محمد أكمل
هو محمد أكمل بن عبد الغني بك فكري ابن لطف الله بن حسين الشاعر الأديب الظريف، وُلِد بالقاهرة ونشأ بها، واعتنى والدُه بتعليمه وتهذيبه، ثم أدخله في مدة الخديو إسماعيل الديوانَ الخديوي للتعلم كتلميذ، وكان من كبار كُتَّاب هذا الديوان، فجوَّد الخط به وألمَّ باللغة التركية، وكان له حدبةٌ بظهره شوهت خلقَه، ورأى والدُه ألا مطمع في استخدامه بمنصب لائق لحدبته وقِصَر قامته فاستحسن له طلبَ العلم بالأزهر. وكان يرجو أن يكون من كبار العلماء، فلازم الطلبَ به، وقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ أحمد المنصوري، والشيخ محمد البجيرمي، وكان أحدبَ مثله، وكثيرًا ما كان يُقعده بجواره في حلقة الدرس، ثم انقطع عن الطلب ولازم والدَه، وكان والده جَمَّاعةً للكتب مغاليًا في اقتنائها شراءً واستنساخًا، يُنفق عليها جُلَّ ما يصل ليدِه، ويحيي الليالي في مقابلة ما يستنسخه منها وتصحيحه وضبطه، فكان المترجَم يُعاونه في ذلك، واطَّلع بهذا السبب على كثير من الكتب العلمية والأدبية والدواوين الشعرية، عاشر مَن كان يجتمع بوالده من العلماء والأدباء وتردَّد عليهم واستفاد منهم، وعرَف مدةَ طلبِه بالأزهر كثيرًا من أدبائه وشعرائه المجيدين: كالشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ أحمد مفتاح، وحفني «بك» ناصف، وغيرهم، فاستفاد منهم أيضًا، ونظم الشعر والزجل وأدوار الغناء، واشتهر بحُسن المحاضرة وملاحة التندير وسرعة الجواب وخفة الروح. وكان كثيرًا ما يجعل محور تنديره دائرًا على حدبته فيأتي بما يُضحك الثكلَى، بل كان لا يأنف من ذكرها في شعره، كقوله من زجل في الوباء الذي حلَّ بمصر سنة ١٣٢٠ﻫ وما فعله الأطباء من الهجوم على الدور وترويع ربَّات الخدور:
ومن ولوعه بحدبته شرع في جمع كتاب في نوادر الحدبان وما قيل فيهم من الأشعار وتراجم مشهوريهم، أخبرني أنه جمَع منه جزءًا إلا أنه لم يُتمَّه.
ونُقِل والده مدة محمد توفيق الخديو من الديوان إلى المحاكم الأهلية قاضيًا، وتُوفي يوم الثلاثاء ٢٩ المحرم سنة ١٣٠٧ﻫ وخلف له ولإخوته ضيعةً بالصعيد، أصاب المترجَم منها ٦٠ (ستون) فدانًا باعها وبدَّد ثمنَها بالإسراف، حتى احتاج للاستخدام بديوان الأوقاف بمرتب قليل دون الكفاف، وعاش في ضيق ومضَض بعد ما تعوَّده من السعة والرفاهية، وأخذ يتقرب للخديو بنظم التواريخ في كل عيد واحتفال، وحِلٍّ وتَرحال، وينشرها في صحف الأخبار رجاء أن تبلغَه فيأخذ بيده، فلم يستفدْ شيئًا وراح تغزُّلُه في الريح، وكان قصر شعره في أواخر عمره على هذه التواريخ فنظم منها الغثَّ والسمين، وكنا إذا قرُب عيد أو سفر أو قدوم للخديو لا ننتفع به لاشتغاله بالنظم والحساب وإعمال الروية، فيصير هذا ديدنه في غدوه ورواحه وقيامه وقعوده، حتى يمُنَّ الله عليه بشيء يرتضيه.
وترك له والدُه غير الضيعة دارًا بسوق الزلط بيعت أيضًا، وترك خزانة كُتُب كبيرة قلَّ أن تُضارعَها خزانةٌ في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها وأتعب نفسَه في تصحيحها وضبطها وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الورَّاقين، واتخذ له في داره مصنعًا للتجليد واستخدم عدة نُسَّاخ أجرى عليهم المرتبات فاختصُّوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه. وكان هو وعبد الحميد «بك» نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان، أخبرني المترجَم عن والده أنه بلغه أن تاجرًا من الورَّاقين قدِم من سفر بكُتب أوصاه عبد الحميد «بك» نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري، وكان إذ ذاك لم يُطبع بل لا يُعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالًا فوق قيمة الديوان على أن يعيرَه له يومًا وليلة فقط يُطالع فيه، فرضي وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففكَّ له تجليدَه وأحضر في الحال عدة نساخ فرَّقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمضِ اليوم والليلة إلا وقد رُدَّت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد «بك» وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له: خفِّض عليك يا أخي هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة.
