محمد الإدريسي
هو الإمام السيد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس، وُلِد في صبيا سنة ١٢٩٣ﻫ وتلقَّى العلوم الدينية بمسجد جده بها، ثم أتى مصر سنة ١٣١٤ﻫ وأخذ العلوم الدينية والعربية في الأزهر الشريف، وكان أيام تحصيله مكبًّا على الاجتهاد، مواظبًا على الحضور في حلقات التدريس لدى مشاهير العلماء.
وفي سنة ١٣١٧ﻫ زار السيد محمد الهدى السنوسي بالكفرة عن طريق الجغبوب، ثم عاد إلى الأزهر الشريف فبقي إلى أواخر سنة ١٣٢١ﻫ.
وبعد إتمام التحصيل، توجَّه إلى دنقله، وزار قبر عمه سيدي السيد عبد العال الإدريسي، وبقي هناك مدة، ثم عاد إلى صبيا، ووصل إليها سنة ١٣٢٣ﻫ الموافقة سنة ١٩٠٥م، فوجد كثيرًا من أتباعه وأتباع أبيه وجده متعطشين لطريق يُبيِّنه لهم ويسلكونه، فشرع يبيِّن لهم ما هو الأصلح لدينهم ودنياهم، وأرشدهم الإرشاد الذي يستنيرون به، وصار يُمهِّد لهم طُرق العدالة والوقوف على حدِّ أحكام الشرع الشريف.
وكان جميع الذين حوله وبعض البعيدين عنه والسامعون بحُسن سيرته وعظيم مجده يقصدون إليه للتلقِّي عنه والسير على طريقته المحمودة، ولم يلبث قليلًا حتى وجد أتباعًا وأنصارًا يقولون بقوله، ويعملون بعمله، ويسلكون محامد سيره، ومحاسن أمره، وهنالك قام الأمير الخطير سيدي السيد محمد بن علي الإدريسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب ما كان عليه آباؤه وأجداده الطيبون الكرام، فصار حينئذٍ لدعوته وقْعٌ عظيم في نفوس أهالي تلك الأنحاء، وهو لا يحيد عن الشرع الشريف قيدَ شعرة، وبينما كان على هذه الحالة التي استحسنها منه كلُّ من شاهد أعماله وسمع بها، إذ ظهر أناسٌ يناقشونه في أعماله الحسنة حسدًا أو من باب جهل حقيقة حاله، ولا يخفى على أحد أن من سلك مثل هذا الطريق لا بد أن يكون له من يعارضه، فكانت نتيجة تلك المعارضة وقوعَ التنافس المؤدي إلى حروب نشأت في الحقيقة عن سوء التفاهم.
ولما رأى الأمير وأنصاره حرجَ الموقف، التزموا طرق المدافعة المطلوبة شرعًا.
ولما كُتِب له التفوق بكثرة الأتباع ومزيد المحبة والسير الحكيم حفِظ المركز الذي وفَّقه الله إليه، وفي تلك الأيام وقعت الهدنة، وأمرت الحكومة العثمانية بسحب جيوشها من عسير وتهامة اليمن وتسليم جميع المهمات الحربية إلى الأمير السيد محمد بن علي الإدريسي، وبمقتضى الأمر سلَّم القواد كلَّ ذلك إليه، وخرجوا وهم شاكرون فضلَه، مقدِّرون حُسن إنعامه ومكانته الدينية.
وبعد ذلك مالَ جميعُ أهالي عسير وتهامة اليمن إليه، وأصبح بعد ذلك قائمًا بتدبير شئونهم ولمِّ شعثهم والمحافظة عليهم، وسعى السعي الحثيث لتأمين الطرق، حتى أصبح الإنسان يسافر في أي جهة شاء بكمال الطمأنينة ولا يتعرض له أحد في أثناء الطريق، وضرب على أيدي المجرمين والساعين للفساد، حتى استتبَّ الأمن كما ينبغي سنة ١٣٤١ﻫ.
وهو — على جلالة علمه وعظيم قدْره وفخامة مكانته — متواضعٌ زاهد، متمسِّك بالتقوى.
وقد درج منذ نشأته على حبِّ العلم والأدب وأهلهما، وكره الظلم والاستبداد، وأعطاه الله من شدة الذكاء، وكرَم الخلال، وعزة النفس، والغيرة على الدين والوطن، بقدر حُسن سيرته، ونقاء سريرته، وحبِّه للناس، وبخاصة الصالحون.
