حسن الطويل
هو شيخنا الإمام العلَّامة حسن بن أحمد بن علي، شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين، وأحد من تفرَّد في مصر بالبراعة في المعقول والمنقول، أتقن العلوم العديدة مع الزهد الصحيح والورع، وعلوِّ النفس، والتأدب بآداب الشرع، والتمسُّك بالكمالات. وُلِد — كما سمعتُ من تلميذه الخاص الشيخ أحمد أبي خطوة — بقرية منية شهالة — إحدى قرى المنوفية — حوالَي سنة ١٢٥٠ﻫ. وذكر الشيخُ بشير الظافر في كتابه «اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالِم المدينة» أنه وُلد سنة ١٢٥٦ﻫ.
وتربَّى بهذه القرية، فقرأ القرآن الكريم وحفِظه، ثم انتقل إلى طنطا وهو صغير، فاشتغل بتجويد القرآن وحفِظ المتون بالمسجد الأحمدي نحو سنتين أو ثلاث، ثم حضر للقاهرة واشتغل بطلب العلم بالجامع الأزهر، فقرأ على شيوخ العصر مثل الشيخ محمد عليش المالكي، والشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ محمد الإنبابي، والشيخ أحمد شرف الدين المرصفي، فظهرت عليه النجابةُ، وابتدأ في حضور «السعد». وكان من دأبه في أول أمره معاكسةُ الشيوخ في الدروس بكثرة الأسئلة والمناقشات، حتى حدث ما اضطرُّه إلى الانقطاع عن الأزهر؛ وسببُ ذلك أن أبناء العُمد وأقاربهم طُلِبوا للدخول في الجندية بقانون وُضِع لذلك في عهد سعيد والي مصر سابقًا، ولما كان المترجَم من أقارب بعض مشايخ قريته، طُلِب وجُنِّد، وبقي مواظبًا على الصلوات والأوراد، وكان الوالي يكره من الجند من يصلِّي!
وحدث أن المترجَم جاءه من شيخه الشيخ أحمد شرف الدين المرصفي كتابٌ فيه استغاثة يأمره بتلاوتها عقب كلِّ صلاة؛ رجاء أن تُفرِّج كربَه وتُخلِّصه من الجندية، فوقع الكتاب في أيديهم، وعَدُّوه لذلك مذنبًا، وكان عقابُ المذنبين عندهم إهمالَ تعليمهم الفنون العسكرية وتشغيلهم في السكك الحديدية وما أشبهها من الأعمال الشاقة، فكان المترجَم يشتغل في هذه الأعمال بهمَّة زائدة تأديبًا لنفسه؛ لأنه ظن ما وقَع له عقابًا على جراءته على مشايخه، وكان سعيد باشا يُلقِّب المطيعين من الجند بالفراعنة، والعاصين المذنبين بالنماردة، فغضب مرة على النماردة وأمر بطردهم من الجيش، فخرجوا منه، إلا أنهم بَقُوا تابعين، وهم ما كانوا يُسمُّونهم «بالعساكر الإمدادية»، وخرج المترجَم معهم فأقام بقريته مدة.
ثم طُلِب إلى الجندية مرة ثانية، فذهب إليه أبوه ليُحضره من عند الشيخ خالد، وحاول هذا منعَه فلم يرضَ، بل عاد مع أبيه إلى قريته، وتبيَّن أنهم أهملوا طلبَه فحمد الله.
وأمره والدُه بالبقاء معه في القرية وحظَر عليه أن يعود إلى الصعيد، فضاق المترجَم بهذا الأمر، وخرج من القرية بغير علم أبيه وهو لا يملك شيئًا، وقصَد القاهرة ماشيًا، يبيت في أية بلدة تُصادفه، حتى وصل.
وذهب إلى الأزهر، فصادف الشيخ محمد السقاري في طريقه، فلما رأى المترجَم أسرعَ إليه وهشَّ له، وأخبره أنه يطلبه من مدة، ثم أنزله بداره وحلف أن يبقى بها شهرًا لا يتكلَّف شيئًا من عنده، وكان مرادُ السقاري أن ينظم قصيدةً يَمدح بها أحدَ الأمراء، فنظمها له، وأخذ السقاري عليها أربعين دينارًا جائزة.
