سليم الآمدي البخاري
وقفتُ له على ترجمة بخط الشيخ سعيد الباني أحد مريديه، قال: هو الشيخ سليم الآمدي أصلًا، البخاري شهرة، نسبة إلى بخارى بلدة أُمه، وُلِد في دمشق سنة ١٢٦٨ﻫ، ونشأ على حب العلم منذ نعومة أظفاره، فكان نابغةً في العلوم التي حصَّلها في الآداب العربية واللغة والفقه والأصول والحديث، وألمَّ ببعض العلوم، واقتنى مكتبةً نفيسة، وقد تخرَّج في المدارس التحضيرية كأمثاله في زمانه، ثم تولَّى شئون تربيته العلمية الشيخ محمد البرهاني خال والدته، وكان من فقهاء الحنفية بدمشق، فلقَّنه العلوم الدينية من فقه وغيره، ووكَّل إلى العلَّامة الشيخ عمر الأصفهاني حفيد الشهاب العطار تعليمه العلوم العقلية من منطق وحكمة، وعلوم العربية من صرف ونحو ووضع ومعانٍ وبيان وبديع.
ثم لزِم المترجَمُ له بعد ذلك العلَّامتَين الجليلين: أستاذنا الشيخ بكري العطار، ومنلا طه الكردي، للتزود من علوم العربية والعلوم العقلية، وتلقَّى الحديث الشريف، روايةً ودراية، من علَّامة دمشق ومحدِّثها الجليل الشيخ سليم العطار، كما أنه لزم علَّامة دمشق النحرير الشيخ محمد الجوخدار، والشيخ محمد الجزائري مفتي السادة المالكية بدمشق، وأجازه فقيهُ الديار الشامية السيد محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق الأسبق بعد أن لزم مجالسه العلمية واقتبس منه كثيرًا من الفوائد والقواعد.
وكان هو والسيد أبو الخير عابدين والمرحوم طاهر الجزائري رفاقًا في الطلب منذ عهد الشباب، وأخذوا عن طبقة واحدة، ثم تخصَّص كلُّ واحد منهم ببعض أنواع العلوم.
وحينما سافر إلى الديار الحجازية للحج وزيارة الروضة النبوية الشريفة، مكث بمكة المكرمة ستة أشهر، تلقَّى خلالها متن «الشمسية» في المنطق و«الربع المجيب» من الشيخ رحمة الله الهندي صاحب كتاب «إظهار الحق»، ودرس «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي على السيد أحمد الدهان من علماء مكة، كما لزم دروس السيد زيني دحلان مفتي مكة المكرمة.
ولما رجع من الحجاز أُسندت إليه وظيفةُ مفتي لواء المدفعية في الفيلق الخامس، بعد أن أحرز السبقَ في الامتحان لها، ولإجادته اللغةَ التركية تكلُّمًا وكتابة مع إلمامه باللغة الفارسية، فنهج في وظيفته منهجَ النزاهة والأمانة، واستمر إلى ذلك يُقرئ طلَّاب العلوم، ويتبحَّر في علوم العربية وآدابها، وفي التاريخ والطبقات والشريعة، واطلع على كثير من نفائس الكتب التي كانت كنزًا دفينًا فحاول هو وصديقه المرحوم الشيخ طاهر الجزائري كشْفَها وإحياءَها، وكان بطبعه محبًّا للاطلاع على جميع المؤلفات الحديثة في علوم الاجتماع والعمران والسياسة والحكمة النظرية والعلوم الكونية، وعلى الصحف السيارة والمجلات العلمية التي تقتطفُ من ثمرات علوم الغرب.