ولقد كان والده سيدي السيد علي الإدريسي صالحًا تقيًّا محبوبًا، وأقام بصبيا بعد وفاة والده السيد محمد الإدريسي الذي كان معدودًا من أكابر الأولياء، وتُوفي بصبيا سنة ١٣٢٤ﻫ، وقد صدق فيهم قول القائل:
وكان من صفوة العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان في مجالس العلم والتدريس، ولم يزل متعبدًا حتى إنه بعد وفاة والده انتقل من صبيا إلى الحديدة، وهي أكبر مواني اليمن، وأقام في خلوته الخاصة أربعين سنة لم يخرج منها، ثم أمر أن يُحمل إلى صبيا، فمكث فيها أربعة أيام، وتوفي إلى رحمة الله ورضوانه، ودُفن بجوار والده سيدي السيد أحمد بن إدريس.
أما أبو جدِّه فهو سيدي السيد أحمد بن إدريس الحسني نسبًا، من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله من السادة الإدريسية ملوك المغرب، وقد ذُكِر من تراجمهم في «الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى» ما يغني المطَّلع عليه.
وُلِد رضي الله عنه ببلدة «ميسور» بالقرب من مدينة فاس سنة ١١٧١ﻫ، وقبيلته «العرايش»، واشتغل من أول عمره بتحصيل العلوم الدينية إلى أن برع فيها، وصار في شبابه إمامًا في جميع العلوم، وأُذن له في التدريس، وحضر درسَه أكابرُ علماء ذلك العهد.
ثم توجَّه رضي الله عنه سنة ١٢١٣ﻫ إلى بلاد المشرق قاصدًا مكة المشرَّفة بطريق مصر، ووصل إلى مكة سنة ١٢١٤ﻫ، ومكث بها نحوًا من ثلاثين عامًا ذهب في خلالها مرة إلى الصعيد.
وفي عام ١٢٤٤ﻫ توجَّه إلى اليمن ومكث مدة بمدينة زبير وغيرها، ثم أقام بمدينة صبيا ومكث فيها نحوًا من تسع سنين، وتُوفي بها إلى رحمة الله ورضوانه عام ١٢٥٣ﻫ وله بها مقام شريف يُزار من جميع أنحاء اليمن وغيرها.
وكان رضي الله عنه جامعًا بين فنون العلوم الدينية، وله اليد الطولى فيها والشهرة التامة، وأذعن لفضله الخاصُّ والعام، وأخذ عنه العلماءُ الأعلام والجهابذة الكرام، ومنهم: مفتي الأنام، وشيخ الإسلام، العلَّامة المحقق، والمحدِّث البارع المدقق، سيدي السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل مفتي زبيد في ذلك العصر، وعلَّامة وقته من الفحول، الجامع بين علمَيِ المعقول والمنقول، سيدي السيد محمد بن علي السنوسي الحسني شيخ الطريقة السنوسية المدفون بالخغبوب من أعمال طرابلس الغرب، ومنهم: العلَّامة الإمام العارف بالله تعالى مربي المريدين، الشريف الحسيني سيدي السيد محمد عثمان الميرغني شيخ الطريقة الميرغنية المدفون بمكة المكرمة، ومنهم: العارف بالله تعالى صاحب الكرامات سيدي الشيخ إبراهيم الرشيدي شيخ طريقة الرشيدية الأحمدية المدفون بمكة المشرَّفة.
ومنهم: العارف بالله تعالى الشيخ محمد المجذوب السواكني من أولياء السودان المدفون بها.
ومنهم: المحدث شيخ علماء وقته بالمدينة المنورة الشيخ محمد عابد السندي صاحب الثبت في الأسانيد.
وكان للسيد أحمد بن إدريس رضي الله عنه غيرُ من ذُكِر من الخلفاء والأتباع ما لا يدخل تحت حصر.
وبهذا يُعلم جيدًا طيب العنصر الباهر، وما لآبائه وأجداده من الفخر والفضل الظاهر، ولا شك أنه إذا طاب أصلُ المرء طابت فروعُه، ولا غرو فقد جمع الله لسيدي الأمير السيد محمد بن علي الإدريسي أمير عسير وتهامة اليمن بين سعادتَي الدنيا والآخرة.