ولما انقضى الشهرُ حفَّ اللهُ المترجَمَ بعنايته، فطلبه الشيخ حسن العدوي لتصحيح البخاري، وكان قد شرع في طبعه، فانتفع بأجر التصحيح، ثم طُلِب إلى ديوان الجهادية لتصحيح ما يُطبع به، فقابل هناك أحمد عبيد بك رئيس الترجمة، وامتحنه فأُعجب به، وكاد يطير فرحًا، وقال عنه: «هذا جوهرة خفيتْ علينا»، واستخدمه للتصحيح بالديوان، وسعى له حتى محَوا اسمَه من الجيش حتى لا يُعادَ طلبُه.
وفي هذه المدة عاد المترجَم لطلب العلم والاشتغال به، مع القيام بالتصحيح بالديوان، حتى شهِد له شيوخُه بالتأهيل للتدريس، فدرَّس بالأزهر، وكان أول درس قرأه في شوال سنة ١٢٨٣ﻫ وابتدأ فيه بالقراءة في الأزهرية، ولم يقتصرْ رحمه الله على العلوم المتداولة بالأزهر، بل بحث ونقَّب، واجتمع بالشيخ محمد أكرم الأفغاني فتلقَّى عنه العلوم الحكمية وبرع فيها، وتلقَّى عن تلميذه خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي، ونظر في الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية، وقرأ التاريخ قراءة إمعان وتدبُّر، وطالع كُتُبَ اللغة والأدب، ونظم الشعر السهل، وكتب الترسل البديع، وكان لا يسمع عن أحد يعرف علمًا إلا سعى إليه ليتلقَّاه عنه كائنًا من كان، حتى صار نسيجَ وحده، وقريعَ دهره في سائر العلوم، مع بُعْد النظر في السياسة، وسعة العقل، وسلامة العقيدة، وشدة الإنكار على البدع المستحدثات في الدين.
وقد قرأ عليه في الأزهر كثيرون من علمائه المشهورين، فكان الشيخ الأجلُّ أحمد أبو خطوة، والشيخ الإمام محمد عبده، والسيد أحمد الشريف، وإبراهيم (بك) اللقاني، والشيخ محمد راضي البوليني في الطبقة الأولى من تلاميذه.
ثم قرأتْ عليه طبقةٌ ثانية، منها: الشيخ عبد الرحمن فودة، والشيخ محمد الغريني، والشيخ عبد الرحمن قراعة، وقرأ عليه أيضًا الشيخ محمد بخيت، والشيخ داغر، والشيخ محمد المغربي، والشيخ أحمد الزرقاني، وغيرهم ممن لا يُحصَون، واختصَّ به الشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ راضي البوليني، والشيخ عبد الرحمن فودة، والشيخ عبد الرحمن قراعة، فكانوا يقرءون عليه في داره دروسًا غير الدروس الأزهرية، وصحبوه ولازموه، فانتفعوا به في دينهم وأخلاقهم فوق انتفاعهم بعلمه.
وبقي في هذه المدرسة إلى سنة ١٣١٧ﻫ، وكانوا قد شرعوا في الامتحان قبل الإجازة المدرسية كالعادة، فلما كانت ليلة السبت ١٧ صفر سهر كعادته، ثم ذهب لداره معافًى ليس به شيء، واستيقظ فتوضَّأ وصلَّى الصبح، ثم طلب الإفطار والقهوة، وأخَذ غفوةً كان فيها القضاء المحتوم، فلم تُشرق شمسُ ذلك اليوم إلا والنعاة ينعونه، والمؤذنون يؤذِّنون على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وأمَّ دارَه شيخُ الأزهر الشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد عبده المفتي، وجميعُ العلماء والفضلاء، وكبار نظارة المعارف، وتلاميذه من الأزهر ودار العلوم، وشُيعت جنازته تشييعًا سُنيًّا، فصلُّوا عليه في الأزهر، ودفنوه بمقابر المجاورين، رحمه الله وغفر له عدد حسناته.
وكان من عادته الخروجُ إلى الريف كلَّ خميس ترويجًا للنفس، فكان يذهب إلى الأميرية من ضواحي القاهرة عند تلميذه الشيخ عبد الرحمن فودة، فيقضي عنده الخميس والجمعة ويعود يوم السبت، فلما عرفْتُه صار يذهب للأميرية بعضَ الأخمسة ويسافر في بعضها إلى ضيعتنا التي بقويسنا، أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاءً، فكنتُ أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال، حتى في حالة المشي والتنزُّه كنتُ أحمل الكتاب معي وأُسمعه فيه فيقرر لي المسائل ونحن سائران.
