التحول الأول
هذه المجموعة من الأفلام تتضمن أعمالًا تمتد من عام ١٩٥٠م إلى عام ١٩٥٦م وتندرج تحت فكرة عامة ألا وهي «استحالة الطبقية».
والتجارب الإنسانية العديدة في هذه الأفلام ليست غامضة بل إنها توفر «التعادلية» بين الجانبين الذاتي والموضوعي، ولما كانت تلك التجارب وسيلةً وتعبيرًا عن ظواهر غير نظامية: مثل انتقال حسن من بولاق إلى الزمالك (الأسطى حسن)، وإمام من الريف إلى المدينة (شباب امرأة)، واستقلالية هريدي الفردية (الفتوة)، فإن جميع التجارب بلا استثناء تبحث عن «موضوع»، حسب المعنى الذي حدده جورج لوكاش، قادر على التعبير عن التحول.
وفيما عدا فيلم «لك يوم يا ظالم»، فإن الأفلام الستة التي أخرجها صلاح أبو سيف في تلك الفترة تحمل بصمات كلٍّ من المخرج ونجيب محفوظ وتحرص كلها على إبراز ذلك الموضوع الذي لا يتوصل إلى تحقيق وتجسيد نفسه.
وسنجد دائمًا في هذه الأفلام إشكالية «الانتقال الفردي» من وسط إلى وسط آخر والفشل الذي يسفر عنه ذلك الانتقال، مجسدة بكل وضوح ودقة، سواء عن طريق هروب الأسطى حسن، أو مغامرات ريا وسكينة، أو جنون عبد الصبور القاتل (الوحش)، أو إغراء شفعات لإمام (شباب امرأة)، أو مسيرة هريدي الصاعدة والهابطة (الفتوة).
والهدف المنشود بكل وضوح من هذه الأعمال هو عودة الضال الذي انتهت مغامرته خارج وسطه الطبيعي بالفشل.
ولننظر في المحاور الرئيسية في هذه الأفلام.
الأسطى حسن
مغامرة هذا الأسطى نموذجية. فهو يعيش بكرامة من عمله كخراط في مصنع صغير، سعيدًا مع زوجته وابنه ولكن تبدو عليه علامات عدم الرضا عن أحواله، بينما تؤجج حماته هذا الإحساس. وسيتيح له لقاؤه بالمصادفة مع سيدة أرستقراطية (التي سيتبين بعد ذلك أنها دخيلة على هذا الوسط) إمكانية تحقيق أمنيته، ألا وهي أن يصبح غنيًّا. ولا يتمكن حسن من التوفيق بين تربيته الأصيلة وبين قيم هذا الوسط الجديد، ويتكفل سكان الحي أثناء غيابه بشئون عائلته. ونتيجة لعدم التأقلم والنبذ وخيبة الأمل، يثور حسن ويعود إلى أسرته.
ريا وسكينة
في هذا الفيلم المبني على وقائع جرت فعلًا في الإسكندرية في عام ١٩٢٠م. وعلى أساس وثائق تلك الحقبة، يرسم لنا صلاح أبو سيف صورة لسيدتين مجرمتين قتلتا أكثر من ستين امرأة بعد تجريدهن من حليهن. وهذا الفيلم البوليسي الصيغة، بمطارداته وضرب النار واللكمات يعرض علينا الوسط المثير للرثاء (ماديًّا ومعنويًّا) الذي تعيش فيه المرأتان. ويتيح لنا كلٌّ من دقة تصوير الجو السائد وملاحظة السلوكيات وردود الأفعال إمكانية التعرف في هذا الفيلم على مثال نموذجي لتلك الحقبة. فالفيلم يقوم على أساس تصرفات خارقة للمألوف تقدِم عليها امرأتان ماكرتان ومتسلطتان. وصورة الرجل في هذا الفيلم قوامها الخضوع والمناورة، فيما عدا موقف الشرطي علي وجدي.
الوحش
عبد الصبور، بطل هذا الفيلم، فلاح سابق تحول إلى شيخ منسر يضغط على صغار الفلاحين ويشتري أراضيهم، ويقتلهم إذا رفضوا البيع. وهو متواطئ مع مالك أراضٍ غني متحالف هو نفسه مع حزب سياسي كبير، وهكذا يقمع هذا الفلاح السابق المنتمين إلى طبقته: عائلات هنداوي وعشماوي وسعيد. وهو يسقط في شرَك رغباته التي لا حدود لها ولا كوابح؛ مما يؤدي إلى سقوطه في يد البوليس.
شباب امرأة
مغامرة إمام، الريفي الساذج مع شفعات، المعلمة القاهرية في أحد أحياء القاهرة، يعرض لنا نوعين من أخلاقيات البرجوازية الصغيرة المصرية. وعندما يقع إمام في شباك هذه المرأة ينسى أمه تمامًا ولا يذهب لزيارة خطيبته ولا يؤدي فروضه الدينية … ووجود حسبو، عشيق شفعات السابق، شاهد على المستقبل الذي ينتظر الشاب قليل الخبرة … وتتدخل الأسرة، ويقتل حسبو شفعات، ويتحرر إمام فيتمكن من الرجوع إلى وضعه الطبيعي.
