محمد التميمي المغربي
ترجمَه العلَّامة الآلوسي في تاريخه «غرائب الاغتراب»، قال:
وحسنتْ حالُه، واشترى دارًا كانت ملاصقةً للمسجد الحسيني وأُزيلت بعد ذلك لمَّا جُدِّدت عمارتُه، وكانت فيه حدَّة قلَّ من يتحمَّلُها؛ لذلك لم يحضر عليه من شيوخ الأزهر إلا قليلون، منهم: الشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ مخلوف المنياوي، وآخرون.
وكان عالِمًا علَّامة متينًا في مباحثه، ذا ذكاء مفرط، وكان الشيخ إبراهيم السقاء يأسف لأن أحدًا من أهل الأزهر لا يعلم أستاذه هذا كما ينبغي.
وطلب منه الشيخ مخلوف مرة أن يقرأ لهم «المطوَّل» فأبى وتعلَّل بعدم وجود الأكْفاء لحضوره، فكتب الشيخ مخلوف شكوى طاف بها على الطلبة فوقَّعوا عليها، ثم بعث بها إلى الديوان الخديوي، وفيها أنه لا يوجد بين علماء الأزهر مَن هو أقدر منه على قراءة «المطول»، ولكنه لا يريد قراءته، فطلبوا الشيخ في الديوان وألزموه أن يقرأ الكتاب، فصدع بالأمر وقرأ منه دروسًا، ثم حال نفيُه من مصر دون إتمامه.
وسببُ نفيِه أن عباسًا الأول كان قبل توليته يحضر مجلسَ عمِّه إبراهيم والشيخ معه، وكان عمُّه يُؤنِّبُه على لعبه بالحَمام ولهوه ويشتدُّ عليه، فيساعده التميمي، ويُسمِع عباسًا الكلام القارص، حتى كان يخاطبه بالتصغير، ويقول له: يا غلام، اسمع نصائح عمِّك، فحقَد عليه عباس، ولما مات عمُّه إبراهيم وتولَّى هو بعده، خشِي المترجَم العاقبةَ وذهب إلى عباس في قصره لترضيته وإزالة ما في نفسه منه، فقال له عباس: ليس عليك بأسٌ، ولكن لا تساكنني في بلد أنا فيه، وأمر بنفيه في الحال، وأرسل من أعوانه مَن حمَل متاعَه وتولَّى ترحيله إلى الحجاز.
ولم تطُل إقامة الشيخ بالحجاز إذ سافر مع المحمل الشامي في عودته للشام، وأبحر من بيروت إلى القسطنطينية، وذلك بمساعدة بعض الأمراء المنفيين معه، كما سعوا له عند السلطان عبد الحميد فرتَّب له حوالَي خمسين دينارًا في الشهر، وأقام بها يقرئ ويفيد حتى وافاه أجلُه ودُفن بها حوالَي سنة ١٢٨٦ﻫ.
وحدَّث الشيخ زين المرصفي قال: لما وفدتُ على القسطنطينية لم يكن لي همٌّ إلا رؤية الشيخ، فسألتُ عن داره حتى اهتديتُ إليها، وطلبتُ مقابلتَه فأبى، ثم احتلْتُ لمقابلته بأني قادم من مصر ومعي أمانة له، فنزل وقابلني، وأخذ يسألني عن الأزهر وأحواله ومن يدرِّس فيه، فذكرت له بعضَ كبار المشايخ مثل: السقاء، والدمنهوري، والأشموني، وأضرابهم، فأظهر الاستنكارَ والأسف، وصار يصفِّق بيديه ويقول: «خلا لك الجو فبيضي واصفري» ويُكرِّرها، ثم سألني عن الأمانة التي حملتُها إليه، فلما أجبتُ بأنها تحيَّات زملائه وتلاميذه، قام وتركني.
واجتمع به أيضًا السيد جمال الدين الأفغاني في زيارته الأولى للقسطنطينية، وكتَب يصف هذه المقابلة، قال: فلما قابلني قال لي: أنت جمال في الدين أم جمال للدين؟ فقلت: جمال للدين؛ لأن الإضافة بمعنى «في» لا تخلو من ركاكة هنا، فضحك.
وكان ربعةُ بدينًا، أبيض اللحية، يلبس جُبَّة وعليها بُرنُس على طريقة المغاربة، ولم يلبس الفرجية التي كان يلبسها علماءُ الأزهر، وعُمِّر طويلًا.
وحدَّث عبد الله فكري باشا قال: ذهبت مع الخديو إسماعيل مرة إلى القسطنطينية مدة السلطان عبد العزيز، وجاء المترجَم للسلام على الخديو، وكان يتأهَّبُ لمقابلة السلطان، فلم يمكث معه إلا قليلًا معتذرًا بأنه لا يستطيع التخلفَ عن مقابلة السلطان في الموعد المحدد، وسأله البقاء حتى يعود، وأوصى بإكرامه، ولكن المترجَم لم يقبل عذرَه وانصرف غاضبًا ولم يعُد.
ولما ذهب إسماعيل بعد توليته إلى الآستانة لم يزرْه الشيخ، فصار يسأل عنه إلى أن اهتدى إلى مقرِّه، وأرسل في طلبه، ثم أمر أحمد طلعت «باشا» كاتبَه أن يعطيَه مائة دينار عند خروجه من مقابلته، ولكن الشيخ أبى أخذَها وقال: أنا والحمد لله في غنًى عن الصلة ولم أزُر الخديو التماسًا لشيء.
وكان مولعًا بجمع الكتب، مغاليًا في اقتناء النفيس منها، فلما مات بيعت بالقسطنطينية وتفرَّقت في البلاد، ولم يُعقِّب غيرَ بنت واحدة حضرت لمصر بعد موته تتقاضى ثمنَ داره التي أُزيلت وأُدخل بعضها في المسجد الحسيني عند عمارته، وتزوَّجت بعدما شاخت؛ لأن أباها لم يكن يرى لها كفؤًا في زعمه رحمهما الله.