وكان رحمه الله سُنيَّ العقيدة، صوفيَّ المشرب، لا يحيد عن الشرع قَيدَ إصبع، آخذًا بمذهب الإمام ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، مُنكرًا على المبتدعة أشدَّ إنكار، آيةً من آيات الله في معرفة التفسير وحلِّ مشكلات الكتاب المبين، متضلعًا من الحديث، متحصنًا بالشريعة في كلِّ علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوُّف أو رياضيات أو طبيعيات، وخُصَّ باستحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستشهاد بها على حلِّ المشكلات الدينية، فكان أمرُه في ذلك عجبًا، وشأنُه فيه مستغربًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومع انحراف علماء الأزهر عنه؛ لإنكاره عليهم بِدَعَهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرِّين بفضله، وكثيرًا ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحلِّ مشكلاتها، والردِّ على الطاعنين عليها من أرباب النِّحَل الأخرى أو المرتدِّين.
أما أخلاقه فزهدٌ غريب، وعلوُّ نفس عن الدنايا، وبُعْدٌ عن الرياء، وتواضع مع كل إنسان، وسذاجة في المطعم والملبس والمسكن، لا يُنفق على نفسه من مرتبه إلا القليل، ويتصدَّق بالباقي في الخفاء، فلما مات قام الصراخُ في دور كثيرة يسكنها فقراءُ وأراملُ، كان يعولهم كلَّ شهر بما فضل من نفقته، وما علِم بهم أحدٌ قبل موته حتى أقرب الناس إليه وأخصهم به.
وكان كثيرَ الاشتغال بأمور المسلمين، دائمَ الهموم لمَا أصابهم من التأخُّر في مشارق الأرض ومغاربها، منتظرًا فرجًا يأتيهم، ولطفًا من الله يحفُّهم، فتقوم فيهم دولةٌ شعارها الدين تقوى على جمْع شملهم؛ ولذلك لما قام المهدي بالسودان وانتصر انتصاراتِه المشهورة واستولى على البلاد السودانية، أحسن المترجَم فيه الظنَّ وقام بنصرته بقلبه ولسانه، وبلغ الإنجليز ذلك فسيَّروا وراءه عينًا يُخبرهم بحركاته وسكناته، وكاد يقع فيما لا تُحمد عقباه، لولا أن سلَّمه الله.
أما سببُ اجتماعي به وقراءتي عليه فإني كنتُ خرجتُ من المدارس بعد تلقِّي ما يُتلقَّى بها من العلوم المعروفة وأنا في سِنِّ العشرين، وقد عَلِق بالعقيدة شيءٌ من آثار التربية بهذه المدارس، إلا أني كنتُ مُولعًا من الصغر بالإسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرحُ صدري لأشياء وينقبض من أشياء تَعرض لي فيها شبهاتٌ، ثم كنتُ أعرض ما يَظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسَّكوا بها وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم، فصرتُ أتردَّدُ على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم لعلِّي أجدُ عندهم مفرجًا، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدتُ أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائرٌ بين شيئين: فإما أن يكون الدينُ دينَ خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباعُ السليمة. وإما أن يكون ما نراه حقًّا ولكن يمنعنا من قبوله إلحادٌ تأصَّل في النفس، حتى أرشدني بعضُ الأصحاب للمترجَم، فأخذتُ في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفِّرونني منه، حتى بالغ بعضُهم — عامله الله بما يستحقُّ — ورماه بالزندقة. فقلت: إذا كنتُ لم أجد طَلْبتي عند من تَسِمونهم بالصلاح والورع، فلعلي أصيبها عند الزنادقة، ثم سعيتُ في الاجتماع به، وسألتُه القراءةَ عليه والاهتداء بهديه، فقرأتُ عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدتُ عليه الصرف بتوسُّع وعلوم البلاغة، ثم قرأتُ طرفًا من الحكمة في شرح الدواني على هياكل النور للسهروردي، وشرح «رسالة الزوراء» وغيرهما. ولما رآني مجدًّا في التحصيل، قرَّر لي درسًا ثانيًا بعد العشاء كنا نقرأ فيه كُتُب الأدب ونحوها، وأنا في كل هذه المدة أستوضح منه ما أُشكل عليَّ فيحلُّه لي، فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نِعم الله عليَّ في ديني.
وكثيرًا ما كان يغضب مني ويؤنِّبني إذا رأى مني تهاونًا في الصلاة، فعليه رحمة الله تعالى.