الفتوة
هريدي، ممثل الحرافيش، يصل إلى مدينة القاهرة الضخمة حيث يتعلم قوانين السوق (السن بالسن). وتتكون «وحدة» صغيرة حول حُسنة والشقيقين أبو دومة ليصح بذلك العدو رقم ١ بالنسبة لأبو زيد، ملك السوق. ولكن هريدي يتخذ نفس مسلك سلفه فينقلب على شركائه. وهو ينهي كل شيء بتمرد عام يسفر عن القضاء على كل من هريدي وأبو زيد مع سقوط صورة الملك فاروق.
ولكن هناك قادم جديد يظهر على مسرح الأحداث على غرار هريدي.
والانطباعة العامة في هذه الأفلام الخمسة متشائمة، والفكرة السائدة هي الفشل، ومع أن المخرج يحرص على أن يستتب النظام من جديد وعلى أن تكون النهاية سعيدة وفقًا لمقتضيات السوق، إلا أن الجانب الأساسي في تلك الأفلام يتناول محاولات إلحاق الصدع بالكيان الاجتماعي، وهي محاولات تتباين درجاتها وفعاليتها وإن كانت طبيعتها متشابهة، بمعنى أن مسار الشخص الذي تم اختياره لكي يتحول عن وضعه الأصلي يتخذ نفس الطريق الذي يبدأ بعدم الرضا، ثم التمرد، ثم الرجوع عنه أو الزوال.
ويرمي ضمنيًّا ذلك الفشل المتواصل إلى تحقيق الهدف الذي يريد أبو سيف أن يبلغه، ألا وهو الترابط والتضامن الاجتماعي لحي يتجسد عبر العائلات (الأسطى حسن، وشباب امرأة)، وعبر المجتمع الريفي (الوحش)، والتحالفات بين مختلف ممثلي طبقتين اجتماعيتين (الفتوة).
وتجسيد الفشل، حسب أسلوب مخرجنا، لا يقتصر على المجال المادي وحده، بل يمس أيضًا الجوانب الأخلاقية والعاطفية في عالم تتحرك فيه الشخصيات الفاعلة مدفوعة بقوة خفية قد تكون «المكتوب» أو «المصير»، أو الإرادة الإلهية.
والتحول الأول هو المسار الذي لا يبلغ الحدود القصوى لمنطقه.
وكل ما يتميز به حسن وعبد الصبور يمكن أن يجعلهما في طليعة مطلب يخص الجماعة (المشهد الأول في الأسطى حسن) أو عدم التوازن بين الطبقات (مشاهد عبد الصبور مع المالك الكبير ومع الفلاحين). وبدلًا من أن يوجهوا هجومهم نحو جذور «الشر» الذي يعانون منه (الأرستقراطية في «الأسطى حسن»، والإقطاعيون في «الوحش»، والقيم الفردية في «شباب امرأة») فإنهم ينقلبون ضد أترابهم (عزيزة وشلاطة في «الأسطى حسن»، وصغار الفلاحين الذين يمثلهم هنداوي في «الوحش» والعائلة الموسعة في «شباب امرأة»)، أو بالتحالف مع الأعداء (كوثر في «الأسطى حسن»، والباشا في «الوحش»، وشفعات في «شباب امرأة»)، وفي ذلك دليل في حد ذاته على افتقادهم الوعي وعلى انغماسهم في الفردية.
غير أن الشخصيات المنحرفة عن المسار في هذه الأفلام لا تحقق — باستثناء فيلم «الفتوة» — مشاريعها الفردية، وسرعان ما يتم انتشالها (حسن وإمام) أو يحكم عليهم النظام الاجتماعي بالموت (ريا وسكينة، والوحش).
فالخيار غير ممكن.
وتعدل الشخصيات عن رغبتها في الاستقلال والخروج على حدود الجماعة أو تموت.
ولا يتوصل أي منها إلى تحقيق مشروعها الفردي الذي خاضت من أجله صراعًا مميتًا.
وهريدي، الشخصية الرئيسية في فيلم «الفتوة»، هو الوحيد الذي تمر تجربته بمرحلتين، مما يهيئ مقدمًا للخط الذي سارت عليه أفلام التحول الثاني.
ومع أن هريدي لا ينتمي إلى الجماعة البرجوازية الصغيرة القاهرية إلا أنها سرعان ما تتقبله لأنها ترى فيه — من خلال حُسنة — محررها من أبو زيد، وتجد فيه حُسنة زوجًا لها.
وهو يتزوج الأخيرة ويحرر الجماعة فعلًا. ويقوم الزواج على الحب ويتحقق التحرر بفضل الوحدة.
ومع خلع أبو زيد، وموقف أبو دومة السلبي وزواج حُسنة — وبالتالي فقدانها حق إبداء الرأي — يجد هريدي أن الطريق أصبح ممهدًا لفرض نفوذه بشراء لقب البكوية.
وهكذا يتحول إلى أبو زيد ثانٍ وإن لم يكن مسلحًا بنفس خبرة الأول أو بصلابة عزوته.
وفي هذه الحالة يكون تحول الشخصية مصحوبًا بالصراع بين هريدي وأبو زيد. وسيتبين لنا من خلال ذلك الصراع أن النظام الاجتماعي ليس المسئول وحده عن الاضطراب، بل إن النظامين الاقتصادي والسياسي مسئولان أيضًا.
ومع ذلك لا ينفي موت أبو زيد وهريدي بقاء النظام الاجتماعي-السياسي رغم «سقوط» الملك فاروق.
وسيحل هريدي آخر بالتأكيد في السوق، وربما حل فيه أيضًا أبو زيد آخر … وتتكرر بذلك التجربة، وهو ما أطلقنا عليه تعبير «البناء الحلزوني» حيث تتصارع العناصر أو تتكامل وإن لم يكن بنفس المستوى المأساوي.
