قصة هذه المسرحية١
لهذه المسرحية قصة حقيقية، بدأت في واقع الحياة التي عاشتها مؤلفة المسرحية، ليلة التاسع من يونيو ١٩٩٢، بمدينة القاهرة، عاصمة جمهورية مصر العربية.
بعد منتصف الليل سمعت المؤلفة الدقات على باب بيتها في شارع مراد بالجيزة. هذه الدقات في مثل هذا الوقت لم تكن إلا لزوار الفجر، هاتان الكلمتان «زوار الفجر» كانتا تجريان على ألسنة الناس في مصر القديمة ومصر الحديثة منذ عهد محمد علي باشا حتى اليوم. إنهم رجال البوليس يهبطون على بيوت الناس قبل طلوع الفجر بقليل، يقبضون على الرجال والنساء لإيداعهم السجون، كما يقبض عزرائيل إله الموت على الأرواح.
كانت المؤلفة نائمة في سريرها إلى جوارها زوجها، لم تسمع هي الدقات أول الأمر، أو سمعتها وتصورت أنها مجرد حلم، أو كابوس، أو ذكرى ما حدث في الماضي، حين دقوا عليها الباب يوم السادس من سبتمبر ١٩٨١، كانت وحدها بالبيت، تصورت أنهم لصوص فلم تفتح الباب، فإذا بهم يكسرون الباب ويسوقونها إلى السجن دون تحقيق ودون جريمة، اللهم إلا حروفها المطبوعة على الورق.
كان زوجها هو الذي سمع الدقات تلك الليلة من يونيو، بخبرته الطويلة داخل السجون، أدرك أنهم زوار الفجر، إنه طبيبٌ وأديبٌ مرهف الحس، كان في شبابه يحلم بالحرية والعدل، فإذا به نزيل السجن ثلاثة عشر عامًا، أجمل سنين الشباب قضاها وراء القضبان، وأربع سنوات قضاها في المنفى، بقية العمر عاش مطاردًا لم يستقر إلا الأعوام الأخيرة بعد أن تجاوز السبعين عامًا.
ها هي الدقات على الباب تؤكد أنه لم يستقر أبدًا، وأن زوار الفجر لن يتركوه يكمل الجزء الأخير من مذكرات حياته.
لكن هذه الزيارة لم تكن للزوج وإنما للزوجة، مؤلفة المسرحية، هذه المرة لم يسوقوها إلى السجن، ولكن زفوا إليها خبرًا مفزعًا، أحد الأساتذة من الكُتاب الإسلاميين تم اغتياله منذ ساعات، القتلة مجهولون حتى الآن، أصدرت الحكومة أمرًا بحماية الأرواح التي وردت أسماؤهم في قائمة الموتى.
– قائمة الموتى؟!
كلمتان مفزعتان، كانتا تجريان على ألسنة الناس في السنين الأخيرة، هناك قوًى مجهولة تتحدث بلسان الله وتمسك في يدها الرشاشات والقنابل، تطارد أي إنسان يكتب شيئًا يختلف عما يقولون، تحكم عليه بالكفر أو الردة عن الإسلام، تضع اسمه في قائمة الموتى، وتنفذ الحكم بالرصاص ثم تهرب.
في ديسمبر ١٩٨٨ أصدرت الحكومة أمرًا بوضع حراسة مسلحة حول بيت المؤلفة. لم تعرف المؤلفة السبب. إن أوامر الحكومة مثل أوامر الله تنفذ دون سؤال عن الأسباب. عاشت المؤلفة تحت الحراسة عامين من ديسمبر ١٩٨٨ إلى ديسمبر ١٩٩٠، ثم اختفت الحراسة المسلحة فجأة كما جاءت دون إبداء الأسباب.
لكن الناس في مصر كغيرها من بلاد العالم تتسلى بالحكايات، أبطالها شخصيات حقيقية يعرفها الجميع على رأسهم طبعًا رئيس الدولة؛ فهو قمة الهرم الأكبر فوق الأرض، لا يعلوه إلا الله الجالس على عرش السماء، وكان الناس يخلطون دائمًا بين شخصية الجالس على عرش الأرض والجالس على العرش السماوي؛ هذه عادة الناس في كل مكان وزمان، لأسبابٍ متعددة، منها أن رؤساء الدول منذ نشوء الدولة في التاريخ يتخفَّون وراء اسم الله، يصدرون الأوامر باسم الله، يبدءون أي خطاب للناس باسم الله، كيف يمكن إذن للناس أن تفصل بين لسان رئيس الدولة ولسان الله سبحانه وتعالى؟! وكان رئيس الدولة يطلق على نفسه ألقابًا مقدسة مثل «البابا» في الغرب و«الإمام» في الشرق، ويقبض بين يديه على السلطات جميعًا السياسية والدينية وأهمها طبعًا الخزانة العامة أو أموال الدولة، التي دخلت في التاريخ تحت اسم أموال الكنيسة أو الجامع، في التاريخ الحديث يسمونها «بنك الله» على غرار «حزب الله» الذي أصبحت له قوة سياسية وعسكرية لا ينافسه في قوته إلا حزب الشيطان.
