التحول الثاني
تعرفنا في القسم السابق على المسار الذي تسلكه الشخصية النمطية عند صلاح أبو سيف، أو بشكل أدق ردود فعل الجماعة الاجتماعية في مجموعها إزاء ذلك المسار.
فإذا كان هناك تعارض بين معطيات «القائم بالتحول» والجماعة الأساسية، فإن ذلك التعارض كان لا يسفر عن فقدان للتوازن، بل ينتهي بصفة عامة باتجاه إلغاء «التحول»، مع الأخذ في عين الاعتبار حدود المجال الاجتماعي، ورفض التهادن الطبقي، واسترجاع الخارج عن المسار.
وقد أشرنا إلى الكيفية التي يتعقد معها الخلل في فيلم «الفتوة» ويتعمق من خلال تعرية النظام الاجتماعي والسياسي، وكيف يصبح التحول مظهرًا للتحديث.
وأفلام هذا القسم تتخذ من فيلم «الفتوة» نموذجًا مبدئيًّا بالتأكيد على النقطتين الآتيتين:
(١) من الأسباب الأولى لحدوث الخلل، ألا يجد الشخص الذي لديه أصلًا استعداد للتحول استجابة لرغباته في بيئته الطبيعية؛ فهو لا يجد الوضع الذي يتيح الفرصة لإشباع رغباته، بل ولا يجد الموضوع الذي تتوفر فيه الاستعدادات لتقديم إجابات إيجابية. ويتعين أن نلاحظ أن تلك الرغبات لا نهائية، بصرف النظر عن تقدير مدى مشروعيتها وطبيعتها وأسباب وكيفية ظهورها. وهذه اللانهائية ملتبسة عند حسنين (بداية ونهاية) وتكاد تكون جزءًا من كيانه، ولكنها متعددة الجوانب ومحددة بدقة عند محجوب (القاهرة الجديدة) وقصيرة الأجل وجلية وعميقة عند أحمد (حمام الملاطيلي).
ويعود ظهور اللانهائية على هذا المنوال إلى أنَّا لا تصادف إلا الفراغ أو غياب المستجيب (الفقر في كل الحالات وغياب مركز له السلطة؛ ووفاة الأب في «بداية ونهاية»؛ ومرض الأب في «القاهرة ٣٠»، وتقاعد الأب وعجزه في «حمام الملاطيلي» — أو عدم الاستقرار نتيجة للانتقال من وسط إلى وسط آخر: من شقة إلى قبو منزل بمصر الجديدة في «بداية ونهاية»، ومن أقاصي البلاد إلى العاصمة، ومن الجامعة إلى الحياة الاجتماعية في «القاهرة ٣٠» وفي «حمام الملاطيلي».)
ويثير ذلك الغياب لدى الموعود بالانحراف تصرفات جزئية وفردية ومجزأة. ويبدو أن تلك التصرفات تبغي استعادة قوة داخلية تتعلق دائمًا بالأنا وترفض أي مشاركة.
وعليه فإن ملاحظة حركة التفرد تتجلى بكامل أبعادها وبلا شريك.
وعلى عكس حسن أو إمام، لن يجد حسنين الرد لدى الطبقة البرجوازية (التقدم بطلب يد ابنة يسري بك)، ولن يتزوج محجوب من إحسان إلا للفوز بحظوة الوزير الذي لا يتفضل حتى بالاهتمام بالتحدث معه (المشهد مع الوزير)، واللقاء بين أحمد والمصور سيُبرز الطريق الذي يجب أن يقطعه بطلنا لكي يحظى بقبول الآخرين. وعندئذٍ سيشعر حسنين بالإهانة فهو لا يزال محتفظًا بكبريائه. وسيصب محجوب جام غضبه على إحسان، أما أحمد فسيكتب إلى أمه: «القاهرة أغلقت كل أبوابها أمامي …»
ولا نجد تهادنا في تلك الأفلام الثلاثة، بل إتمامًا للتحول في الاتجاه الذي تصوره هريدي مقدمًا، فنستشف على الفور فشل مشروع التفرد. وسيتحقق هذا الفشل بطريقتين: الانتحار (حسنين) أو الطرد والانسحاب (محجوب وأحمد).
ومن رأينا أن ذلك التراجع أو الفشل الناجم عن غياب الضامن يرجع إلى سبب رئيسي.
فبالإضافة إلى ذلك الكم اللانهائي من الرغبات الذي يجعل المرشح للقيام بالتحول مستغرقًا في مشروعه للتفرد، هناك إلى جانب ذلك حقيقة أخرى وهي أن هؤلاء الأشخاص يصبحون مركز التقاء لآمال وإخفاقات الآخرين، والبؤرة التي تتجمع فيها المعلومات المتعلقة بالجماعة (الأسرة، الحي، العمل، المجتمع … إلخ.)، علمًا بأن حالة حسنين تختلف عن ذلك إلى حد ما.
-
(أ)
فأهل محجوب، وكذلك أهل إحسان وأحمد، يأملون في أن يتحقق على أيدي أبنائهم ما لم يتمكنوا هم من التوصل إليه: تقلُّد وظيفة في إحدى إدارات الدولة مع الحصول على مرتب ثابت (مصدر السعادة، كما يتبين لنا من توصيات إخوة وأخوات أحمد ووالديه)، أو الارتباط بأحد أجهزة الدولة، مما يمكنهم من الاستفادة من النفوذ (ضغوط والدَي إحسان لتوافق على «الزواج من وزير» … إلخ.)
-
(ب)
تصبح المهمة التي يتعين على المعنيين أن يؤدوها مثقلة بما يحدث للجماعة المنتمين إليها. وهكذا نحاط علمًا في حالتَي أحمد ومحجوب، بالتطورات التي عانت منها عائلتاهما بعد أن وقعا في دوامة مشاريع التفرد أو الضياع (أحمد).
وفيما يتعلق بمحجوب، يجب أن نضع في اعتبارنا تعارضه مع أحمد بدير وعلي طه اللذين يطغى عليهما دائمًا ماضيهما وحاضرهما وتجربة محجوب السابقة، وكأنهما الحجر الثقيل الذي يغوص به في كل لحظة إلى أعماق مأساته ويمنعه من الانطلاق.
وتبقى حالتا «بداية ونهاية»، و«القضية»، وفيها نواجه حركة دينامية متعددة الجوانب تنساب من شخص إلى آخر وتبرز شخصية على حساب شخصية أخرى … فهناك درجات في التعاسة.
