حسونة النواوي
وُلِد الشيخ حسونة بن عبد الله النواوي سنة ١٢٥٥ﻫ في قرية «نواي» التابعة لملوي من أعمال أسيوط، ولما ترعرع حضر إلى الأزهر وتلقَّى به العلم على شيوخ وقته، وكان حضوره الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن البحراوي، والمعقول على الشيخ محمد الإنبابي، والشيخ علي بن خليل الأسيوطي.
وألَّف في أثناء ذلك كتابَه: «سلم المسترشدين» في الفقه الحنفي لتلاميذ مدرسة الإدارة، وقد سطَع نجمُه وتألَّق، وأصبح علَمًا خفَّاقًا يهتدي به الحائرون.
وحينما بدأ إصلاحُ نظام الأزهر وإدخال بعض العلوم الحديثة فيه؛ كالرياضيات وتقويم البلدان والتاريخ وغيرهم، بسعْي الإمام الشيخ محمد عبده، ثم تأليف مجلس لإدارته، مع إبقاء الشيخ محمد الإنبابي شيخًا له، واختير الشيخ حسونة رئيسًا لهذا المجلس بعد أن رشَّحه لذلك بعضُ كبار رجال الحكومة ممن سبق لهم التلقِّي عليه بمدرسة الإدارة، فأخَذ في إدارة أمور الأزهر حتى انحصرتْ فيه كلياتها وجزئياتها، ولم يصبر الشيخ محمد الإنبابي على ذلك، واعتلَّتْ صحتُه، فاستقال في ٢٥ ذي الحجة سنة ١٣١٢ﻫ، وأُقيل في ثاني المحرم ١٣١٣ﻫ.
وكانت توليةُ الشيخ حسونة مكانه ضدَّ رغبة العلماء الأزهريين؛ إذ كانوا يرون أن فيهم مَن هم أكبر سنًّا وأكثر علمًا وأحق بالرياسة عليهم منه، ولأنه جاء مؤيدًا لتدريس الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما إليها في الأزهر، وكانوا ينفرون منها بدعوى أنها علومٌ مستحدثة، وما هي إلا علوم قديمة اشتغل بها المسلمون وألَّفوا فيها، وكانت تُدرَّس بالأزهر قبل انحطاطه، وإنما نفروا منها لبُعدِ عهدِهم بها، ولظنِّهم أنها من علوم الإفرنج وأنها ما أُدخلت في الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها.
كذلك كان من أسباب ضيق الأزهريين بتولية الشيخ حسونة شيخًا للأزهر، أنه تولَّى خلفًا للشيخ الإنبابي المشهود له بالعلم والفضل والتقوى بين الخاصة والعامة، وقد أشاع بعضُ الحاقدين أن الشيخ حسونة مطبوعٌ على الشدة والجفاء في مخاطبة الناس ومعاملتهم، وأنه بعد التولية داخَله شيءٌ من الزهو والخيلاء، كما أشاعوا أنه ممالئٌ للإنجليز على هدم مكانة الأزهر بإدخال العلوم الجديدة فيه.
وفي عهد توليته على الأزهر، وقعتْ حادثةُ الوباء التي امتنع فيها الطلبةُ بإغراء بعض متهوريهم عن الإذعان لأوامر الحكومة، واعتصموا بالأزهر، وقاوموا رجالَ الشرطة ورمَوهم بالأحجار، حتى أُصيب محمد ماهر «باشا» محافظ القاهرة بحجر أدمَى وجهَه، فأُحيط بهم ورُمُوا بالرصاص، فجُرح بعضهم، ثم قُبض على زعمائهم، وحُكِم على بعضهم بالسجن وعلى البعض الآخر بالنفي، وأُغلق رُواق الشوام لأن حركة التمرد بدأتْ منه.
وانتهز هذه الفرصة أعداءُ الشيخ النواوي وانتصروا للطلبة، وأخذوا يرمُون الشيخَ بالضعف والتهاون عن الدفاع عن حُرمة المسجد والمحاماة عن أهله، فردَّ الله كيدَهم في نحورهم.
ولما تُوفي الشيخ محمد المهدي العباسي سنة ١٣١٥ﻫ، أُضيف منصب الإفتاء الذي كان يشغله إلى الشيخ النواوي بجانب رياسة الأزهر.
واستمرَّ الشيخ النواوي جامعًا للمنصبَين، حتى وقع الخلافُ الكبير أواخر سنة ١٣١٦ﻫ بشأن إصلاح المحاكم الشرعية، وعُرِض على مجلس شورى القوانين اقتراحٌ بندْب قاضيَين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية ليُشاركا قضاةَ المحكمة الشرعية العليا في الحكم، فوقف الشيخ حسونة ضد ذلك الاقتراح، وجرتْ مناقشةٌ بين الشيخ ورئيس النظار مصطفى فهمي «باشا» انتهت بأن غادر الشيخ المجلس مغضبًا محتجًّا.