دارت بين الناس حكاية تقول إن الحراسة المسلحة وُضعت حول بيت المؤلفة؛ لأنها أصدرت رواية تحت عنوان «سقوط الإمام» أجزاء من هذه الرواية كتبتها داخل سجن النساء عام ١٩٨١ بالقاهرة، قبل اغتيال رئيس الدولة في مصر «أنور السادات» بشهرٍ واحد.
كان السادات يخلط كثيرًا بين الحاكم الأرضي رئيس الجمهورية الذي يستمد قوته من القانون المدني وتشريعات الدولة، وبين الحاكم الديني «الإمام» الذي يستمد قوته من القانون الإلهي وكتاب الله. وقد غير الدستور المصري، وأصبحت الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد لهذا الدستور. حمل السادات لقب «الرئيس المؤمن»، وأصدر قرارًا بأن المرتد عن الإسلام عقابه الإعدام، ونصب نفسه رئيسًا مدى الحياة كالآلهة الخالدين.
لم تشعر المؤلفة بالأمان تحت هذه الحراسة المسلحة، أيمكن أن تحمي الحكومة حياتها؟ كانت الثقة مفقودة بين الناس والحكومة. منذ نشوء الحكومات في التاريخ لم يرَ الناس منها أي خير؛ اغتيالات حدثت للمحروسين بيد حراسهم، والأستاذ الكاتب الإسلامي الذي تم اغتياله كانت الحكومة تحرسه. طلبت من الحكومة عدم حماية حياتها؛ فهي حياتها تملكها وتحميها بنفسها. رفضت الحكومة الطلب. قالت للمؤلفة: إن حياتك ليست ملكًا لكِ ولكنها ملك الحكومة.
لأول مرة تشعر المؤلفة أن حياتها مهددة وليست ملكها. الرصاصة سوف تنطلق حتمًا. من هي اليد التي سوف تضرب؟ أعداؤها كثيرون منذ أمسكت بالقلم وكتبت، داخل الحكومة وخارجها، على رأسهم بالطبع المتكلمون باسم الله، الضاربون بالرصاص باسم الله أيضًا.
في الليل تحلم المؤلفة أنها تحولت إلى كائنٍ يشبه الطائر له جناحان، وأنها تطير وتطير، تجتاز حدود الوطن وتنجو بحياتها. لكنها تصحو من النوم، وترى الحراس أمام الباب والبودي جارد يشبه الجلادين. وبدأت المسرحية تنمو في أحشائها كالجنين.
في يومٍ، وهي جالسة تكتب في بيتها دق جرس الباب، كانت فتاة شابة بيضاء البشرة، شعرها ناعم أصفر، طويلة القامة اسمها إليزابيث، أمريكية الجنسية، جاءت في زيارةٍ قصيرة إلى مصر، أرادت أن تتعرف على المؤلفة، فقد قرأت لها بعض الروايات والكتب حين كانت طالبة بإحدى الجامعات. دهشت إليزابيث حين رأت الحراس والبودي جارد، سألت المؤلفة عن سبب وجودهم، لم تعرف المؤلفة الإجابة. سألتها إليزابيث لماذا لا تنقذ نفسها وتترك هذا المكان؟ لم تعرف المؤلفة مكانًا آخر غير بيتها والوطن الذي ولدت فيه، قالت المؤلفة لنفسها: «وأين يمكن أن أذهب؟! لا أعرف مكانًا آخر.» قالت إليزابيث: يمكن أن تذهبي إلى جامعة ديوك، هناك أستاذة تدرس اللغة العربية اسمها ميريام كوك، وهي تدرس رواياتك وكتبك، وسوف ترحب كثيرًا بك.
– وماذا أفعل في جامعة ديوك؟
– تدرسين رواياتك وكتبك للطلبة والطالبات، إنهم يحبون كتاباتك، وكنتُ واحدة منهم، وقررت أن أزورك في أول زيارة لي لمصر.