ويستحيل تقدير مسيرة حسنين دون المرور بمسيرة حسن ونفيسة ونينة من جانب، ونينة وحسين من جانب آخر. وفيما يتعلق من جهة أخرى بمحجوب في «القضية»، يحدث فقدان للتوازن بين فريقَي عبده وسعدون ويلغي أحيانًا أحدهما الآخر بالتبادل لكي تتأكد في النهاية شرعية فريق عبده بالنتيجة السلبية. وتتركز تلك الآثار والتوازنات على مُنجد، وتؤثر على تصرفاته ونظرته لعلاقات الجوار وبالتالي على المصير النهائي لأهل الحي.
وتحول تلك التأثيرات الأفراد من ذوي المشاكل إلى التوصل إلى الترابط. ويتمثل الفاصل بين التحول الأول والثاني في مدى ترابط جمع يسعى من خلاله الفرد إلى الجماعة الاجتماعية.
ففي التحول الثاني يموت الخارج على المسار الطبيعي بعد أن يكون قد وصل إلى حدود مشروعة، وهي الحدود القصوى التي تلقي الضوء ساطعًا على تفكك الجماعة الاجتماعية وتؤدي في الوقت نفسه إلى نجاح التصرف المؤدي إلى انفراط النظام، بينما يكون الوضع مختلفًا مع التحول الأول.
السعي إلى الترابط والوحدة
السعي إلى الترابط والوحدة يطرح نفسه كمناقض للتصرف المناهض للنظام الطبيعي. ويتم التعبير عن ذلك المسعى إما بوضوح وفي صلب الفيلم كما هو الحال في فيلم «الأسطى حسن» (شلاطة وبيومي) و«الفتوة» (حُسنة)، و«بداية ونهاية» (نينة) أو علي طه في «القاهرة الجديدة»؛ وإما من خلال ما تميل إليه الشخصيات أو العناصر الاجتماعية المؤثرة عليهم، ومثال ذلك الروح الجماعية في فيلم «القضية»، والعمارة الإسلامية في فيلم «حمام الملاطيلي».
والخروج على النظام الطبيعي نتاج للتكدس الحضري العاجز عن تلبية الرغبات اللانهائية المترسبة في صميم قلب المنحرف أو المترتبة على استعداد مسبق متأصل في ذلك القلب المضطرب. وتتولد عن ذلك الخروج على النظام الطبيعي سلوكيات هامشية وروتينية مثل حسن (الأسطى حسن) وحسن ونفيسة (بداية ونهاية) أو مبتكرة مجددة مثل هريدي وحسنين والعربجي (القضية)… إلخ. ويستفيد ذلك التهمش من الاستعدادات المسبقة لدى الفرد، ومن انغلاق الإطار الاجتماعي على نفسه. وفي ظل تلك الظروف يكون التصرف الخارج على النظام بمثابة اختيار للتهرب في أخلاقيات الجماعة التاسعة والدافعة بالتالي — إلى التحرر — لصالح تأكيد القيم الفردية وما يترتب عليها فورًا من تفتت التضامن الاجتماعي، وتفكك الروح العائلية، وتحطم الخلية الأسرية.
وهذان العاملان المتمثلان في الخروج على النظام القائم والانحراف تعبر عنهما بنية ثابتة تتكون من ثلاث مراحل متكاملة.
إشكالية «لقمة العيش»
تتعلق مشكلة الخبز بالبحث عن إمكانية البقاء على قيد الحياة. وهي المعبر الأول عن الفقر والدافع للجوء إلى الاغتراب. وقد يكون هذا الفقر حالة سابقة (الأسطى حسن، الوحش، الفتوة) أو نتاج حدث لم يكن متوقعًا (بداية ونهاية، القاهرة ٣٠، الزوجة الثانية). وتبدأ غالبية أفلام صلاح أبو سيف بذلك الوضع (شكوى حسن في «الأسطى حسن»، والملوحة في «الفتوة»، والعدس في «بداية ونهاية»). والنتيجة المباشرة المترتبة على ذلك هي افتقاد الأمان والخوف من الغد الذي عبرت عنه نينة ببلاغة فائقة في «بداية ونهاية» وكثيرًا ما يشتد الإحساس بذلك الافتقاد للأمان مع حقد الوسط. ويؤكد ذلك البغض أو الحقد عدم تأصل الأسرة أو الفرد في وسطه الجديد ويفاقم ذلك الوضع من الإحساس بالضياع ويفرز التشتت والانكفاء على النفس (حسن والحي، هريدي وأبو دومة، وحسنين والكلية العسكرية).
ويتطلب عادة غياب القدرة على توفير إمكانيات المعيشة التضامن وتعزيز الروابط، أو التوصل إلى نوع من الوفاق. وهذا ما لا يحدث، فيميل كل شخص إلى التخلص من وطأة الجماعة والتحرك وحده والتفرد. وتلك هي بداية التفكك الاجتماعي.
وعلى عكس الشخصيات الأخرى، لا يرى المرشحون للانحراف أن ظاهرة الفقر هذه كقدر محتوم ولكن على العكس كنتاج لقوة مقاومة له (الوضع الاجتماعي في «الأسطى حسن»، وتيار سياسي في «القاهرة ٣٠» و«القضية»، وتحرك واعٍ من جانب شخصية: العمدة في «الزوجة الثانية»، وسعدون في «القضية»، حسن ونفيسة في «بداية ونهاية» … إلخ).
وهذا الوعي بالبؤس الذي يتضمن ثلاثة مستويات (الوضع الاجتماعي والفردي) كان من المفترض أن يؤدي إلى وعي جماعي ممكن، غير أنه يتضح أن هذا الوعي مقصور على الأبعاد الفردية فقط، اللهم إلا في حالة هريدي. وينمو هذا الوعي استنادًا إلى «فراغ ذهني» يؤكد تفكك الجماعة وتفتتها.
ويتبدى ذلك التفكك والتفتت في صعوبة الاتصال (حسن يرفض التحدث مع شلاطة في «الأسطى حسن»، وهريدي وحُسنة أثناء البيع بالمزاد في «الفتوة»، وحسنين في كافة علاقاته العائلة … إلخ)، مما يزيد في فعالية الأزمات.
إشكالية الجنس
تندر في أفلام صلاح أبو سيف اللحظات التي تعطي الجنس دورًا إيجابيًّا وبالأخص بالنسبة للأشخاص الذين يكون الجنس شاغلهم.