وبلغه مرة وهو يسمرُ مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك، حتى اهتدى إليها بعدما مضى هَزيعٌ من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها، ولم يمهلْه للصباح، بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحَه ليلًا وأخرجها له، ولم يهدأْ له بال حتى باتت الرسالة عنده.
وكان أول التقائي بالمترجَم في دار ابن أختي محمود توفيق «بك»، وهي إذ ذاك مجمعُ الأدباء ومحطُّ رحال الفضلاء، فلما رأيتُه استغربتُ شكلَه واستملحتُ محاضرتَه، ثم رأيتُه يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيرًا في أول الطلب، وقد تعذَّر عليَّ فهمُ باب أفعل التفضيل وأجهدتُ نفسي في درسَين متواليين على تفهُّمه فلم يُفتح عليَّ بشيء فيه، فسألتُه عنه فأوضحه لي بعبارة سهَّلت عليَّ فهمَه، فكان بعد ذلك كثيرًا ما يقول لي ممازحًا: إذا ذكرتَ شيوخَك فاذكرني معهم ولا تنسني.
ثم تأهَّل ببنت حنفي «بك»، وكان لأسرتها نوعُ اتصال بنا، فاتصلت المودةُ بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمتُه لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كلِّ يوم ويبقى حتى نسمرَ معًا ثم ينصرف، فتارةً كنا نُحيي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية أو بمطالعة بعض الكتب، وتارةً بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يملُّ من المقابلة مهما يطُل الوقتُ فيها ويقول: هذا شيء دربني عليه والدي وعوَّدني إياه من الصغر.
وأشار عليَّ مرة أستاذُنا العلَّامة محمد محمود الشنقيطي أن أُطالع «أمالي أبي علي القالي» مطالعةَ إمعانٍ وتدبُّر، ولم تكن طُبِعت بعدُ، فاستنسختُ منها كراريس عكفتُ على مطالعتها، وأخبرت المترجَم أنني سأحتجب عن الناس بضعةَ أيام حتى أستوفيَ ما بهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام، ثم حضر ومعه هذا الزجل يُنْحِي فيه على الأستاذ وعلى أبي علي القالي اللذين تسبَّبَا في انقطاعي عن الإخوان، ويَذكر فيه بعضَ مَن كان يجتمع بنا:
المذهب
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور الاستغفار
دور الختام
وإنما يظهر حُسن هذا الزجل لمن يعرف المذكورين فيه فيطبِّق ما ذكره عنهم على هيئاتهم وأحوالهم، ومراده بالقدوري والدميري شخصان كان يلقبهما بهذين اللقبين، والسبب في ذلك أنني أطلعتُه على رسالة عندي جمعها الشيخ أحمد الفحماوي صاحب الخط الحسن المشهور بكتابة لزوم ما لا يلزم للمعرِّي، وسمَّاها «بنات أفكار وعرائس أبكار» في ألقاب أهل العصر، ذكر بها كُنى وألقابًا وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر عبد الحميد بك نافع وإبراهيم أفندي طاهر الشاعر الرقيق المشهور على سبيل المزاح والدعابة، فلقَّبَا كلَّ واحد بلقب شاعر متقدم أو رجل مشهور يوافق اسمُه هيئةَ الملقب به أو شيئًا يغلب على أخلاقه وأحواله، كتلقيبهما مصطفى أفندي المنعوت بكامل بالعكَّوك لأنه كان قصيرًا جدًّا معوج القدمين، وتلقيبهما الشيخ محمد الرافعي الكبير شيخ رواق الشاميين بالأزهر وأحد كبار علمائه بملا مسكين لأنه كان نحيفًا وبقوامه بعض احْدِيداب يُرى كأنه تواضع وانكسار، وتلقيبهما عبد الغني «بك» أبا المترجم بالأخطل؛ لأنه كان ضخم الجسم كبير الهامة.
