الفصل التاسع
عدنا إلى المنزل وقد انتصف الليل … فدخلنا وأوصلني صاحبي إلى باب حجرتي وقال: نومًا هنيئًا.
فتذكرت من فوري العفاريت ورنين المصوغات وانتصاف الليل، موعد انطلاق الأشباح كما تروي دائمًا الأساطير والخرافات، فوقفت جامدًا على العتبة فقال صاحبي: ما بك؟
– النوم الآن مستحيل … فالحر والبعوض.
ثم جذبته من يده وقلت له: هلم بنا مرة أخرى إلى السطح.
– كما تريد.
وصعدنا … فارتمينا في الكراسي، نستريح لحظة مما أصابنا من ظهور الحمير … ولم يمضِ قليل حتى اعتدل المخرج في مقعده والتفت إليَّ قائلًا: لو انتهزنا الفرصة وعدنا إلى الحديث في السيناريو … فقلت في نفسي.
– آه … أهرب من العفاريت تحت، ألقي السيناريو فوق!
ولم يمهلني المخرج ولم يرحمني … فقد عاجلني بقوله: ما رأيك في موقف «حسن»؟
فالتفت إليه حائرًا منزعجًا.
– حسن من؟
– أبو مهدي.
– ومن مهدي؟
– عجبًا! … بطل القصة.
– آه … لا مؤاخذة.
– هل ترى إذن موقف غرامه بأمينة طبيعيًّا؟
– ومن هي … أمينة؟
– عجبًا لك، بطلة السيناريو.
– آه، لا تؤاخذني.
– إنك تنسى بسرعة مدهشة … لكن … لا بأس … ورمقني بنظرة تسامح أخجلتني … فرأيت السلامة في أن أتجنب الليلة هذا الحديث فنهضت أبحث عن شيء يشغلنا عنه، فوجدت سلمًا خشبيًّا مستندًا إلى جدار حجرة فوق السطح كانت تُستخدم فيما أرى برجًا للحمام … فصعدت درجات ذلك السلم حتى انتهيت إلى سطح هذا البرج، وهو أعلى المنزل، بل أعلى مكان في القرية، يشرف الناظر منه على الحقول والجداول والطرق والمساكن … فوقفت على هذه القمة … فأعجبتني المناظر التي تكشفت لي منها، فناديت زميلي، فصعد خلفي، ووقف إلى جانبي يتأمل النخيل، رشيقة نحيلة تتمايل تحت النسيم، وقد كلل نور القمر رءوسها بذلك الغلاف الشفاف … فما تمالك صاحبي أن صاح: انظر! … كأنها غيد ملاح خارجة من الحريم تتمايل محجبة بالحرير!
وجعلنا نتأمل كل شيء في سكون … وهبط صمت عميق على القرية … فكل شيء فيها قد نام … وإذا صاحبي يشير بأصبعه إلى بعض دور الفلاحين حولنا ويهمس: انظر … فوق هذه الأسطح.
فالتفت حيث أشار وهمست: ماذا؟
– ألا ترى … هناك.
فحققت النظر وقلت: أخبرني أنت ماذا ترى؟
فقال في نبرة الإعجاب: هذه الأطياف الصاعدة إلى السطح متدثرة في السواد، لا يبدو منها غير عيون جميلة براقة، انظر، إنها تتمايل بقدودها النحيلة كأنها النحل الثملة من لعب النسيم … تلك غِيدٌ من حِسان الريف قد اتخذن من الليل ستارًا وصعدن إلى حيث يَلْقين عشاقهن المنتظرين تحت الجدران!