وتظهر دائمًا تلك المرحلة الثانية في اللحظة التي تسجل الانفصال بين البطل وخلفياته. فهي تظهر دائمًا عندما يبتعد البطل عن وسطه الأصلي وهو يتطلع إلى حل المشكلة الأولى، فكأنه يتحول، مع انفصاله عن العائلة، إلى أداة هشة أمام المظاهر الجنسية التي تكون مصحوبة عادة بوعد بتغيير الوضع الطبقي.
وبهذا المعنى لا يكون الجنس «سويًّا» ومحررًا أبدًا. ويرتسم في خلفيته الإغراء بالابتعاد عن الوسط الاجتماعي الأصلي. ولم يحدث أبدًا أن رأينا هذا الجنس ممثلًا عن طريق عنصر نسائي من طبقة أعلى من طبقة البطل. وهو يأتي عمومًا من جانب امرأة محدثة نعمة أو ساقطة. ويتعين أن ننظر من هذه الزاوية إلى علاقات حسنين وبهية ابنة يسري وإمام وشفعات، وأحمد ونعيمة.
ففي ظل غياب الوعي الطبقي، يتبدد الوعي المتاح في السحر الرقيق والسوقي أحيانًا للطبقة الجديدة (قاسم بك). والحالات الأكثر تمثيلًا لتأثير الجنس هي:
-
مسار حسنين الصاعد.
-
مسار محجوب الصاعد ثم الهابط.
وإذا كان الجوع «المادي» هو المحرض في البداية، فإن الجوع الجنسي يكون الدافع إلى الاغتراب. وتبدو العلاقات الجنسية غير متوافقة مع علاقات التضامن، وذلك هو (حال علاقات حسن وكوثر مع عائلة حسن، وعلاقات إمام وشفعات مع أسرة إمام وخطيبته، وعلاقات نعيمة وأحمد مع أسرة الأخير … إلخ.)
ولا نجد أمامنا في إطار مجموعة الأفلام التي تعنينا سوى حالة واحدة تتضمن فيها العلاقات الجنسية والعاطفية رؤية جديدة. إنها حالة هريدي وحُسنة. فقد توصل بطلانا من خلال رابطتهما العاطفية إلى إقناع مجموعة أبو دومة بتوحيد جهودهم للتغلب على أبو زيد.
إشكالية المعرفة والحرية
فيما يتعلق بالشخصية النابعة من وسط حضري أو متشبعة به، نجد أنها تتميز بالقلق والتمرد والاضطراب.
فهي شخصية لا تعرف السكينة ولا الاطمئنان تجاه الخارج. فما هو الأساس الذي تعتمد عليه في النضال من أجل البقاء؟ إن المرجع الوحيد لديها هو القدر. وكما يعتقد لويس عوض فإن هذه الشخصية تشعر أن مصيرها في يد الله إذا كانت مؤمنة أو تحت رحمة الأقدار إذا لم تكن مؤمنة.
وفي كلتا الحالتين تُدفع دائمًا مسئولية «المسار الطبيعي» خارج المجال البشري، بينما يتعلق الأمر في الواقع بمسئولية الفرد إزاء ما يعتقد أنه مقرر سلفًا.
وعلى العكس فإن الذين يريدون تصحيح أوضاع العالم في مجالهم يتمردون على مصيرهم ليؤكدوا حقهم في الحياة.
غير أن الغاية المرجوة من ذلك التمرد على النظام القائم في العالم ماضوية تحن إلى الماضي، وحتى إذا اتخذ هذا الهدف شكل الإقدام على تحرك فردي له مع ذلك تأثير جماعي إلا أنه لا ينفي تأكيده للقيم الفردية، تلك السمة المميزة للوسط الحضري.
وليس من باب المصادفة أن تتم خبرة التعرف الإجمالي على العالم في الغربة أي بعيدًا عن السلطة التقليدية للأسرة. فهذا الابتعاد عن الوسط الأصلي يوفر حرية العمل (حسن عند كوثر، وإمام عند شفعات، وهريدي عند ثريا، ونفيسة في الشارع، ومحجوب في مسكن مستقل للعازب … إلخ.)
ولا تخلو تلك الحرية من عقبات في طريقها. فهي تتعرض لتأثير الأشخاص الذين عانوا من قبل من الغربة (الحانة بالنسبة لحسن، وحسبو مع إمام، وحسن في مقهى صبري، ونفيسة والعامل … إلخ). وستكشف تلك الحرية التي تعرضت للاضطراب عن الطابع السلبي للتجربة خارج الوسط الطبيعي المتضامن. وهذه السلبية ليست من صميم المبدأ نفسه ولكن من جانب العالم المحيط بدليل تجربة علي طه المفحمة.
ولو أن الشخصيات لم تتجاوز حدود المرحلة الثانية للجأ وسطهم الأصلي، في اعتقادنا، إلى التسامح. ولكن استكمالهم للمسار إلى حد التباهي بأنهم «يعرفون أنفسهم بأنفسهم» يضطرهم إلى مجابهة العالم. ومما يجعل هذه المواجهة عرضة لأن تكون مميتة أن صاحب التجربة شخص مقطوع الصلة بأصوله. فهو يعتبر هذه المواجهة تحديًا من جانبه يستلزم منه تجاوز المعايير الاجتماعية المعهودة. والاختيار ليس سهلًا بين العقلية الزراعية المؤمنة بالقدر المحتوم والوسط الحضري القائم على الهامشية والمسئولية، ولذا لا يكون الاختيار سهلًا بالنسبة للخارج على المسار؛ فهو ليس بصدد مسألة شكلية إذ يواجه أمرًا لا يمس مستقبله الفردي وحده، بل يشمل أيضًا مستقبل الجماعة من خلال انعكاسات مصيره الفردي على هذه الجماعة.
ونحن نتعرض هنا لقضية أساسية تتعلق بالاختيار، ألا وهي مسألة التصدع الذي يصيب الشخصية التي يلاحقها عدد لا نهائي في الرغبات غير المشبعة مثل التمتع بالطعام الطيب والحصول على المال والعمل. ويعود ذلك الصدع إلى غياب التجانس بين الكائن ووسطه، وبين المشروع الجماعي الفردي.