وعلى عكس أفلام تلك المجموعة، يعرض علينا فيلم «الفتوة» صورة غنية للاضطراب والهدم مؤكدًا على أنها ليست مضادة للنظام بل هي نظام حيثما لا يوجد نظام. فهذا الفيلم ينبئُنا مقدمًا في بدايته بالحاضر، وسيتخذ تحول هريدي شكل الاستحداث الإيجابي مع أنه في جوهره سلبي بشكل كامن.
فالتحول الأول يمثل أمامنا باعتباره دليلًا على «صلابة» الكيان الاجتماعي الأصلي الذي تكمن في طياته قوة قادرة على التدخل في المسار المنحرف لتوقفه وتعيده إلى البنية الاجتماعية وذلك بسماحتها بدلًا من أن تدفعه نحو حدود منطق رغباته.
غير أن الخارج على المسار سبق له أن مر بتجربة النفي، باغترابه.
الرومانسية وعدم الدقة والتفرد
قبل أن نعرض تطور التحول كما جسده هريدي الذي ينبئ مقدمًا بالمرحلة الثانية (حسنين في «بداية ونهاية»، ومحجوب في «القاهرة ٣٠»، ومُنجد في «القضية» وأحمد في «حمام الملاطيلي») تواصل مع صلاح أبو سيف رحلته لكي نبرز الخطوط الرئيسية لأيديولوجيته ابتداء من عام ١٩٥٦م.
ففشل هريدي يقابل الفشل الذي أحس به المخرج غداة هزيمة ١٩٥٦م.
ففي مواجهة أيديولوجية الضباط الأحرار غير المحددة بدقة، والقمع الممارس ضد اليسار المصري، وهو الاتجاه الذي يتعاطف معه صلاح أبو سيف بشكل سلبي، فإنه لا يواجه الأحداث ويفضل التخلص من المأزق بالتفرغ لفكر مسهب، لا لون له، وذي طابع إنساني، كما لو أن اهتماماته السابقة لم تعد قائمة.
لقد أدى كلٌّ من التواجد النشط للبرجوازية الاتجارية وللرأسمال الوطني الطفيلي داخل القطاع الاقتصادي، والتدهور المستمر لمستوى معيشة المواطن المصري المتوسط، أدى إلى انطواء أبو سيف على نفسه وغدا «غير حساس» للمسار الذي جعل منه لسان حال وجدان مصر، بعد أن كان المدافع الرئيسي عن التوازن بين القوى السياسية.
وهذا التجاهل لدعوات القوة السياسية والاحتماء «بالإنسانية التي لا لون لها» التي تزخر بها روايات إحسان عبد القدوس، لا يزال غير مفهوم موضوعيًّا، إذا ما تركنا جانبًا التفسيرات المغرضة لبعض النقاد المصريين والعرب.
ولكن حتى إذا رفض صلاح أبو سيف أن ينظر إلى تلك الحقبة كما هي، ولو على صعيد الخطاب الصريح، إلا أن الاهتمامات البرجوازية التي تهيمن عليها (أي على تلك الحقبة) هي بمثابة تجاهل وإنكار لواقع مصر الخاص في وقت كان يحتاج فيه هذا الواقع إلى مواهب مخرج من هذا الطراز.
وإلى جانب العوامل الاقتصادية فإن هذا التحول يمكن تفسيره بعواقب العدوان الثلاثي وظهور المعسكر العربي وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة في سنة ١٩٥٨م.
والانتقال من بولاق إلى الزمالك ليس علامة على التبرجز، بل علامة بالأحرى على انهزام التيار الواقعي في السينما المصرية.
فالتغير الداخلي الذي شهدته القومية المصرية، وتواجد البرجوازية الكبيرة وعدد كبير من العسكريين والوفديين القدامى في مجلس الأمة في عام ١٩٥٦م، والتنازلات المتبادلة بين الرأسمالية المصرية والسلطة الوطنية (تعيين عزيز صدقي في وزارة الصناعة، مع تواجد عبد اللطيف بغدادي الداعي الكبير للطريق الرأسمالي)، كان كل ذلك بالنسبة لصلاح أبو سيف علامات على معاداة الديمقراطية التي تأكدت في عام ١٩٥٩م مع قمع اليسار المصري.
ومن المعروف أن الحكومة التي أممت البنوك والقطاعات الهامة في الاقتصاد الوطني، تركت للرأسمال المصري مخرجًا عن طريق الصناعة الخفيفة الذي يضم قطاع السينما، إلى جانب قطاعات أخرى. وكان يتعين على مصر، مركز القومية العربية، أن تحاور وتساوم الدول العربية الأخرى. وهذا الحوار يستبعد أي تمايز حتى يكون توحيديًّا.
والعقلية التجارية لا تتحدث من جهتها لغة متميزة، وتتمثل كفاءتها في إزالة الحدود الثقافية. وهكذا استأثرت السينما المصرية، المعتمدة على خبرتها الطويلة، بالمنتج الأقل تمايزًا والأكثر قدرة على البيع. والرومانسية المتزلفة والعاطفية الساذجة والفراغ الذهني من السمات الواضحة في روايات إحسان عبد القدوس.