وأكبَر الناسُ موقفَ الشيخ، ولا سيما بعد أن سرَى إلى الأذهان أن الحكومة تُريد هدمَ الشريعة بذلك المشروع، ولكن النظار أحفظَهم ما واجه به الشيخُ رئيسَهم، وحرَّك ذلك ما كان في صدورهم منه يوم أرادوا منْعَ الحج احتجاجًا بالوباء، واستفتوه ليجعلوا فتواه عصًا يتوكئُون عليها كلما أرادوا منْعَ الحج، وظنوا أنه يوافقهم، لكنه أخلف ظنَّهم وأفتى بعدم جواز المنع، فلما كانت حادثتُه مع رئيس النظار، شكَوه إلى الخديو وطلبوا عزلَه.
وحاول الخديو حمْلَ الشيخ على قَبول الاقتراح بعد تعديله وتغيير ما يراه مخالفًا الشرعَ منه، فأصرَّ على الامتناع، وقال: «إن المحكمة الشرعية العليا قائمةٌ مقام المفتي في أكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير في الاقتراح فإنه لا يُخرجه عن مخالفته للشرع؛ لأن شرط تولية المفتي مفقودٌ في قضاة الاستئناف.»
وتألَّم الخديو من الشدة في كلام الشيخ، فمال لرأي نُظَّارِه فيه، ثم أصدر أمرَه يوم السبت ٢٤ المحرم سنة ١٣١٧ﻫ بعزْل الشيخ عن رياسة الأزهر والإفتاء، وإقامة ابنِ عمِّه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخًا على الأزهر، والشيخ محمد عبده المستشار بالاستئناف الأهلي مفتيًا.
ولما أُذيع الأمر كثرتْ وفودُ العلماء والوُجهاء على دار المترجَم، وانطلقت الألسنةُ بمدحه والثناء عليه، وتعلَّقت به القلوبُ، وأقبل الناسُ عليه أيَّ إقبال، وتحققوا بطلان ما اتهمه به خصومُه.
والحقيقة أن الشيخ لم يُعهَد عليه ما يشين دينَه ولا دنياه، بل عُرِف بالعفة وعلوِّ الهمة ونقاء اليد. ولولا جفاءٌ كان يبدو بعضَ الأحيان في منطقه، وشدةٌ فيه يراها بعضُ الناس غِلظة، ويَعُدُّها البعضُ شهامة، لحفِظ ناموس العلم، خصوصًا مع الكبراء الذين أفسدهم تملُّقُ علماء السوء وحملهم على الاستهانة بهذه الطائفة.
ولم يزل المترجَم معتكفًا في داره، مقبلًا على شأنه، حتى انتقل إلى دارٍ ابتناها بجهة القبة، ولم يقم ابنُ عمه في الأزهر طويلًا، بل تُوفي فجأة بعد نحو شهر من ولايته سنة ١٣١٧ﻫ، فوُلي على الأزهر الشيخ سليم مطر البشري المالكي، ثم استقال فأُقيل يوم الأحد ٢ ذي الحجة سنة ١٣٢٠ﻫ، وأراد الخديو إعادةَ المترجَم أو توليةَ الشيخ محمد بخيت، فلم يوافق النظار، ثم تولَّى على الأزهر الشيخُ علي بن محمد الببلاوي المالكي نقيب الأشراف، واستقال يوم الثلاثاء ٩ المحرم سنة ١٣٢٣ﻫ، فأُقيل يوم السبت ١٢ منه، وفي اليوم التالي عُيِّن الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي شيخًا للأزهر، ثم استقال فأُقيل يوم الأربعاء ١٦ ذي الحجة سنة ١٣٢٤ﻫ، ورُتِّب له ١٥ دينارًا مصريًّا في الشهر من الأوقاف الخيرية ليكمل مرتَّبه ٢٥ دينارًا، وفي اليوم نفسه أُعيد الشيخ حسونة النواوي شيخًا على الأزهر، ولكنه لم يمكثْ في المنصب طويلًا بسبب اختلالِ الأحوال في الأزهر، فاستقال سنة ١٣٢٧ﻫ، وأُعيد إلى الأزهر الشيخ سليم البشري، ولزِم المترجَمُ دارَه بالقبة يزوره محبُّوه ويزورهم حتى آخر حياته، وكان خلال توليته الأُولى قد عُيِّن عضوًا دائمًا غير قابل للعزل بمجلس شورى القوانين؛ ولهذا بقي في المجلس بعد عزله من الأزهر والإفتاء، حتى أُلغي المجلس واستُعيض عنه بالجمعية التشريعية سنة ١٣٣٢ﻫ.
وقد أُصيب الشيخُ في أواخر أيامه بأمراض ووهنٍ في القوى وضعفٍ في النظر، وانتقل إلى رحمة مولاه صباح يوم الأحد ٢٤ من شوال سنة ١٣٤٣ﻫ، ودُفِن بقرافة المجاورين.