والضمان الوحيد الذي يؤمن الاختيار الإيجابي هو الالتزام بمسار الجماعة الاجتماعية كما تصرف علي طه، وعبده ونبيلة.
وهكذا لا تزدهر تجربة المعرفة إلا عندما تدمج التجربة الفردية في إطار جماعي. وقليلون هم من تحدَّوا الأقدار في طريقهم إلى المعرفة مع تأمين النجاح لتجاربهم. غير أن الطابع المتميز لمسارهم يؤكد قراءتنا. فهناك ثلاث شخصيات نجحت في تحقيق هدفها: فاطمة (الزوجة الثانية)، وعلي طه (القاهرة ٣٠)، وعبده (القضية).
لماذا؟
-
(أ)
لأن الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه فاطمة له طبيعة فريدة، فهذه المرأة التي ناضلت وانتصرت لا جذور لها بالقرية. وقد قال العمدة في وصفه لها إنها «مقصوفة الرقبة». وقد لجأت في نضالها إلى استراتيجية مستوحاة من الثقافة الشعبية المحلية (الأراجوز). واعتمدت على السلطة الدينية وعلى شقيق العمدة، وخضعت لنفوذ الإقطاع لكي تتحداه من داخله فتمكنت من التغلب عليه. وتمثل هذه الشخصية النموذج الإيجابي الذي تحقق من خلاله التداخل بين الثقافة الشعبية ومشروع التحرر. ومع أن ذلك التحرر فردي إلا أنه ذو أبعاد جماعية. وبصفة عامة يعتبر نجاح فاطمة امتدادًا لحالات النجاح والفشل التي كانت من نصيب الرجال والنساء الذين أثروا على تلك الثقافة بنضالهم وخيالهم.
-
(ب)
علي طه، لا جذور له على الأقل في الفيلم، شأنه في ذلك شأن فاطمة. وهو لا يستند إلى جماعة يمكن تحديد معالمها، ولكنه يعتمد بدرجة أكبر على ضروب فشل وآمال تجمع لا يزال يتشكل ويناضل من أجل استقلاله.
ويؤمن له هذا الوضع قدرًا من الحصانة التاريخية بالنظر إلى أن تحركه يرمي إلى تحقيق وحدة الجماهير المستغلة والتي يبدو أنه لا ينتمي إليها (انظر البرنامج السياسي الذي لم يرد في المونتاج النهائي للفيلم).
-
(جـ)
على العكس من ذلك، نجد أن عبده في فيلم القضية له معالم محددة تمامًا. فنحن نعرف أهله وعلاقاته وماضيه ومستقبله. ومع أنه قائد إلا أنه يقدم لنا دائمًا في تحركه في ارتباطه بمجموعته. وهذا الوضوح الاجتماعي والسياسي يمكِّنه من مواجهة القيم الأخلاقية التقليدية والسياسة الرجعية للمجموعة المناهضة. وإذا كانت فاطمة قد استخلصت استراتيجيتها من الثقافة الشعبية، فسيركز عبده استراتيجيته على مصير العربجي، وسيثبت لمُنجد عدم جدوى أي حل إصلاحي.
وتقدم لنا تلك النماذج الإيجابية الثلاثة أعمالًا وتطلعات تختلف طبيعتها ولكنها تتشابه في مشروعها وجوهرها. فكل نموذج من النماذج الثلاثة يضع نصب عينيه «تصورًا تاريخيًّا» قبل أن يقدم على تجربته الانتقادية. وترجع فعالية أعمالهم إلى المقصد الجماعي لمشروعهم حتى وإن كانت له أحيانًا جوانب فردية.
أما الشخصيات الأخرى — مع تواجد فروق دقيقة بين هريدي وأحمد ومُنجد — فإن الخطاب السينمائي لمساعيها غني؛ لأن المحور المركزي لفكرة المخرج تدور حوله عملية التخلص من العناصر الموغلة في فرديتها والمستعدة مقدمًا لمقايضة المصلحة التضامنية بالمال أو النفوذ أو مجرد الهروب، والمهيأة سلفًا لتجسيد ومواصلة بقاء عناصر الخروج على النظام الناجمة عن تزاوج العوامل الشخصية مع الأوضاع الاجتماعية الجماعية.
ويرمي هذا الإلحاح في إبراز عوامل التجزئة بدلًا من التأكيد على عوامل التضامن إلى إلقاء الضوء — عن طريق الأفراد — على استحالة تمكُّن تلك الطبقات الاجتماعية من فرض هيمنتها بما يتمشى مع مصلحتها. والتماثل القائم في بعض اللحظات بين تفكك الإطار العائلي والإطار الاجتماعي يؤكد تلك الدعوة إلى الترابط بالنسبة للمشاريع وإلى وحدة الصفوف.
وهذا الإطار الذي يحدد ظواهر الخروج على النظام، والذي اتخذه صلاح أبو سيف مسرحًا لتجربة الغربة، إطار انطوائي، باطني النمو، فليس هناك أي تلميح إلى الوضع الدولي كالصراع بين الدول العظمى والاستعمار البريطاني (فيما عدا بعض اللقطات في «القاهرة ٣٠») والحرب العربية الفلسطينية (فيما عدا ما جاء في «حمام الملاطيلي» حيث صُورت تلك الحرب على أنها ضد اليهود) ولا حتى أحداث اليمن أو غيرها من الهبَّات الشعبية العربية. وكل موقف انتقادي عند أبو سيف موجه نحو الداخل. ومسئولية تمزق العائلة أو الحي أو المجتمع المصري تكون دائمًا مسئولية داخلية. ومن الطبيعي والحال هكذا أن ينسب الفشل في صياغة مشروع سياسي خاص بالجماهير الشعبية وفي تنفيذه إلى أسباب داخلية ملازمة لتكوين الجماهير.
والتدخل الداخلي إيجابي لأنه يتم باتجاه استرداد المنحرف عن المسار. غير أن هذا الاسترداد يكون بلا فعالية أو اقتناع. ويجب أن ننظر إلى تصرفات أحد إخوة أبو دومة وحُسنة، وإلى علاقات شفاعات بحسن، أو بين حسين وحسنين، من هذه الزاوية. ويثبت ذلك أنه لا يزال يوجد في عشيرة المنحرف عن المسار أفراد حريصون على الحفاظ على التماسك. ولكن هؤلاء الأفراد يكونون خاضعين عمومًا للسيطرة، علمًا بأن تحركاتهم ليست جذرية ولا تحل المشكلة بشكل قاطع.