وكل أعمال صلاح أبو سيف من عام ١٩٥٦م إلى عام ١٩٦٠م، وهي «الوسادة الخالية»، و«لا أنام»، و«الطريق المسدود»، و«هذا هو الحب»، و«أنا حرة»، تعتمد على المعالجة السينمائية لروايات إحسان عبد القدوس. وفيما عدا «مجرم في إجازة»، المقتبس من فيلم لجوزيف لوزاي، تسيطر على كافة تلك الأفلام رومانسيةٌ تصيب بالبله ويتناقض مغزاها السياسي مع توجهات الحقبة السابقة.
فبينما كانت تلك الحقبة السابقة تتمحور حول ظاهرة الصعود الاجتماعي المتعدد الأبعاد، انغمست الحقبة التالية في بواعث وتأملات أنثوية ذات أبعاد تقليدية.
وهذا العامل قد يكون له قدر من الأهمية من الناحية الاجتماعية نظرًا للوضع الاجتماعي المتدني للمرأة في مصر، وهو الأمر الذي عبر عنه بكل روعة فيلم سعيد مرزوق «أريد حلًّا». بيد أننا لا نجد في تلك الأفلام بوجه عام سوى أنماط معينة من طبقة اجتماعية محددة بدقة لا تتجاوز مشاغلها حدود المشاكل العاطفية.
وهناك أيضًا التفسير الاقتصادي لتوجه صلاح أبو سيف نحو إخراج تلك الأعمال. لقد حصلت أفلامه على جوائز عالمية في مهرجانَي برلين وكان وغيرهما من المهرجانات في مختلف أنحاء العالم، غير أنها كانت لا توزع في مصر والعالم العربي. ولولا تدخُّل عبد الناصر شخصيًّا لما عرض فيلم «شباب امرأة» أبدًا في مهرجان كان؛ لأن الرقابة في مصر وكذلك الموزعين خارجها كانوا يعتبرونه في تلك الفترة من «الأفلام التي تسيء إلى سمعة مصر».
وكان المَنفذ الوحيد أمام صلاح أبو سيف للتخلص من هذا الحصار وكسب جماهير أخرى لكي توفر أفلامه مردودًا يتيح إنتاج أفلام أخرى، هو اللجوء إلى رؤية مختلفة تتجنب أي خصائص نوعية للصورة وتقدم صورة أخرى للمتفرجين المصريين والأجانب (العرب) يمكنهم أن يتعرفوا من خلالها على هويتهم. والجمع بين إرادة الوحدة والروح التجارية، يمكن أن يفسر هذا الفيض من الأفلام الوردية التي تتغاضى عن واقع بولاق وتؤكد وتستعرض بذخ الزمالك وثراءها، جنبًا إلى جنب مآسي البرجوازية المصرية الخاصة.
وتتبدى تلك المآسي من خلال مواضيع مستهلكة خيالها عقيم، منها مثلًا النزاع بين الأجيال، وتغير الأخلاقيات، والمشاكل العاطفية، وجميعها قضايا تخص بلا استثناء الفتاة أو المرأة.
وقد كتب أبو سيف يقول: «ليس هناك من يعرف كيف يصف متاعب المرأة العربية مثل عبد القدوس …» وقد يكون ذلك صحيحًا على الصعيد الروائي، وإن كان غير مؤكد حسب قراءة غالي شكري، ولكن النتيجة عكسية على أي حال على الصعيد السينمائي.
فما هو الفارق في الكتابة بين صورة جانيت لي في «الجواسيس يخرجون» أو شيرلي جونز في «الحب في أبريل»، وبين صورة مريم فخر الدين في «لا أنام»، أو لبنى عبد العزيز في «الوسادة الخالية»؟
الفارق الوحيد أن الأخيرتين تتكلمان بالعامية العربية وتذكران أحياء القاهرة أو لديهما أقارب يضعون الطربوش فوق لرأس. وفيما عدا ذلك فإن التشابه يصل إلى حد محاكاة أوضاع الأجسام في كادر الكاميرا.
ولقد سبق لأبو سيف أن جسَّد إشكالية متاعب المرأة العربية في فيلم «شباب امرأة» من خلال الوصف الموفق لنهم شفعات الجنسي المصحوب بالقلق وبالعواقب الاجتماعية المترتبة عليه.
وإذا كان اهتمام المخرج بمشاكل المرأة الجنسية مسألة مشروعة ومرغوبة، إلا أنه يتعين أن نلاحظ أن عرضها على شاشة السينما الذي يسَّره قلم إحسان عبد القدوس الصحفي، أفقدها مزاياها الخاصة وحولها إلى عبارات لا لون لها، غارقة في إطار هوليودي. لقد تحول صلاح أبو سيف في هذه المرحلة من مخرج أفلام «مسيئة لسمعة مصر» رغم كونها تميزه إلى «صانع أفلام» حسب التعبير الأمريكي، أو إلى «مخرج شباك»، حسب رأي المصريين.
فبالرغم من الدقة الشديدة في تحديد ملامح الشخصيات والالتزام التام بقواعد التطور السيكولوجي للأبطال، إلا أن مما خيب آمالنا أن أبو سيف قدم لنا الكفاح الوطني في «لا تطفئ الشمس» بشكل تقليدي وجعله مجرد إطار عام تقتصر وظيفته على تحديد موقع الأحداث، بالرغم من أن الكفاح الوطني لم يكن مجرد ديكور.
وإذا كانت روايات إحسان عبد القدوس تتضمن عنصرًا هامًّا، ألا وهو الجنس، الضروري في كل عمل تجاري أو فني، وهو عنصر له أيضًا أهميته العضوية لأن محوره هو أزمة الفتاة العربية، إلا أن هذه «الأزمة» غارقة في جو مهدئ ومخدر.