خرجت إليزابيث من بيت المؤلفة، وأدارت رقم التليفون ليرن في مكتب الدكتورة ميريام كوك في جامعة ديوك، في مدينة ديرهام، بولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية.
هكذا أصبحت المؤلفة أستاذة زائرة في جامعة ديوك، تلتقي بالطلبة والطالبات مرتين في الأسبوع، تدرس تناقش معهم رواياتها ومنها رواية سقوط الإمام، منذ عشرين عامًا بدأت هذه الرواية في خيال المؤلفة، كتبتها أول الأمر على شكل مسرحية، كان «الإمام» بطل المسرحية يظهر أحيانًا على شكل رئيس الدولة «السادات»، وفي أحيانٍ أخرى يرتدي ثياب الرب الأعلى ويجلس على عرش السماء. لم تكن القوانين تسمح بتجسيد شخصية الرب الأعلى فوق خشبة المسرح، الأنبياء أيضًا شخصيات مقدسة لا تظهر صورهم ولا يمكن تجسيدهم في أعمالٍ مسرحية، شخصية رئيس الدولة تدخل أيضًا ضمن الشخصيات المقدسة. وكان السادات يرأس الدولة والحكومة معًا والجيش والحزب الحاكم، أيضًا والعائلة، أعطى نفسه لقب «رب العائلة» ثم أصبح للحكومة رئيس آخر يسمونه «رئيس الوزراء»، وهو شخصية بشرية يخضع للنظام الديمقراطي أو التعددية الحزبية، يمكن أن يتلقى النقد من الأحزاب المعارضة بصفته المسئول عن أخطاء الحكومة وشرورها، أما رئيس الدولة غير مسئول عن الشر، إنه مسئولٌ فقط عن الخير مثل الله سبحانه وتعالى، أما الشر فهو مسئولية شخص آخر هو الشيطان، أو إبليس، أو رئيس الحزب المعارض، أو رئيس الحكومة، أو رجل آخر أو امرأة تكتب رأيها بحرية؛ هذا هو كبش الفداء، الذي يُطرد من منصبه أو يُذبح أو يُهدد بالذبح كما حدث لإسماعيل ابن سيدنا إبراهيم، وستنا حواء التي حملت عبء الخطيئة الكبرى وحدها.
لم يكن لمثل هذه المسرحية أن ترى النور. كتبتها المؤلفة في ظلمة الليل بالحبر السري أو الحبر الأبيض، لا يمكن أن تظهر الحروف فوق الورق وإلا أصبحت المؤلفة في خبر كان، يصدر الحكم بإعدامها والجريمة هنا مضاعفة؛ تجسيد الرب الأعلى قدس الأقداس على خشبة المسرح! هذا أمرٌ لم يحدث في التاريخ القديم أو الحديث. ربما أمكن تشخيص بعض رؤساء الدول بعد موتهم، لكن شخصية الله سبحانه وتعالى لا يمكن أبدًا أن تظهر على المسرح، وإلا انهار الكون وسقطت السماء على الأرض.
من شدة الرعب كومت المؤلفة أوراق المسرحية في صفيحة جاز فارغة وأشعلت فيها النار، ثم جلست إلى مكتبها وبدأت تكتب رواية من وحي المسرحية المحروقة اسمها «سقوط الإمام». في هذه الرواية لم تظهر شخصية الرب الأعلى إلا من وراء الستار، بل إن حارس الجنة سيدنا رضوان عليه السلام ظهر في مشهدٍ واحد، وكان مجرد الوسيط بين الإمام الواقف عند باب الجنة والرب الأعلى، الذي عرفنا أنه دخل الجنة (دون أن نراه بالطبع).
رغم كل هذا الحرص دخل اسم المؤلفة «قائمة الموتى».
جلست في بيتها تفكر ماذا يمكن أن يحدث لها لو أنها جعلت الرب الأعلى مرئيًّا؟! بمعنًى آخر ماذا يحدث لها بعد دخولها قائمة الموتى؟! كانت تعرف أن بعد الموت هناك الجنة أو النار أو اللاشيء. لماذا لا تكتب المسرحية إذن والموت نهاية المطاف؟!