لهذا كان من العلماء المجيدين ودعاةَ الإصلاح، وقد خدَم المعارف خدمةً تُذكر فتُشكر حينما كان عضوًا في الجمعية الخيرية المؤلَّفة في عهد مدحت باشا الوزير العثماني قبل إحداث مديرية المعارف، وكان على جانب عظيم من الذكاء وسرعة الخاطر وقوة الحافظة، سليم الصدر، طاهر القلب لا يُضمر السوءَ والغشَّ لأحد، شديدَ الغيرة على الوطن والشعوب العربية، مستمسكًا بدينه ومبادئه، لكنه يمقُتُ التعصبَ الذميم والتنطُّع بالدين، رحبَ المحيَّا، رقيقَ الشمائل، يحبُّ النظافة والإتقان والترتيب والنظام، فائقَ الهمة، جامعًا بين تُؤَدةِ الشيوخ وهمَّة الشباب، صدَّاعًا بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وله مواقفُ عجيبة من هذا القبيل، كان آخرها موقفه مع جمال باشا؛ فقد كان الشيخ بوصفه من كبار الأحرار المصلحين لا يرضى عن الحكم المطلق، بل ينشُد الإصلاح الذي من شأنه سعادةُ الوطن وعمرانه وحياة الأُمة ورفاهيتها ورُقيُّ الدولة وصيانة كيانها، فاتحد رأيُه مع رأي أحرار التُّرك أعضاء جمعية «تركيا الفتاة» وانتظم في سلْك هيئاتهم السرية، وظلَّ زهاء ثلاثين سنة يُجاهد في هذا السبيل، معرِّضًا نفسَه إلى الخطر، حتى أُعلن القانون الأساسي، وحينما رأى تهوُّرَ الاتحاديين انسحب من جمعيتهم ولزِم الحياد، وحينما تمادَوا في طغيانهم وبدتْ عليهم علائمُ سوء النية نحو العناصر غير التركية، خصوصًا العرب، اضطرَّ إلى المجاهرة بمخالفتهم، وانتظم في سلك حزب الحرية والائتلاف، ثم كان في طليعة المُنادين بالإصلاح والمطالبة بحقوق العرب المهضومة، فحنِقت عليه الحكومةُ التركية وتربَّصت به الدوائر، حتى أُعلنت الحربُ العامة سنة ١٩١٤م ودخلتْها الدولة، وتولَّى جمال باشا قيادةَ الحملة المعروفة، فقُبض على الشيخ وزُجَّ به في سجن الشرطة شهرين، ثم سيق إلى مجزر عاليه، ونُفي بعد ذلك إلى الأناضول، وكان ولدُه المرحوم محمود جلال في عِداد الشهداء.
وفيما هو سجين في نُزُل «دمسكس بلاس» استدعاه جمال باشا وأفهمه أنه يريد إعفاءَه من النفي على شرط أن يكفَّ لسانَه عن الطعن على الحكومة، فأجابه بقوله: «اقضِ ما أنت قاضٍ»، فأيقن جمال أنه لن يسكتَ عن مظالم الحكومة وعدَل عن العفو عنه.
وظلَّ الشيخ يشنِّع على فظائع الحكم غير مبالٍ ولا متهيِّب، وقد أُعجب بعلمه وفضله وإخلاصه كلُّ مَن صحبه من علماء الأتراك وسُراتهم وأعيانهم.
وعقِب الانقلابِ العثماني، طلب أن يُحالَ إلى التقاعد فأُجيبَ طلبُه ولزِم بيتَه، وعكَف على مطالعة كُتبه ومزاولة درسِه وبحثه، ثم ألحَّ عليه إسماعيل فاضل باشا أحدُ ولاةِ سوريا في قَبول عضوية لجنة الأوقاف فقبِل بعد أخْذٍ وردٍّ طويلَين.
ولما ذهب الحكمُ التركي، عُيِّن عضوًا في مجلس الشورى، وانتُخِب عضوًا في المجمع العلمي العربي، وعضوًا في مجلس المعارف الكبير، إلى أن أُسندتْ إلى عهدته رياسةُ العلماء في دمشق.
وكانت وفاتُه في جمادى الأولى سنة ١٣٤٧ﻫ بدمشق رحمه الله.