ولقد سبق أن أكدنا أن هذا الاهتمام الذي يوليه أبو سيف لتلك القضية يستحق الثناء، غير أننا نلاحظ أن هذه الأزمة والعوامل التي تولدها ليست موضوعية على الإطلاق.
ولنأخذ مثلًا فيلم «الوسادة الخالية». لقد جاء في أعقاب «الفتوة» فكان بمثابة ارتداد حتى وإن كان سعد الدين توفيق يعتبر القبلة التي تبادلها بطلا الفيلم «أحسن قبلة في كل الأفلام المصرية».
فما معنى عذابات عبد الحليم حافظ العاطفية أمام الانعكاس الهوليودي الباهت المتمثل في لبنى عبد العزيز (المستلقية على سريرها الفاخر وهي تكلم حبيبها في التليفون وتهز ساقيها)؟ يكفي أن نعرف في هذا الصدد المصاعب التي يتكبدها المرء لكي يستخدم التليفون في القاهرة لكي يكون من حقه أن يتساءل، كما تساءل محمود السعدني، في أي بلد تجري أحداث هذا الفيلم؟
وفي أي خانة يمكن أن ندرج موضوع فيلم «رسالة من امرأة مجهولة»، ونحن نشهد سيل دموع فريد الأطرش التي سببتها سلسلة من الوقائع لا تستحق حتى أن تُروى لفرط سذاجتها.
وبقية أفلام هذه الحقبة (باستثناء «بين السماء والأرض»، و«لا وقت للحب») تنتمي إلى نفس الفصيلة المشوهة للواقع والقليلة الأهمية اللهم إلا لدقتها التقنية في تسجيل الأغاني ورسم الملامح والشكل الجديد للفيلم الموسيقي في تاريخ السينما الموسيقية المصرية.
ولقد تحدثنا عن ذلك الأسلوب الصحفي والسينمائي المأخوذ نصًّا عن رواية البنات والصيف، وإليكم مقتطفًا منه:
وهي لا تنظر إلى المرأة. إنها لا تريد أن تنظر إلى المرأة … وتلفتت حولها، ثم مدت يدها وانتزعت من فوق المشجب سترة بيجامة وارتدتها … ووقفت تلهث … كأنها تستجمع أنفاسها، ثم مدت يدها تساوي بها خصلات شعرها دون أن تنظر إلى المرآة …
إنها لا تريد أن تنظر إلى المرآة …
ونادته.
ولمحت خياله يقترب من وراء زجاج الباب السميك … قوامه الممشوق … وعضلاته. ثم لمحت أكرة الباب وهي تتحرك.
إنه يقترب منها.
ونظرته تنصبُّ عليها وفيها شقاوة الصبيان …
ولكنه يقترب ببطء …
وقبل أن يصل إليها … ألقت بنفسها فوقه … وألقت بشفتيها فوق شفتيه … إنها لم تعد تستطيع أن تنتظر … وقالت: قبلني. قبلني مرة أخرى … قبلني أكثر … دعني أقبلك.
وأحست بعضلات ذراعيه تضغطانها بقسوة … وهي تريد مزيدًا من القسوة (البنات والصيف، طبعة ١٩٧٧م، ص١١١).
ولا يقتصر مغزى هذه الفقرة على بنيتها السينمائية (خلع القميص، والتقاط البيجاما، وإزاحة خصلة الشعر، وقبضة الباب، والزجاج السميك ثم المرآة، والنظرات البائسة، والقبلة، وقوة العضلات …) بل يشمل أيضًا الحوار البارع والكبت الجنسي الذي يحيلنا إلى الفراغ الذهني، الذي نصادفه عند حسنين (بداية ونهاية) ومحجوب (القاهرة ٣٠).
لقد أصبحت أزمة المرأة العربية التي نجح إحسان عبد القدوس في تعميمها، أصبحت من خلال التفرقة بينها وبين أسبابها الاجتماعية والسياسية، دافعًا لاستعراض شهواني ليست له أي تحديدات ثقافية سوى أسماء الأشخاص والأماكن، حسب التفاصيل التي يوردها أي كاتب من هذا الطراز وفقًا للبدل الذي ينتمي إليه.
والتحديد الثقافي، الموجود بوفرة في الأفلام السابقة غائب بشكل ملحوظ في «لا أنام»، حيث نجد حالة فاتن حمامة المرضية المتولدة ذاتيًّا. فلا أثر للشارع المصري في هذا الفيلم بالرغم من حظر نشاط الأحزاب واعتقال ٢٠ ألف شخص وقيام الجمهورية العربية المتحدة. فالبيوت جميلة وكذلك الحمامات، والسيارات رائعة وكذلك النزهات على البلاجات حيث الأجسام الواردة مباشرة من الصناعة الهليودية، مستلقية، ولكن مع فترة سماح تبلغ عشرين سنة كما أوضح سعد الدين توفيق.