أصبحت هذه المسرحية تلح عليها في النوم واليقظة، أهو إبليس كان يوسوس لها بالمسرحية؟! تريد أيضًا أن تجسد هذه الشخصية على الخشبة. يمكن أن تعمل ذلك دون أن تتعرض للموت، وبشرط أن تجعل إبليس هو المسئول عن الشر، ولم يكن في إمكانها أن تفعل ذلك. رأت المؤلفة في شخصية إبليس جوانب إيجابية لا بد أن تظهر في المسرحية، كان أكثر الملائكة توحيدًا لله؛ فهو الوحيد الذي رفض أن يركع لغير الله، واعترض على الله حين أمره بالركوع لآدم. هذه الفكرة خطرت للمؤلفة وهي طفلة في السابعة من عمرها، حين قرأت قصة آدم وحواء في كتاب الله. كانت الطفلة تكبر بالطبع وتقرأ أكثر وأكثر في كتب الله الثلاثة. كلما أوغلت في القراءة تجسدت أمامها شخصيات الأنبياء، على رأسهم سيدنا إبراهيم بالطبع، يليه سيدنا موسى، ثم سيدنا عيسى، ثم سيدنا محمد، وسيدنا آدم، وستنا حواء وستنا مريم، وفرعون وزوجة فرعون، وإبليس، والله سبحانه وتعالى الرب الأعلى، عند هذه الشخصية الأخيرة كانت تتوقف عن الكتابة. أربعون عامًا مرت من عمرها وهي تكتب، لا تستطيع أبدًا أن تقترب من هذه الشخصية، مع أنها الشخصية الرئيسية في جميع الأحداث؛ هي الأصل والسبب الأول، هي مصدر الأوامر، هي التي تحكم وتوقع العقاب أو الثواب، هي كل شيء وهي في كل مكان، ومع ذلك لا بد أن تكون مختفية وغير مرئية وغير موجودة أمام الناس. تركت المؤلفة المسرحية وكتبت رواية اسمها براءة إبليس، هكذا دخل اسم المؤلفة في عددٍ من قوائم الموت وليس قائمة واحدة.
وفي ليلة الرابع من أكتوبر ١٩٩٦ دُعيت المؤلفة إلى منزل الدكتور بروس لورانس، أستاذ بالجامعة، ورئيس القسم الديني، وزوج الدكتورة ميريام كوك، كانت الدعوة تشمل العشاء مع مشاهدة مسرحية يمثلها مجموعة من الطلبة والطالبات، درسوا الدين على يد الدكتور بروس لورانس، وضمن الكتب المقررة عليهم كانت روايتا «سقوط الإمام» و«براءة إبليس»، ومن هاتين الروايتين استوحى الطلبة والطالبات مسرحيتهم.
قبل بداية المسرحية كان طالبٌ يقوم بدور الراوي، قال: إن تجسيد الله أو الرب الأعلى على المسرح كان مستحيلًا، ليس خوفًا من دخول النار بعد الموت، وإنما هو عجز الخيال البشري عن تصور الله أو الروح أو الهواء أو اللاشيء داخل جسد مادي من لحمٍ ودم يتحرك فوق المسرح؛ كيف يكون شكل هذا الجسم؟ كيف يكون حجمه بالنسبة للشخصيات الأخرى؟ ماذا يكون لون بشرته؟ بيضاء مثل كلينتون رئيس أمريكا أم سوداء مثل الزنوج في نورث كارولينا؟ وإذا أصبح الله أسود البشرة فماذا يكون لون الشيطان؟! هكذا حذفت شخصية الله من المسرحية، ولم يتجسد منها شيء فوق الخشبة إلا الصوت، صوت الله فقط سمعناه بصوت أحد الطلبة المختفي وراء جدار.
بعد انتهاء المسرحية عادت المؤلفة إلى شقتها الصغيرة في شارع دوجلاس بمدينة ديرهام بولاية نورث كارولينا. كانت الساعة الحادية عشرة ليلًا. ارتدت قميص النوم إلا أن النوم لم يأتِ؛ أشياءٌ تدور في رأسها مثل خلية نحل، شخصيات في مسرحيتها القديمة تُبعث من الموت، يدبون بأرجلهم على الخشبة، تسمع الدبيب في رأسها، أخذت حمامًا ساخنًا لتطردهم دون جدوى، لم يكن أمامها إلا أن تنهض. أمسكت القلم وأخرجتهم من رأسها إلى الورق، كم ساعة جلستها تكتب تلك الليلة من أكتوبر؟ حين رفعت رأسها من فوق الورق كانت الساعة الواحدة ظهر اليوم التالي ٥ أكتوبر ١٩٩٦، ثلاث عشرة ساعة كتبت فيها المسرحية دون أن تتحرك من مقعدها.
قام بتلخيصها وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية الأستاذ عز الدين الشرجي (من المغرب) بجامعة ديوك بولاية نورث كارولينا بأمريكا الشمالية.