أحمد مفتاح
هو العالِم الشاعر الناثر الشيخ أحمد بن مفتاح بن هارون بن أبي النعاس، ينتهي نسبُه إلى عُمَار — بضم العين المهملة وتخفيف الميم — أحد العرب النازلين من الصفراء إلى أرض مصر حوالَي القرن العاشر، وبين أبي النعاس وعُمار جدَّان أو ثلاثة.
وقطن هارون الجد الأدنى للمترجَم في بلدة على الشاطئ الغربي للنيل بإقليم المنية تابعة لبني مزار، أنشأها حسن بن عبد العزيز أحدُ أجداد المترجَم من جهة والدته، وهي بلدة صغيرة اشتهرتْ بين العامة باسم بني عجيز محرَّفًا عن أبي عزيز، يعنون به حسن بن عبد العزيز مؤسسها على عادتهم في تكنية الرجل باسم أبيه، وما زال هارون المذكور بها حتى وُلِد له مفتاح أبو المترجَم سنة ١٢٢٩ﻫ، وكان في هذه البلدة رجلٌ اسمه علي أبو محمد من أقارب والدة المترجَم جعلتْه الحكومة شيخَ المشايخ، وهو لقب كان يُطلق إذ ذاك على من يحكم عدة بلاد، وكان جائرًا في معاملته، فاعتدى على أناس من أهل البلد بالضرب حتى أشرفوا على الهلاك، فاضطرَّ بعضُ أهلها إلى الشكوى للمدير مستعينين بعلي أفندي الشريعي والد حسن باشا الشريعي، وبعد اللتيا والتي ساعدوهم على الانفصال فانفصلوا واختطوا بلدة أخرى شماليَّ أبي عزيز سنة ١٢٦٤ﻫ سمَّوها نزلة عمرو، وانتقل إليها هارون بولده أبي المترجم وابتنَى بها دارًا كبيرة، وبقي بها حتى مات بعد أن أسنَّ، وكان سديد الرأي يُرجع إليه في المشكلات.
حجَّ مفتاح أبي معتمرًا ١٣٠٤.
ومات سنة ١٣٠٨ﻫ، وكان طويلًا، خفيفَ اللحية، وقد وخطَها الشيبُ، وكان اشتغالُه بالزراعة دون غيرها، ويتحرَّى الحلال في كسبه، ويقول الحق ولو على نفسه، وتعلَّم القراءة والكتابة في الكِبَر ولم يُجِدْهما.
ولما وصل نعيُه إلى ولده المترجَم بالقاهرة رثاه على البديهة بقوله:
وكانت ولادةُ المترجَم ليلة السبت الرابع من شعبان سنة ١٢٧٤ﻫ، ونشأ بالبلدة المذكورة في حياطة والده، وابتدأ القراءة على الشيخ جاد المولى، فقرأ عليه القرآن وبعض المتون، ومكث بعدها نحو ثلاث سنوات، ثم حضر إلى القاهرة سنة ١٢٨٩ﻫ لطلب العلم بالجامع الأزهر، وتلقَّى عن شيوخ وقته، فقرأ النحو: على الشيخ محمد الشعبوني المغربي، والشيخ عرفة سالم السفطي، والشيخ عبد الله الفيومي، والشيخ محمد البحيري، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد الإنبابي، والفقه الحنفي: على الشيخ عبد الرحمن السويسي، والشيخ صالح قرقوش. وحضر بعض دروس الأستاذ الكبير الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر ومفتي مصر إذ ذاك، والبيان: على الشيخ عرفة، والشيخ علي الجنائني، والشيخ محمد البحيري، وآداب البحث: على الشيخ محمد البحيري المذكور، والمنطق: على الشيخ محمد عبده، والشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد البحيري، والعَروض: على الشيخ محمد موسى البجيرمي.