فكتمت ضحكي وقلت له: نحن الساعة أبعد ما نكون عن قصة «روميو وجوليت»؛ فهؤلاء النسوة التعسات إنما تركن هنا أيضًا «القيعان»، إلى السطح هربًا من الحر والقمل والبعوض … ولا شيء غير ذلك … فلم يرُق صاحبي هذا الكلام … فهو لا يريد أن يرى فيما حوله الحقيقة «الواقعة»، … فقد عاد يقول كالحالم إن أمينة بطلة قصته ينبغي أن تخرج في الليل كأنها الشبح تطل على مهدي حبيبها من أعلى السطح فيراها كأنها الشمس الطالعة من الشرق، قد سطعت ببهائها فمرِض القمر غيرةً وحسرةً وبهت لونه وشحب وجهه، ولقد شعت عيناها بوهج لألاء خالته العصافير فلق الصبح فأخذت في التغريد والغناء، وإنها ما تكاد تبصر حبيبها يتسلق الجدار حتى ترتاع قلقًا خشية أن يراه أهلها فيريدوا به شرًّا … فتصيح به. ماذا ينبغي أن تقول له، والتفت إليَّ صاحبي قائلًا: هنا يبدأ الحوار … ماذا ينبغي أن تقول هذه الفتاة؟ … فأجبت في سخرية خفية: تقول … «كيف ولماذا جئت هنا، والجدران عالية، آه لو … رآك أهلي هنا لقتلوك.» فيجيبها: «إنه الحب قد أعارني أجنحته لأرقى بها هذه الحيطان … فعقبات الأحجار لا تستطيع صد الحب … لقد أعارني الحب ذكاءه فأعرته عيني … إني لست ملاحًا … ولكنك لو كنت شاطئًا في بحر من البحار النائية لنشرت في الحال شراعي وانطلقت أجوب إليك البحار … فتقول: «أخشى أن يباغتك أهلي هنا فيقتلوك»، فيقول: وا أسفاه … إن عينيك لأشد خطرًا عليَّ من عشرين «فأسًا» من «فئوسهم». فتقول له: أتحبني حقًّا؟ … إنك قائل نعم …» فيجيبها: نعم، وأقسم لك بهذا القمر الساحر الذي يطلي ضياؤه بالفضة هامَ هذه «النخيل» … فتقول له: آه … «لا تقسم بالقمر … هذا القمر … المتقلِّب الذي يتغير في كل شهر … فإني لأخشى أن يكون حبك مثله لا يثبت على حال … لا … لا تقسم، حسبي سعادةً أني أراك، وإن كانت سعادتي الليلة لم تبلغ التمام … فقد جاءت سريعة مفاجئة، كأنها البرق الخاطف يذهب لمعانه قبل أن نستطيع حتى أن نصيح: ها هو ذا قد لمع!»
فالتفت إليَّ صاحبي غاضبًا في غير جد: أتهزأ بي؟ … ذاك حوار من شكسبير! … فقلت باسمًا: ماذا أصنع لك ما دمت تأبى إلا أن ترى الأمور بعين الخيال والقصص … إنما الحقيقة التي أعرفها هي أني لم أرَ قط في هذا الريف غرامًا ارتفع إلى هذا المستوى الشعري، الذي يدخل في إطاره القمر والشمس والنسيم والزهور والندى … لو أن هذا الغرام وُجد لوجدت النظافة في الحال … ولوجد شيء من الذوق، ولوجد شيء من الجمال … لا شيء يخلق في المرأة الرغبة في التجمل والشعور بكل ما هو جميل غير الحب النبيل … كل ما يدرك من أمر الحب هنا، إنما هو حب الحيوان أو حب العبيد: شيء مباشر وضيع زهيد … يأتي ويذهب فلا يخلف أثرًا غير الأثر المادي البيولوجي الذي يخلفه عادة بين طائفة القرود أو الزنوج … أما ذلك الحب الذي يأتي فيفتح العيون والنفوس على ألوان من الحسن وضروب من الإحساسات الرفيعة … ولا يذهب حتى يترك صاحبه وقد تكون تكوينًا جديدًا وسمَا على نفسه سموًّا ملحوظًا! … ذلك الحب الذي كان دائمًا خير مدرسة للمشاعر … البشرية العليا … ذلك الحب الذي كان دائمًا النبع الذي انبثق منه الفن والجمال؛ عمادَا الرقي الإنساني … ذلك الحب لا يمكن أن يوجد الآن في هذه البقاع؛ لأن وجوده معناه أن الإنسان الأعلى قد وجد … وهذا ما لا نستطيع أن ننعت به بعدُ هذه المخلوقات المسكينة.
قد تسألني … ولماذا لم يوجد هنا هذا الحب … فأقول لك مرة أخرى … لأن العلة هي دائمًا العلة. إن الحب الرفيع لا يظهر مطلقًا في جو العبودية … ولا ينبت إلا في أرض الحرية الروحية … والمرأة المصرية ربيبة الجواري لم تكن تفهم من الحب إلا ما تفهمه الجارية المملوكة … إن الحب الرفيع زهرة ينبغي أن تساقط بذورها من السماء … وليس في جو «الحريم»، المغلق سماءٌ.
هنا قاطعني صاحبي صائحًا.
– عجبًا، أوَلم ينقضِ عهد الحريم بعد؟ … إني أرى المرأة المصرية في المدن قد خرجت سافرة وتعلمت وبدت كالمتحضرة.