فلما اطَّلع المترجم عليها جُنَّ بها جنونًا، وشرع في وضع رسالة تُماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركتَه فيها كما فعل ذانِك الأديبان، فامتنعت خشيةَ اللوم، فانفرد هو بتأليفها، وأتى فيها بغرائب ذهب أغلبُها عن الذهن لطول العهد، فمن ذلك تلقيبه للعالِم الفاضل علي رفاعة «باشا» ابن رفاعة «بك» المشهور: بابن المقفَّع لنحافته ودخول شِدقَيه، وتلقيبه للعالم الفاضل يحيى أفندي الأفغاني: بالقدوري لغرابة شكله وقِصَر ساقَيه تشبيهًا له بالقِدر من الفخَّار، والقدوري اسم عالِم من الحنفية مشهور، وكان الشيخ محمد الحفني المهدي ابن أخي مفتي مصر الشيخ العباسي المهدي ولِعًا بذمِّ الناس، منقِّبًا عن معايبهم، لهجًا بها في المجالس، لم يسلم منه أحد حتى عمه، واشتهر بذلك حتى أبغضه عارفوه وتحاموا عن الاجتماع به، فلقَّبه: بابن هرمة، وهي كلمة سبٍّ عند العامة، فقلت له: هذا لا يستقيم لك؛ لأن ابن هرمة الشاعر بفتح أوله، فتأفَّف وقال: لا أجد له لقبًا ينطبق عليه غير هذا، فدعني من شنقيطيتك.
ثم لما فرغ منها سألتُه عما لقَّب به نفسه، ففكَّر وقال: أحسن لقب ينزل عليَّ: ابن قتيبة، ثم تركه وتلقَّب بالمقوقس، وضاعت هذه الرسالة فيما ضاع من أوراقه وأشعاره، ويغلب على الظن أنه مزَّقها لأنه وقع له بسببها نفورٌ بينه وبين بعض مَن لقَّبهم، فإنه لما لقَّب صاحبنا وصاحبه الشيخ أحمد مفتاح لسلامة طويته: بالأبله البغدادي، غضب منه وكاد يتفاقم الشرُّ بينهما، وغضب منه صاحبٌ آخر كان قصيرًا ممتلئًا يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط؛ لأنه لقَّبه بابن بطوطة، فأخفى الرسالة لهذا السبب وطوَى ذكرها.
وكان رحمه الله مجيدًا في الزجل، متقنًا لصياغة الأدوار التي يُتغنَّى بها، وأكثر ما كان متداولًا منها بين المغنِّين في عصره كان من نظمه، وأما شعره فالإجادة فيه قليلة، إلا ما ضمَّنه النكت والتنديرات العامية، فمن أحسن ما وقفت عليه منه قوله من مرثية في صاحبه علي رفاعة «باشا»:
وقال موريًا باسم الطبيب سعد «بك» سامح:
وقال موريًا باسم محمد ثابت:
ولما مرضت شقيقتي السيدة عائشة التيمورية وأحستْ بدنو الأجل، نظمت في مرضها أبياتًا لتُكتَب على قبرها، وتركت مصراع التاريخ لمن ينظمه بعدها، وهي:
فنظم المترجم التاريخ بقوله: [قبر لعائشة سما بجنان = ٣٠٢–٨١١–١٠١–١٠٦].
وله عجائب مما ذهب عن الذهن الآن، ولكثرة ممارسته للتواريخ الشعرية كان يأتي فيها أحيانًا بغرائب في إبراز المقصود بدون حشو، كقوله في تاريخ ولادة ولده عبد الغني: «عبد الغني بن أكمل.»
ولم يشتهر ولده عبد الغني «بك» بعلم، بل كان بارعًا في الكتابة التركية والعربية فقط، وكان يقرض الشعر أحيانًا، فمن ذلك قوله هاجيًا الشيخ مصطفى قشيشة، مدعيًا أنه لم يرُدَّ إليه كُتبًا استعارها منه، وكان الرجل من الفضلاء، وكانت له زريبة لتربية البقر يتكسَّب منها ببيع اللبن، فقال فيه:
وقال فيه أيضًا:
والجلة عند العامة هي روث البقر، ولا يخفى ما في القصيدة من الضرورات، كقوله: «أنسى» ولا يستقيم الوزن إلا بحذف الياء، وقوله: وتمادى الضلال، فعدَّاه وهو لازم، وغير ذلك.
فلما اطَّلع الشيخ مصطفى على القصيدة والبيتين طلب من صديقنا الشيخ أحمد مفتاح أن يجيبَه على لسانه، فنظم قصيدة وبيتين من البحر والقافية في ٢٤ ذي الحجة سنة ١٣٠٤، فقال:
يشير بهذا البيت إلى قول عبد الغني بك: دمت في منقع الخ …
وقال:
رحم الله الجميع وتغمَّدهم بعفوه وغفرانه.