والتدخل الخارجي يتكرر بقدر أكبر وهو أكثر سلبية. وقد ينتمي الضالعون في هذا التدخل إلى نفس طبقة المنحرف عن المسار (حسبو، وسالم الإخشيدي، وكوثر … إلخ) ولكن سلبية تلك الطبقة ناجمة إلى حد كبير عن تأثير عناصر خارجية بالنسبة للطبقة الاجتماعية الأصلية؛ مثل ثريا هانم، ويسري بك، وقاسم بك، ورءوف. ويستهدف أساسًا ظهور تلك العوامل المختلفة (الداخلية والخارجية) وقف تجربة معرفة العالم الخارجي وجعل تلك التجربة سببًا للغربة والنفي. فما هي مصلحة ثريا هانم في العمل من أجل أن يحصل هريدي على لقب البكوية، اللهم إلا خلق تدرج جديد في المراتب داخل الرابطة؟ وينطبق الأمر نفسه فيما يتعلق بقاسم بك.
ويتضح من خلال هذه العناصر المختلفة أن الخلل وعملية الانحراف يسمحان بإبراز إما غياب التماسك القائم على التفهم العميق للشخص المدعو لتحول موقفه (حماة حسن) وإما إثبات أن التضامن الأولي عاجز عن تلبية احتياجات المنحرف العديدة (عائلة كامل علي). ونلاحظ في كلتا الحالتين عدم توفر التضامن أو عجزه. ويلقي كل من بروز ظاهرة الخلل والمسار المنحرف، يلقي الضوء على ضرورة شكل آخر من التضامن يضع في اعتباره مختلف المشاريع ويحقق الترابط بينها فيجسد بذلك الوحدة القادرة على امتصاص الخلل وتلبية احتياجاته (الجزء الأول من فيلم «الفتوة»).
الدينامية السينمائية
يتم تجسيد الانحراف، باعتباره تعبيرًا عن الخروج عن النظام الطبيعي المتمثل في غياب الترابط والوحدة الطبقية، بكتابة سينمائية معبرة من خلال إبراز «السلبية» عن طريق إشارات مستنبطة من التراب المصري. والواقع أن أفلام صلاح أبو سيف تحتل موقعًا مركزيًّا في السينما الوطنية المستقلة عن طريق إعادة بناء «الحياة» من خلال تلك الإشارات.
وأشهر مثال على تلك الدينامية السينمائية هو فيلم «الفتوة» الذي يجمع بين مكونات التربية والعرض السينمائي بغية تأمين الانتقال من انتقاد النظام الاجتماعي إلى انتقاد النظام السياسي.
وهناك حجة شائعة في الأفلام المصرية منذ الحرب العالمية الثانية ألا وهي إلقاء عبء كل أنواع القصور وضروب الشقاء على كاهل المجتمع. ولا تزال هذه العقلية قائمة حتى الآن. وهكذا قال كمال الشيخ وهو يتحدث عن بطلة الفيلم الذي قدمه: «لم تشأ وإنما شاءت الظروف.
وقد انساق صلاح أبو سيف في بداية طريقة السينمائي وراء ذلك الاستسهال. وهكذا جعل بطلة فيلم «دائمًا في قلبي» ضحية مجتمع مدني على غرار الأفلام الموسيقية في تلك الفترة. ولكن مع اكتشافه للواقعية الإيطالية الجديدة ومشاركة نجيب محفوظ في كتابة السيناريوهات، والتغيرات الكيفية التي طرأت على مجال السينما المصرية منذ تولى الضباط الأحرار السلطة، نجد أن صلاح أبو سيف عقد العزم حقًّا على توضيح حدود ذلك المجتمع المدني وعلى الكشف عن علاقته بالمجتمع السياسي، مع تركيز الضوء على العناصر المتسببة في الخلل.
وسيتم تسليط الضوء على تلك العناصر بتوفير التناسق بين عدة إشارات قادرة على تجسيد تلك العلاقة وعلى إبراز السلبيات.
قائمة الإشارات
من المبادئ التي قررتها الواقعية الجديدة الإعداد لتصميم علمي إلى حد ما سيتحرك الأبطال في إطاره مع توفير حد أدنى من الصحة في المواقف والتصرفات. وتتحقق تلك الصحة من خلال تجميع إشارات مفارقة خاصة بشخصيات محددة وتتعلق بعدة مجالات، أهمها:
تصور المكان والأشياء ذات الدلالة، والإشارات الصوتية والضوئية.
وتفصح تلك الإشارات بتنوعها واختيارها عن مدى حساسية المخرج وعن انتمائه الثقافي المرتبط بالواقع المصري. وهو يكسو كادراته ويرسم صور الشخصيات ويحدد المواقف ويعبر عن لحظات الأزمة أو التوافق من خلال تلك الإشارات التي تميز أفلام صلاح أبو سيف، وتعرفها.
تصور المكان
يلاحظ المخرج السينمائي المصري يوسف شاهين أن صلاح أبو سيف أصبح أستاذًا في خلق الأجواء. وهو يحقق ذلك بالتنسيق بين الإشارات التي يمكنها التدليل على الحيز والزمن على غرار ساعات الحائط وغيرها من الأشياء اللازمة لتحديد الوقت في فيلم «أكتوبر» الذي أخرجه سرجي آيزنشتاين. وهكذا نجد أن السقوط في الهاوية في فيلم «بداية ونهاية» بعد موت الأب يتجسد ماديًّا بالانحدار المتمثل في النزول إلى القبو الذي أصبح مسكن أسرة كامل علي. وقد تمثل ذلك الموقف ببادرة عفوية من جانب حسن الذي يرتقي السلم ثم يستدرك فيهبطه. وسيجد في هذا المسكن جدرانا قذرة وأرضية غير مبلطة ولا فتحات سوى الباب ونافذة صغيرة تطل على قارعة الطريق. وفي هذا الإطار الفقير نلاحظ وجود أريكة واحدة من مخلفات «الأيام السعيدة». وقد كشف لنا أبو سيف أنه رغم كون الفيلم أبيض/أسود، إلا أنه حرص فيما يتعلق بالملابس على استخدام منسوجات حمراء وصبغها باللون الأسود على النحو الذي تلجأ إليه العائلات الفقيرة لتوفير ملابس الحداد.