وعلى أي حال فإن إحسان عبد القدوس يعترف هو نفسه بأن ما يهمه في السينما هو «البيع والحصول على حقوقه». فمنذ ١٩٥٦-١٩٥٧م أصبح جانب كبير من الأفلام مقتبسًا من رواياته. وهذه الظاهرة التي شارك فيها صلاح أبو سيف حتى عام ١٩٧٦م بفيلمه الشهير «وسقطت في بحر العسل» بطولة وإنتاج نجمة الإغراء نبيلة عبيد، يفسرها ما يمكن أن نستخلصه مما صرح به إحسان عبد القدوس الذي قال إن رواياته ما كانت تجتذب الأنظار أو تثير الاستنكارات حتى قيام ثورة يوليو، وإن مقالاته ومواقفه السياسية التي مهدت للثورة هي التي كانت ملفتة للأنظار. أما الآن «وقد انتهت الثورة واستقرت الأوضاع السياسية»، على حد قوله، فقد طغت رواياته على مقالاته السياسية وفوجئ بتوافد المنتجين السينمائيين عليه وبإصرارهم على اقتباس الروايات التي كان يكتبها وسيكتبها أو تلك التي سبق أن كتبها منذ عدة سنوات.
ومما لا شك فيه أن إعلانه عن «انتهاء الثورة واستقرار الأوضاع»، يعني أن الانقلاب العسكري اكتسب وضعًا دستوريًّا. فالتحرير السياسي للفلاحين مع ضمان الامتيازات الاقتصادية لأصحاب الأراضي، وتنظيم العلاقة بين أرباب العمل والعمال مع التأكيد على قدرة الرأسمال الوطني على تحويل مصر من بلد زراعي إلى بلد صناعي متقدم، إنما يدل على النظرة الإصلاحية والشعبوية للنظام القائم في مصر. وقد انعكس هذا الاستقرار الزائف المصحوب بقمع القوى الوطنية التقدمية على السينما بانبثاق الخطاب الرومانسي المدعي التحرير زورًا، والذي تجلى في فيلم «أنا حرة»، إخراج صلاح أبو سيف، وقصة إحسان عبد القدوس. وهذا الالتقاء بين الخلفية الجنسية والخطاب الرومانتيكي الصريح و«الفردي» ضمنيًّا يكشف عن الأزمة الحقيقية التي يعانيها التكوين الاجتماعي للشاب المصري والشابة المصرية. وقد قال بهذا الصدد أنطونيو جرامسي، المنظِّر والسياسي الإيطالي الشهير: «كل أزمة قهر أحادية الجانب في المجال الجنسي تؤدي إلى «خلل» رومانتيكي يمكن أن يتفاقم مع إلغاء البغاء المشروع أو المنظم.»
وترمي أفلام صلاح أبو سيف وعاطف سالم وكذلك أفلام حسن الإمام المنصبَّة على «الرومانسية» إلى تنظيم المسألة الجنسية لا من خلال طبقة منخرطة في عمليات الإنتاج، ولكن عن طريق أنماط تنتمي إلى طبقات راسخة الأقدام في دورة الاستهلاك (البرجوازية الكبيرة، الأرستقراطية … إلخ). ونتيجة لذلك يتحول العامل الأيديولوجي إلى عامل «انتكاس» ما دامت مظاهر الأزمة الجنسية غدت محصورة فقط في مجال الاستهلاك. ويخلق ذلك ما يسميه «القاع المزدوج»؛ أي التناقض بين الأيديولوجية الشفوية (الخاصة بالأفلام) والممارسة الحقيقية (الخاصة بالجماهير الشعبية المشاركة في العمل المنتج). وفي ظل عدم الوضوح السياسي والأيديولوجي ظلت روح الميثاق الوطني مرتبطة بأسطورة «حلول الريس محل سعد زغلول»، بينما بقي دور الشعب كما هو دائمًا.
وقد ألصق بعض النقاد صفة «البرجوازية» بهذه الأفلام باعتبارها متناقضة مع المتطلبات الملحة لتلك المرحلة.
وتبرز من هذا التناقض حقيقة محددة. فقد اختفت الدعوة إلى الترابط والوحدة وسط البرجوازية الصغيرة والجماهير الشعبية، والتي جاءت في أفلام سنوات ١٩٥٠–١٩٥٦م، وحل محلها خطاب مأساوي مسطح ومرتد سياسيًّا.
ولكن كيف تمكنت مثل هذه الأفلام من تحقيق ذلك النجاح الكبير لدى الجمهور المصري والعربي العريض؟
والرد على هذا السؤال يرجع عمومًا إلى سوسيولوجيا العروض في بلدٍ منتمٍ إلى العالم الثالث مثل مصر، كما أنه يرجع أيضًا إلى المهمة التي توكلها السلطات إلى العروض، وكذلك إلى تكوين الجمهور الذي يتردد على تلك العروض وانتماءاته.
ومن المؤسف أن الصحافة المصرية المتخصصة في هذا المجال فقيرة للغاية بهذا الخصوص. وإذا تركنا جانبًا بعض المقالات السطحية أو دراسة عبد المنعم سعد الأكاديمية المعنونة «السينما والشعب»، فمن الصعب الحصول على تقييم سوسيولوجي لنوع الجمهور الذي يتردد على دور العرض السينمائي.