فقلت له: نعم … حدث هذا الانقلاب … وقد جاهد مصلح اجتماعي هو «قاسم أمين» طول حياته من أجل هدم قضبان «الحريم» المادي … وقد نجحت صيحته … وكسرت المرأة قيودها المادية، وظهرت في المجتمع على صورة شبه متحضرة … ففرحت وتملكها الزهو وظنت أنها بلغت النهاية.
ولكن … للأسف! … اتضح لعيني أنها ما زالت ترزح في قيد آخر لم تلتفت إليه … قيد يحتاج إلى صيحة أخرى من قاسم أمين آخر يتم المرحلة! … إن المرأة المصرية قد خرجت حقيقةً من سجنها المادي، ولكنها ما زالت رهينة سجنها الروحي … إنها في شبه حريم معنوي لا تكاد تحسه؛ لأن مداركها المعنوية ما زالت قاصرة … إن الحب الرفيع مجهول لا عند نساء الريف وحدهن، بل عند نساء المدن المتعلمات أيضًا … لأن روح الجواري البيض كاملًا ما زال في هؤلاء وأولئك على السواء … ولو وُجد هذا الحب في الريف والمدن لوجد الفن العظيم في الحال … إني باعتباري روائيًّا لا أستطيع أن أتصور حوارًا رائعًا بين مصرية ورجل تحبه … لو وُجد الاثنان في حديقة مقمرة ماذا يقولان؟ … من العسير أن أتخيل شيئًا جميلًا يقال بين هذين المحبين … فهي ما زالت على الرغم من حريتها المادية تحس كأن شيئًا سجينًا فيها … إنها لا تدري ماذا تقول لحبيبها عند اللقاء، فليس في تاريخ عصورها القريبة ما يُسعفها … وليس في ألفاظ لغتها العادية ما يواتيها لساعتها، وليس في مداركها ومخيلتها ما ينقذها. إن الأوروبية تتكلم في الحب وأمامها صورة باتريس الإلهية حبيبة الشاعر دانتي … ولورادي توفس ملهمة بترارك … وتتمثل ما جرى بينهما من نبيل الحوادث وتتذكر ما تعلمته من جميل الشعر والأحاديث والمثل العليا التي يوحيها الحب النقي الطاهر … إن الفن والشعر والأدب قد علم المرأة الأوروبية ماذا تقول وماذا تفعل إذا أحبت … لأن الفن والأدب كانا من لزوميات سيدات القصور منذ عهد الإقطاع … فهن حاميات الشعراء والفنانين … وهن المتذوقات المتفهمات لنتاج قرائحهم … ومَن غير المرأة ينبغي أن يتذوق محاسن الطبيعة والأذهان … ومَن عير الجميلة يقدِّر الجمال … ثم ورثت نساء الشعب عن سيدات القصور هذا التقليد، فصرن يقبلن على الفنون يجملن بها أرواحهن إقبالهن على الأصباغ يجملن بها أجسامهن … وصارت القادرة منهن تفتح صالونها للفنانين والشعراء … وارثة بهذا عن سيدة القصر حق حماية صانعي الجمال والذوق … ذلك أن السيدة الجديرة بأن تسمى سيدة، تلك التي يجري في عروقها دم الحرية والسيادة ينبغي لها دائمًا أن تشعر في نفسها أنها تحمي شيئًا أو تدافع عن إنسان … لذلك جعلت الأوروبية دائمًا من عملها الطبيعي وواجبها القومي أن تحمي الفقراء والأطفال والمرضى … ثم أهل الفنون إذا استطاعت؛ أي تلك الطوائف من الأمة التي تحتاج إلى مشاعر المرأة الرقيقة النبيلة … هذا هو معنى الحرية الروحية عند المرأة … تلك الحرية التي أطلبها لبنات جلدتي في مصر والشرق … وأتحمل أحيانًا الأذى منهن؛ لأني أصارحهن في عنف بما هن في حاجة إليه ليبلغن هذه الغاية … فأنا مؤمن كل الإيمان بأن بلادنا كلها تنقلب انقلابًا عظيمًا عجيبًا لو تمت هذه المرحلة الثانية من مراحل نهضة المرأة المصرية والشرقية … خروجها من الحريم «الروحي»، ونبذها ما علق بها من آثار الجواري … وبلوغها مرتبة «السيدة»، التي تخلق شيئًا وتحمي شيئًا.