وفي الظروف المشابهة، نجد أن جدران غرفة حسن في فيلم «الأسطى حسن» قذرة هي أيضًا والكرسي أعرج والحماة جالسة على الأرض. كما نلاحظ أيضًا ضيق عمق مجال الكاميرا مما يعطي الإحساس بأن هذه الغرفة تكاد تكون سجنًا. وعلى العكس فقد استخدم هذا العمق في فيلم «لا تطفئ الشمس». وبلغت تلك التقنية أوجَها في «الزوجة الثانية» وفي «القضية» حيث تسمح عملية التصغير بجمع العلاقات المأساوية والإشارة إلى وضع شخصية مناقضة لشخصية أخرى (الزوجتان) في «الزوجة الثانية»، من خلال حجرتيهما اللتين تطلان كل منهما على الأخرى؛ أو التكوين على شكل طبقات في «القضية» مما يشير إلى خضوع السكان للجنة الحزب. ويزداد وضوح هذا التكوين في حالة العربجي من خلال سؤال يشير إلى إشكالية الحرية (أفتح الشباك أو أغلق الشباك؟)
ويخضع تكوين الأماكن للرؤية الواقعية ويحدد بعناصره تلك الكتابة ويجعل إشكاليتها جديرة بالمصداقية.
دلالات الأشياء
بخلاف غالبية المخرجين المصريين الذين يعتبرون المتفرج شخصًا أبله يحتاج إلى شرح الحدث الواحد ثلاث مرات (بالموسيقى والكلمات والصورة) يستخدم صلاح أبو سيف أسلوبًا يخصه، ألا وهو التورية الشائعة الاستخدام في الثقافة الشعبية.
وتتمثل وظيفة التورية في عدم انطباقها بشكل مباشر على الشخصية ولكن في لفت نظر المتفرج اليقظ إلى عنصر أو ظاهرة هامة في سيكولوجية أو سلوك الشخصية، والتأكيد عليها. وهكذا تلبي أفلام أبو سيف أمنية ميرلو-بونتي أو جودار اللذين يعتقدان أن الفيلم يوحي أكثر مما يقول، ويشير بدلًا من أن يدلل. ويتكون هذا الأسلوب من عدة أنواع من الإشارات. فهناك الإشارات الخطية التي تؤدي وظيفة إثراء الديكور وإعطاء الانطباع بالواقع وتشكيل نظام موازٍ للاتصال. ويدخل في هذا السياق كلُّ ما يدوَّن على الجدران (ريا وسكينة، وبداية ونهاية) ومقدمة ونهاية «القاهرة ٣٠» غير أن البرواز المعلق فوق حائط مسكن حسنين الجديد والذي خط فيه «اتَّقِ شر من أحسنت إليه» أكثر تلك الإشارات دلالة؛ إذ إنها ترسم مسيرة حسنين الذي حصل على كل شيء من حسن ونفيسة.
ولدينا أيضًا دلالات مادية تشير من خلال إدخالها في مجال الكاميرا إلى المكان وطبيعته، ومثال ذلك الإناء النحاسي الموضوع عند مدخل بيت حسن الجديد (بداية ونهاية). فقد أشار أبو سيف عن طريق هذا الإناء إلى أن المكان مخصص للدعارة دون تصويرها. وصورة غاندي المعلقة خلف محجوب الجائع تحمل معنيين هما الوضع المشابه والمعارضة، وكذلك القرنان خلف رأسه أثناء زواجه بإحسان، والخفاف (الشباشب) والغبار الذي تثيره في «بداية ونهاية»، ومنشور «بداية ونهاية» أمام القلعة في «القاهرة ٣٠»، كلها أشياء لها دلالاتها تشكل امتدادًا للحركة أو تحدد موقف المخرج أو تشير أيضًا إلى المكان دون الحاجة إلى الكلام.
الإشارات السمعية والبصرية
وهي إشارات ذات طابع سينمائي أوضح لأنها متحركة ولا تؤدي فقط مهمة شغل الشاشة بشكل ساكن ولكنها تبرز فجأة في اللحظة المناسبة وبشكل متكرر. وذلك هو وضع بائع البطاطا المشوية في «القاهرة ٣٠» في كل لقاء بين إحسان وقاسم بك ووضع بائع الملابس المستعملة في «بداية ونهاية» بعد أن استسلمت نفيسة لغواية سلمان، وكذلك العربة التي يصل بها سالم إلى المحطة بينما يعبر محجوب وسط برك الماء، وحذاء الخاطبة سنية المقلوب في «القضية» أو الارتباط المتواصل بين إمام والحمار في «شباب امرأة» … إلخ.
وهذه المؤشرات المرئية البليغة تخص التعريف الذي سقناه لابن البلد الذي لا يسرف في التفاصيل بل يكتفي ببعض الأوصاف والإشارات.
الإشارات السمعية
وهي إما شفوية أو موسيقية … والإشارات الشفوية عديدة ويمكننا أن نجدها في الحوارات بقدر ما يتميز هذا الجانب من سينما صلاح أبو سيف بالثراء الذي يعود إلى مشاركة كتاب مشهورين في صياغتها. وفضلًا عن ذلك فإن هذا الجانب يفيدنا بنصيب كبير من رؤية المخرج للعالم، ويمس كافة المجالات التي تتم معالجتها في أعماله.
وسنكتفي بمثلين فقط في هذا المجال بالنظر إلى عدد تلك الإشارات الوفير. ففي «بداية ونهاية» يزور حسن أسرته ومعه قفة عامرة بالفواكه واللحم. وتقول نفيسة عندما ترى اللحم «اللحمة طلعت» علمًا بأن هذه الصيغة يقصد بها فقط باكورة الفواكه أو الخضروات، مما يكشف عن مدى الفقر الذي أصاب حياة هذه الأسرة.
ونجد المثال الثاني في الأغاني العديدة التي يزخر بها كل من فيلم «الفتوة»، و«لا وقت للحب»، و«بداية ونهاية» حيث تم إما التلاعب بالألفاظ كما هو الحال في فيلم «لا وقت للحب»، وإما استخدامها كمصدر لتحقيق هدف في «الفتوة». وهذا عدا الأمثال والحكم والمصطلحات الشعبية، وجميعها كنز من الإشارات السيكولوجية حول المواقف والأشخاص ومجموع الأشخاص. والإشارات الموسيقية كثيرة وتتبع الإشارات الشفوية. وسنكتفي هنا بمثلين: موسيقى نشيد اسلمي يا مصر الذي يعلن عن ظهور علي طه في «القاهرة ٣٠» ويشير بذلك إلى دوره الوطني الثوري، ولحن آه يا زين المتواجد في أفلام أبو سيف ويصحب أو يمهد لكافة المشاهد الجنسية أو الرومانسية ويضفي عليها طابعًا جليلًا أو دنيويًّا.