وفي أثناء مجاورته كان مسافرًا من بلدته إلى القاهرة في سفينة كبيرة أيام زيادة النيل، ونزل يغتسل على سكان السفينة مع جماعة، فانحدر مع الماء في وسط النيل، وتبعه أحدُ المغتسلين لإنجاده، فما زال سابحًا حتى كلَّت سواعدُه وكاد يغرق، ثم نجا، وخرج على الشاطئ الغربي للنيل، وأرسل له من بالسفينة زورقًا وصل به إليها، وسافر مرة من القاهرة عائدًا إلى بلدته في سفينة، فتشاحن مع ربَّانها تشاحنًا أدَّى إلى إخراجه منها، فخرج إلى بلدة يقال لها الرقة بإقليم بني سويف، لا يملك شروَى نقير سوى كتاب مخطوط رهنه في أجرة القطار إلى بلدته، وله نوادرُ كثيرة أمثال ذلك من المشي على القدمين مسافات بعيدة، والمبيت على الطوى في كل غدوة وروحة بين القاهرة وبلدته.
وبعد أن قضى سبع سنوات بالأزهر مجدًّا في طلب العلم ومباحثة الشيوخ، عاد إلى بلدته ومكث بها نحو سنتين مشتغلًا بحفظ الشعر ونظمه، ولم يكن له بالأزهر كبيرُ عناية به لانصرافه إلى تحصيل العلوم.
ثم حضر إلى القاهرة، ودخل مدرسة دار العلوم سنة ١٢٩٨ﻫ فأعاد بها معظمَ العلوم العربية مع الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المشهور بالمقدمة على الشيخ حسين المرصفي، ثم خلفه في تدريس اللغة العربية شيخنا الشيخ حسن الطويل، فتلقَّى عنه بعض المثل السائر، ورسالة ابن زيدون الهجوية، والزوراء للجلال الدواني في الحكمة، وانتفع به كثيرًا، وقال فيه وفي الأستاذ المرصفي:
وتلقَّى التفسير والحديث بالمدرسة عن الشيخ أحمد شرف الدين المرصفي، والفقه الحنفي عن الشيخ حسونة النواوي، والعلوم الطبيعية والرياضية على أساتذة آخرين بالمدرسة، ثم خرج منها بعد أن نال الشهادة الدالة على براعته سنة ١٣٠٢ﻫ، فقال بعد مفارقته المدرسة مضمِّنًا:
واشتغل بعد خروجه من المدرسة بالكتابة في صحف الأخبار كالأعلام والقاهرة، وبالتدريس لبعض أناس منهم السيد توفيق البكري.
وكان الشيخ مريضًا بمرض يُعرف عند الأطباء بتصلُّب الشرايين، وهو لا يعلم بأمره ولا يهتم بنفسه، حتى اشتدَّ عليه أخيرًا وهو يظنه ضيفًا مرتحلًا، ثم تركه الخادم وعاد لبلده، فبقي وحيدًا بالدار حتى أدركه أجلُه المحتوم فجأة والأبواب مغلقة عليه، وبقي أيامًا لا يعلم به أحد، حتى ظهرت رائحتُه للجيران، فأخبروا رجال الشرطة، فحضروا وكسروا الأقفال فألِفوه مائلًا في سريره وجزء من كتاب الأغاني ملقًى بجانبه، وكان ذلك يوم الأحد ٢٨ من المحرم سنة ١٢٢٩ﻫ، وقرر الطبيب أنه مضى على وفاته ثلاثة عشر يومًا، فنقلوه ودفنوه، تغمَّده الله برحمته.
أقول الشعر عن فكر سليم ١٢٩٨.
ونظم بعد ذلك القصائد المتينة، والمقطعات السمينة، وكان ينهج فيها منهجَ العرب لكثرة نظره في دواوينها، واقتناء الكثير منها استنساخًا أو نسخًا بيده، ولو تمَّ له الخيال الشعري كما تمت له الديباجة وجزالة الألفاظ لكان أشعرَ أهل زمانه بلا منازع.
وكان رحمه الله غريبَ الأطوار، سريع الغضب، سريع الرضا، مع صفاء الباطن، له شذوذ في أخلاقه يتحمله مَن عرَفه وعاشره، أسمر اللون، أسود اللحية والشاربَين كبيرهما، أميل إلى الطول، له هزة وتخَطُّر في مشيه لمرض كان أصابه في ظهره ورِجليه.
ومات ولم يُعقِّب غير بنتين زوَّجهما في حياته. ومن شعره قوله يرثي صديقَه محمد بك بيرم ابن الشيخ بيرم التونسي ويُعزِّي أخويه: