أحمد خيري
كان أحمد خيري باشا جركسيَّ الأصل، إلا أنه لم يكن رقيقًا، بل حضر مع والده من بلاده لمصر لتلقِّي العلم، فنزلَا في زاوية بأول عطفة عبد الله من جهة سوق السلاح وكان بها نفرٌ من مجاوري الأتراك، وواظب على الطلب بالأزهر، فقرأ على الشيوخ، وساعده ذكاؤه على التحصيل، حتى صار مقرئًا للشيخ المنصوري الحنفي الضرير، ثم حضر المطوَّل على الشيخ العلَّامة إبراهيم السقاء لما قرأه أول مرة، وكان ممن يحضر معه الشيخ محمد الإنبابي الشهير وإخوانه، فكان الشيخ كلما مرَّت بهم كلمة فارسية في المطوَّل سأل المترجَم عن معناها فيُفسرها، وكان زِيُّه إذ ذاك زيَّ أهل العلم من الأتراك: الجِبَّة والقفطان، إلا أنه كان يعتم بشقة من الحرير الملون المسماة بالكوفية، ثم اتصل بأولاد أحمد باشا يكن ابن أخت محمد علي باشا، وهما منصور وداود، فجُعِل معلِّمًا لهما، ومن هناك اتصل بحاشية والي مصر عباس باشا، فجُعل في آخر مدته كاتبًا بديوانه، فغيَّر زيَّه وصار من الأفندية، ولما تولَّى سعيد باشا عرَف فضلَه وقدْره فجعله معلِّمًا لولده طوسون باشا، وأخذ بعد ذلك في الترقِّي.
وفي ولاية إسماعيل باشا جُعل من كبار كُتَّاب المعية إلخ. وكان وقورًا كثير السكوت لا ينطق العوراء، انتقد مرة مكاتبةً كتبها بالتركية محمد عارف باشا الشهير رئيس جمعية المعارف التي طَبعت الكتب بمصر، ثم اجتمع به في بعض المجالس، فأخذ عارف باشا يُقرِّعه ويسبُّه من غير ذكر اسمه، بل قال: بلغني أن أحدَ مَن تخرَّج من إصطبل الأزهر انتقد كتابتي، ثم أخذ في سبِّه وبالغ، والمترجَم ساكت لا يتكلم.
فلما افترقَا لامَه بعضُ أصحابه على السكوت مع أن التعريض كاد يكون تصريحًا، فقال: رجل سفيه رأيت مداراتَه والإغضاء عنه أولى به.
وما زال أحمد خيري باشا في مدة إسماعيل الخديو في منصبه «مكتوبجي»، أي كاتب السر الخاص، ثم ترقَّى إلى أن صار مهردارًا، وبعد الاحتلال نُقِل من المهردار إلى رياسة الديوان.
ولم يخلُ من قول بعض أدعياء الانتقاد: إنه لما تولَّى المناصب الكبيرة أخذه شيءٌ من أُبَّهتِها، حتى قيل إنه إذا أراد أن يُشيرَ بالسلام على أحد لا يرفع يدَه إلا قليلًا، وهذه حالة ليست ذات أهمية أمام ما سبق ذكرُه من مداراته وإغضائه عمن تعرَّض له بالسبِّ وبالغ فيه، رحمه الله.