وتقيم تلك الإشارات في جملتها علاقات عضوية مع نمو الدراما، ولولاها لما اكتسب ذلك النمو أي مشروعية. ومن خلال استخدام تلك الإشارات يتجه أبو سيف نحو إبراز عملية التطور الانحرافي والتأكيد على التصرفات المثيرة للاضطراب بما لها من سمات متميزة ومن طابع عنيف.
وإلى جانب الانطباع بالواقعية الذي تضفيه تلك الإشارات ووظيفتها الدرامية، فإنها تؤكد تأصل أبو سيف الثقافي في التراب المصري، وهي تلك الخاصية التي تميز بها دائمًا.
والواقع أن صلاح أبو سيف يظل مقيدًا أحيانًا بقراءة تتناول سطح الواقع ومكوناته، ونادرًا ما تتجاوز المراحل الأولى للتقارب الذهني والشعبي. وهذه القراءة الأفقية تجعل الصورة، وهي المحور الرئيسي للسينما، إما مخزنًا تتكدس فيه آلاف الإشارات، كما هو الحال في أفلام يوسف شاهين، وإما مساحة مسطحة وخاوية كما هو الحال في الأفلام المقتبسة في روايات إحسان عبد القدوس وقصصه.
وعلى أي حال فإن جدولة تلك الإشارات تعبر عن الحرص على تربية ذوق المتفرج، وهو اتجاه يتجلى بشكل خاص في فيلم «الفتوة». ولا تستطيع هذه التربية أن تحقق هدفها إلا في تربة تتغلب فيها الإشارات الفعلية على الإشارات الممكنة، وتتمتع باستقلالية واسعة النطاق في مجال الشاشة وفي تطور المأساة، مما يوفر للمتفرج استقلاله الذاتي في تفسير المأساة وفي التعايش مع تجربته السينمائية.
وهناك مغزًى مزدوج للاستعانة بهذه المجموعة من الإشارات؛ أولًا تحويل الصورة إلى تكوين كما هو الحال في مشهد الرقص في فيلم «ريا وسكينة» أو المشهد الغرامي بين نفيسة وسلمان في «بداية ونهاية»، وثانيًا إضفاء لمحة فنية على الواقع المصري أو على الأقل عرض هذا الواقع عن طريق ذلك التكوين. والحوار الدائر بين حسن وحسنين مع احتلال الشارة الدالة على رتبة الأخير العسكرية المقدمة في اللقطة، ثم حركة دوران الشخصين، يعبران بكل وضوح عن وصولية حسنين وإحساسه بالاختناق في هذا الجو. وينطبق نفس الأمر على محجوب أمام لافتة «السكرتير الخاص للوزير» أو وضع الزوج الذي لا يدير رأسه أبدًا بل كل جسمه في فيلم «هذا هو الحب». ومن الأمثلة في هذا المجال الحل الذي استوحته فاطمة في الزوجة الثانية، حتى وإن كان لويس عوض يرى في ذلك استخدامًا برجوازيًّا صغيرًا للفلكلور.
وباختصار تبرز الدينامية السينمائية موضوع القصة عن طريق تناقضاتها الداخلية وإشكالياتها الحيوية الخاصة بطبيعتها الاجتماعية، ووضعها داخل هذه الطبقة. وتشمل تلك الدينامية عوامل متداخلة ذات أصول مختلفة تتم صياغتها وتوجيهها لخدمة التعبير عن العدد اللانهائي من الرغبات وعن الطابع القمعي للمفاهيم الأخلاقية الريفية، والجاذبية العقيمة لأخلاقيات المدينة، حتى يبلغ المسار ذروته بالانبثاق العنيف للفعل الخارج على النظام الطبيعي.
ويحمل هذا المسعى في طياته رؤية محددة للفواصل بين الطبقات الاجتماعية، ورفضًا للتصالح بينهما إذا تحقق عن طريق الخيانة وتفتيت الروح الطبقية. فليس هناك فاصل بين الفرد وأسرته وفقًا للمفهوم الأول لأيديولوجية الأفلام.
لغة الشعب
لقد حرصنا على أن نلفت الأنظار على مدى هذه الدراسة المطولة، إلى العلاقة الواضحة القائمة بين صلاح أبو سيف والشعب المصري، كما أكدنا على العديد من حالات الاستناد إلى الثقافة الشعبية إما عن طريق نماذج اجتماعية مثل الحماة والأم والبقال، ومُنجد وحنفي، وصاحب الحمام الشعبي والتربي والسقاء، وإما عن طريق المواقف التي لا تتبدى فيها فقط حاسة الملاحظة، ولكن التكوين أيضًا مثل لقاءات إمام وشفعات، والبلبلة التي يعاني منها حسن، ووضع حسنين عند يسري بك، ومناورات فاطمة المختلفة، وعلاقة عبد الصبور بالجماعة التي ينتمي إليها … إلخ. ولا يمكن إنجاز ذلك دون الحوارات التي تتميز في هذه الأفلام بصدقها المؤثر وبنبراتها الموفقة فالعبارات المستخدمة مثل «ادخل خش» لحسن، و«اللحمة طلعت» لنفيسة، والخلافات المثيرة للأعصاب بين عبد الشكور وهريدي، مستقاة من التراث الشعبي، ويستعين بها أبو سيف ليحدد ملامح الشخصيات ويرسم صورها دون أن يكون توجيهيًّا أو تدليليًّا. وتتجسد في ذلك تلك المستويات المختلفة للكتابة السينمائية. ويشكل كل مستوى مع المجموع ذلك النسيج الواقعي الذي يبث الحياة في الشخصيات ويبرز دواعي شقائها وسرورها، وأسباب اطمئنانها أو قلقها.
