فما تمالكت نفسي والتفتُّ إلى صاحبي وقلت له: أرأيت حرم الباشا وحرم البك؟ … تركن عملهن هنا … عمل «السيدات»، وأقمن في القاهرة ليذهبن كل ليلة إلى السينما، هذا ما عملته نساؤنا اليوم بعد أن خرجن من قفص «الجواري البيض»! … آه يا صاحبي … إن «السيدة» الجديرة بهذا الاسم: هي زوجة زميلك المصور … تلك التي ورثت شخصية سيدات الأشراف … ففهمتْ كيف تكون نافعة مفيدة للإنسانية أينما حلت … إنها تريد أن تمكث هنا لترفع شأن هذا الفلاح المسكين وهي لا تربطها به صلة غير صلة البشرية … سألتَني العلة في قذارة هذا الفلاح … فقلت لك وأقول وسأقول دائمًا … العلة هي المرأة … يوم تتخلص المرأة المصرية من روح «الجواري البيض» وتتقمص روح «السيدات» تعال انظر عندئذٍ إلى الريف المصري والفلاح المصري.