ثم إنه يتعين أن ندرس أسطورة النجوم التي تحرص على الترويج لها مجلات مثل الكواكب والمصور والإذاعة وحاليًّا الشبكة … إلخ، وكل صحافة الإثارة وكذلك الفيلم الموسيقي المتمحور حول الأغاني، والذي شارك فيه أيضًا صلاح أبو سيف. وهناك أولًا تطور ملحوظ جاءت به الدولة بعد عام ١٩٥٢م، ومنه زيادة القدرة الشرائية، وتدفق أعداد كبيرة من الأيدي العاملة إلى المدن، وظهور طبقة جديدة مكونة من عسكريين يتولون مناصب رئاسية في أجهزة الدولة والمؤسسات الاقتصادية العامة. وقد أفرزت كل هذه التغيرات جمهورًا عريضًا يعشق الأفلام الوردية التي يسود فيها الصعود الاجتماعي وتكون العقبات فيها معنوية أكثر مما هي سياسية أو طبقية، وحيث تتجلى صورة النجاح الفوري عن طريق الإسهاب في عرض تاريخ حياة نجوم الغناء، وزيجاتهم وطلاقاتهم، ومشاكلهم العاطفية، ولكن دون التطرُّق — كما لاحظ برتولد بريخت — لأجورهم أو مواقفهم السياسية. فبعد أن كان محمد عبد الوهاب يغني بالأمس «ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال»، أصبح يغني من أجل الثورة والسلام.
وفي ظل تلك الأوضاع يصبح النجم السينمائي مرآة ترى فيها الطبقة الجديدة المتبرجزة صورتها. ثم إن قيام جمهورية مصر العربية والموقع الطليعي الذي تتبوءُه سواء على صعيد القومية العربية أو على صعيد مركزها الاستراتيجي يستدعي بالضرورة أن تصدر عنها إنجازات ثقافية وفنية من بينها السينما التي تتميز بأهميتها على الصعيد الجماهيري. ولكي تتاح لهذا الإنتاج الثقافي إمكانية نشره في البلاد العربية الأخرى، وتحقق حلم طلعت حرب القديم، يتعين أن يورد أقل قدر من الحقائق الاجتماعية والسياسية. وفيما عدا موضوع التحرر الوطني الذي لم يعالج بشكل جيد (ومثال ذلك فيلم «مصطفى كامل»، إخراج أحمد بدرخان) فإن المجال الوحيد الذي يمكن أن تتفق عليه البرجوازيات والدول العربية هو ما توفره الأغنية وأسطورة النجمة. فالأغنية مرتبطة بصناعة الأسطوانات ومحطات الإذاعة، والنجمة تقدم الأحلام، منبع التقمص والهروب من الواقع. وقد عرفنا موزعين أدخلوا أغاني على أفلام لم تكن بها أصلًا، وتعاقدوا على أفلام من أجل مطربات معينات، أو مطربات يتعاقدن على أفلام مع تعديل المونتاج إذا لم يرُق لهن.
وفي ظل هذا المناخ تكون الهيمنة للهروب وحده. وعلى جمهور المتفرجين أن يكتفي بهذه الحياة السعيدة المفترضة التي تقضي على أي بادرة نقد أو وعي. وهذا ما دفع سيدة لأن تقول بعد أن رأت فيلم «درب المهابيل» لتوفيق صالح: «فيلم واقعي؟ ما لي أنا والواقعية، أنا أحياها كل يوم.»
وعليه، يجب ألا ندهش عندما نجد أن متوسط مدة عرض الفيلم المصري تبلغ ساعتين. وعلى سبيل المثال فإن فيلم «لا تطفئ الشمس» لأبو سيف مدته ساعتان ونصف ساعة.
وعليه أيضًا تعتبر الأزمة الجنسية عند المرأة العربية الدجاجة التي تضع بيضًا من الذهب، ويريد المنتجون والموزعون أن تعيش تلك الدجاجة خارج العالم المحيط بها، بينما يرى غالي شكري أن هذه الأزمة أزمة فكرية بل وأزمة غياب الفكر، تنعكس على فن التعبير الأدبي وتعلق المحاور الرئيسية للمشاكل في الفراغ وتحول المشكلة الجنسية إلى قضية لا تثير مخاوف النظم السياسية.
وفي اعتقادنا أن صلاح أبو سيف تخلى عن مهمته؛ ألا وهي تحويل السينما إلى أداة لبث الوعي ووضع أسس السينما الوطنية، وذلك بقيامه بإخراج الأفلام المقتبسة من روايات إحسان عبد القدوس.
وتظل أمامنا أفلام مثل «بين السماء والأرض»، و«لا وقت للحب». ففي هذين الفيلمين، استعاد مخرجنا رؤى سنوات ١٩٥٠–١٩٥٦م، ولكن بمزيد من الأستاذية.
ولا يمكن إغفال إسهام الفيلم الأول من الناحية الاجتماعية. وهو يعتبر إنجازًا هامًّا على الصعيد السينمائي بإخراجه طوال ٨٥ دقيقة في حدود الحيز الضيق لمصعد. ففي هذا الفيلم قدم صلاح أبو سيف مع نجيب محفوظ رؤية للموت والزمن والحياة عن طريق تكدس مجموعة من الأفراد جمعهم المصعد لأسباب متباينة.
وهذا الفيلم الخالي من الحركة والقائم على الإشارة يعتمد أساسًا على تحليل سلوكيات أنماط اجتماعية مختلفة. ونحس فيه رقة مشاعر ابن البلد الذي يواجه الوضع في اللحظات الفاجعة بالدعابة (مشهد البواب الذي يبحث عن المهندس وسط متابعي مباراة في كرة القدم أو مشهد البوابين الذين يرفضون أن يشارك زملاؤهم في عملية الإنقاذ لأن هؤلاء لم يسمحوا لهم من قبل بمشاهدة جنود المطافئ أثناء حريق … إلخ). ويبرز هذا الظرف في بداية الفيلم ونهايته (زير نساء أعلن توبته، يعود من جديد إلى عاداته السابقة) وكذلك هذا التجمع من مختلف النوعيات الذي يتميز كل فرد فيه بسلوك خاص (الخادم العائد إلى بيت سيده، ورئيس مجلس الإدارة، والنجمة السينمائية التي جاءت لتصوير أحد مشاهد فيلمها، والشاب الذي يريد أن ينتحر وزوج بصحبة زوجته الحامل، والمجنون الذي هرب من المستشفى.)