ويتعين أن تكون السينما، في مفهوم صلاح أبو سيف، لغة الشعب؛ أي المكان الذي تنعكس فيه صورة الشعب بكافة مكوناتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وتدور كافة أفلامه، بما في ذلك أفلامه الأقل أهمية، حول انعكاسات التخلف المادي والاجتماعي. ولو تمعَّنَّا في دوافع مختلف التمردات التي واكبت مسارات مختلف الشخصيات التي قدمناها هنا لتبين لنا أن الحيز الذي يحتله التخلف ضخم حقًّا. ومع ذلك فهو لا يتوقف عند المظاهر الخارجية لتلك الانعكاسات، بل يذهب إلى مدى أبعد أغوار معنويات أبطاله وروحهم ونفسيتهم ويكشف لنا أعمق طياتها كما نرى في حالات هريدي وحسنين ومحجوب. وبإضافة ذلك الجانب المعنوي، يجعل المخرج شخصياته مسئولة ويبين أن التخلص من الجوانب المادية والاجتماعية للتخلف يبقي مع ذلك على نواح معنوية جريحة يمكن أن توجه أي مكسب مادي أو اجتماعي نحو أغراض غير جماعية تتسبب في ذلك الانحراف.
الكتابة السينمائية والمشروعات
في أحد اللقاءات العديدة مع صلاح أبو سيف أشار إلى موضوع الوحدة من خلال إسكتش قال لي إنه ظل راسخًا في ذهنه منذ أيام الطفولة.
فقبل أن يقضي والده نحبه جمع أولاده حوله وقدم لهم حزمة حطب وطلب منهم أن يكسروا الفروع الموثقة معًا …
وقد حاولوا ولكنهم أخفقوا … ثم فصل الفروع عن بعضها وطلب منهم أن يهشموها … وقد نجحوا في ذلك بكل يسر، فقال لهم عندئذٍ: مقاومتكم في وحدتكم.
وقد حاولنا أن نثبت أن مختلف أفلامه عولجت من منظور الوحدة. فكل تفتيت للعشيرة أو الجماعة أو الأسرة يعود إلى افتقاد الوحدة وإلى غياب مركز يتخذ القرارات ويتولى مهمة تنسيق المبادرات. وينطبق ذلك على أسرة الأسطى حسن وعبد الصبور وإمام … إلخ. وبوسعنا أن نقول إن الأمر ينطوي «خارج مجال الكاميرا» على مسلك موحد غائب. ومن خلال مشاهدتنا من جديد لتطور الأحداث والتحركات نجد أن عدة مؤشرات تحيلنا إلى ذلك «السلوك الإيجابي» المرتكز على الوحدة، ومثال ذلك الحارس وحُسنة، والأم، وعلي طه وجماعة عبده ونبيلة … إلخ. وهم ليسوا أدلة عابرين بل إن دورهم أو وضعهم لا يقتصر في فن التكوين الدرامي عند أبو سيف على تحديد الموقف فقط، بل ويشكل أيضًا معيارًا يشارك في تقييم مسار الانحراف. ويتضح ذلك بجلاء في الكتابة الفيلمية على صعيد البنية أولًا. وفيما عدا بعض الاستثناءات، تتميز أفلام أبو سيف ببنيتها السردية المتوافقة تمامًا مع تعريفه هو للمخرج ووظيفته. ومن هنا يتشكل القالب السينمائي لأفلامه على هذا الأساس.
ويتمثل هدف أبو سيف الأول في «رواية حكايات بالأذن والعين». ومع أنه يعمل في مجال ثقافي لا تزال السينما فيه منتجًا في أيدي الأغبياء إلا أنه يتحمل مسئوليته إزاء جمهور المشاهدين لأفلامه. فهناك معطيات أساسية سبق أن أوردناها (الترفيه والتثقيف والتوعية) يعتمد عليها سرده السينمائي الذي يتعين، على حد قوله، «ألا يثير اهتمام المثقفين وحدهم الذين يشكلون ٥٪ فقط من مجموع الشعب، بل كل الشعب». ولا يعني ذلك أن المخرج يقف بعيدًا عن أي إشكالية تتعلق بالغرض. فهو يقدم على ذلك فقط باتجاه تدعيم الصورة، التي لا تزال حتى الآن الجانب الفقير في السينما. وهناك مشاهد عديدة تم حصرها في هذه الدراسة تدل على الاهتمام والانشغال بهذا الجانب.
والسينما في مفهوم صلاح أبو سيف أداة تربوية؛ وذلك أساسًا من خلال تكرار نفس البنية السردية. ولذا فإن هذه السينما تتمشى مع تطور هذا الفن في بلد ينتمي إلى العالم الثالث ويعتمد إلى حد كبير على التكنولوجيا السمعية-البصرية الغربية.
ويرتكز الفكر السينمائي عند أبو سيف على الدوافع الداخلية المواتية لظهور تصرفات متعارضة مع النظام الطبيعي، وهو يرمي إلى وحدة وترابط المشاريع والسلوكيات، كما أنه فكرٌ منطوٍ على نفسه وموجَّه نحو جذوره الداخلية بغية التوصل عن طريقها إلى أسباب الخلل النفسي والاجتماعي «والمراهقة الفكرية» التي أدانها الميثاق الوطني. ومن هنا ينبع غياب أي إشارة إلى العوامل الخارجية، فيما عدا إشارتين عابرتين إلى الإنجليز وإسرائيل.
ويقول سيد عويس، عالم الاجتماع المصري: إن مصر مجتمع قديم يعود إلى سبعة آلاف سنة، مارس خلاله الشعب الزراعة على مدى تاريخه، وقد تحالف ضده الجبابرة للحيلولة دون نهضته ومواصلة استغلاله. ولكن هناك قيمًا اجتماعية أصيلة في هذا المجتمع، منها الصبر، والتضحية، والتضامن، والخبز والملح والاحترام. ويربط بين أعضاء هذا المجتمع نوع من المشاعر الجماعية تتمثل في علاقاتهم مع الأولياء وأضرحتهم، وهم يمتلكون أنماطًا خاصة من التفكير في مواجهتهم للمستقبل وفي تحديدهم لمعنى الزمن وأهميته، وفي نظريتهم للكم والكيف وأحاسيسهم المتفائلة أو المتشائمة، وفي تقييمهم للطبيعة والمرأة.
وتلخص أفكار سيد عويس هذه على خير وجه المنبع الثقافي الذي ينهل منه أبو سيف ويرسم على أساسه الصورة المعاصرة لمصر الحديثة التي تتجاور فيها الخصوصيات مع السمات العامة، وحيث تتدفع إعادة صياغة قوانين الحياة النظرة الشخصية للحياة، وحيث نجد دراما التمرد والفشل بأبعادها الأساسية.