وهذه الدلالات البسيطة المصحوبة ببنية مزدوجة معتمدة على التناقض بين مبدأين (الطيب/الشرير، الغنى/الفقير، المجنون/العاقل، الشرفاء/اللصوص، المتقدم في السن/المولود الجديد … إلخ) لم تقلل أبدًا في قيمة التعليقات. ففي فيلم من هذا النوع يسهم تبسيط الطباع على العكس في جعل الوضع مناسبًا بقدر أكبر.
ونصادف، إلى جانب ذلك التبسيط بعض المحسنات في تكوين الشخصيات والمواقف في الفيلم الثاني. فهذا الفيلم المأخوذ عن «قصة حب» ليوسف إدريس، يشيد بذكاء الشعب المصري وفطنته من خلال تقديمه المساعدة لشاب مشارك في مقاومة الاحتلال البريطاني.
ورغم أن النسيج الرئيس للفيلم تقليدي، كما هو الحال في الكثير من الأفلام الوطنية، إلا أننا نلاحظ عنصرين مهمين في تقييم هذا العمل من الناحيتين الاجتماعية والسياسية.
-
(١)
يؤكد الفيلم، بغضِّ النظر عن أداء فاتن حمامة وصلاح جاهين المتثاقل، يؤكد الدور الهام المنوط بالمرأة في الأطروحة التي تجسدها حُسنة في فيلم «الفتوة». فإسهام المرأة في النضال من أجل التحرر الوطني يظل حاسمًا رغم أنه يرجع إلى أسباب عاطفية. فقد أثبتت هذه المرأة — دون تعمد من جانبها — قدراتها النضالية وأنها لم تخلق فقط للقيام بالأعمال المنزلية وإنجاب الأطفال. وفضلًا عن ذلك فقد واصل أبو سيف تقديم نموذج علي طه (القاهرة ٣٠) ليؤكد من جديد أن الثوري المحب يمكن أن يكون أكثر فعالية من الثوري المتزمت. وتلك هي المرة الأولى التي يقدم فيها فيلمًا تقوم فيه شخصية نسائية إيجابية بدور بارز.
-
(٢)
على عكس الأعمال الأخرى التي تبدأ بمواقف جماعية، يستهل هذا الفيلم بمواقف شخصية — لأن الإنجليز حطموا شبكة المقاومة — لينتهي بمقاومة سلبية جميلة لا تقل فعالية عن المقاومة الإيجابية، حيث يبادر التراث الشعبي بالعمل لإنقاذ العناصر المتقدمة من طليعة مناضلة.
لقد حرَّف صلاح أبو سيف كلمات الأغنية الشعبية «يا وابور يا مولع حط الفحم» فواصَل بذلك مساعيه التي أقدم عليها من قبل في فيلمَي «الفتوة» (مشهد الموال) و«بداية ونهاية» (المشهد الأخير) فأشار بذلك إلى الاتجاه الذي يمكن أن يسلكه السينمائيون الشباب في أعمالهم. ولا يعني ذلك أن هذا الاتجاه يخلو من المفاجآت الخطرة، كما يوضح ذلك تمامًا فيلم «شيء من الخوف»، إخراج حسين كمال.
وهناك أفلام أخرى، خلاف تلك التي تم تحليلها هنا، لها قدر من الأهمية مثل إسكتش ثلاث نساء الذي ينتقد استحضار الأرواح، ولكننا بعيدون هنا للغاية عن فليني.
وفيلم «الكذاب» المقتبس من رواية من الدرجة الثانية يعتبر أول عمل سينمائي مصري يتصدى لمشكلة اختلاس أموال القطاع العام. وهو دفاع لاذع عن ثورة يوليو في فترة سادت فيها عملية تصفية الناصرية.
أما الشيء الذي لم يكن متوقعًا أبدًا في رأينا؛ فهو مشاركة صلاح أبو سيف في إخراج فيلم جماعي، فريد من نوعه، ألا وهو «سنة أولى حب» المقتبس من رواية لمصطفى أمين. يؤكد الفيلم أن الشاغل الرئيسي للطبقة السياسية في الثلاثينيات لم يكن الاستعمار أو الدستور بل المعركة بين السراي والوفد بخصوص علاقة غرامية بين مصطفى النحاس وسيدة أرستقراطية. وهذا الفيلم الذي تم إخراجه بعد «ثورة التصحيح» يمثل بكل وضوح تحريفًا لتاريخ مصر — في اتجاه فيلم «أولاد الذوات» ليوسف وهبي — تحت قيادة مدير صحيفة الأخبار وحلمي رفلة. ولن نتعرض لفيلم «وسقطت في بحر من العسل» الذي يفصح تمامًا عنوانه عن محتواه.
وجميع هذه الأفلام تخرج عن الخط العام لصلاح أبو سيف أو تقدمه بشكل تقليدي يتمشى مع السينما الغربية المهيمنة.
غير أن ذلك لا يخص مجموع أعماله. ويقتفي بعض هذه الأفلام التي تم إخراجها في تلك الحقبة أثار ظاهرة الخروج على النظام الطبيعي مع التحكم في آلياتها الداخلية وآفاق تطورها.