وقفتُ له على ترجمة كتبها بخطِّه، قال رحمه الله:
إني محمود شكري، المُكنَّى بأبي المعالي، ابن السيد عبد الله بهاء الدين بن أبي
الثناء السيد محمود شهاب الدين الآلوسي، وينتهي نسبي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي
الله تعالى عنهما، ولله الحمد على ذلك، وقد وُلِدت صباح يوم السبت تاسع عشر رمضان سنة
اثنتين وسبعين ومائتين وألف.
ثم لما بلغتُ من العمر ثماني سنين ختمتُ الكتاب الكريم، وشرعتُ في قراءة بعض الرسائل،
وقرأت طَرفًا من العربية على والدي، ثم أنختُ مطايا التحصيل على الفاضل الكامل، والشيخ
الواصل، علَّامة عصره، وفهَّامة دهره، الشيخ إسماعيل الموصلي رحمه الله، وكان في قوة
الحفظ والذكاء وحُسن الأخلاق على جانب عظيم، كما أنه كان في الزهد والورع «جنيد» زمانه،
فلم تمضِ إلا أعوامٌ يسيرة حتى شملتني بركتُه، فوصلتُ الليلَ بالنهار في التحصيل،
وفارقتُ أخداني وأقراني، وانزويتُ عن كل أحد، فأكملتُ قِسمًا عظيمًا من الكتب المهمة
في
المنقول والمعقول، والفروع والأصول، وحفظتُ غالبَ متون ما قرأتُه من الكتب المفصلة
والمختصرة، وأدركتُ ما لم يدركْه غيري، ولله الحمد.
ثم إني توغلتُ في اتِّباع سيرة السلف الصالح، وكرهتُ ما شاهدته من البدع والأهواء،
ونفَر قلبي منها كلَّ النفور، حتى إني منذ صغري كنتُ أُنكر على مَن يغالي في أهل القبور
وينذر لهم النذور، ثم إني ألَّفت عدة رسائل في إبطال هذه الخرافات، فعاداني كثيرٌ من
أبناء الوطن وشرعوا يغيرون على ولاة البلد، ويحرِّضونهم على كتابة ما يستوجب غضبَ
السلطان عليَّ، وفعلوا ذلك مرارًا حتى ألجئوا بعضَ الولاة أن يكتب للسلطان بأن الأمر
خطرٌ إن لم يتداركْه، وأن العراق تخرج من اليد، بسبب تغيُّرِ عقائد الأعراب إلى ما
يخالف ما عليه الجمهور من العوام، ولم يزل يُلِحُّ حتى ورد الأمر بإبعادي إلى جهة ديار
بكر.
فلما وصلتُ إلى الموصل قام رجالُها على ساق ومنعوني أن أتجاوزَ بلدتهم، وكتبوا
كتاباتٍ شديدة اللهجة إلى السلطان، فجاء الأمرُ بعد أيام بعودي إلى بغداد مع مزيد
الاحترام والإكرام، وسُقط في أيدي الأعداءِ، ولا يحيق المكرُ السيئ إلا بأهله.
معاتبتي لو أعتبَ الدهر للدهر
بما قد جرَى لا تنقضي آخر العمرِ
وحربي مع الأيام لا صُلحَ بعده
ولا هدنة حتى أُوَسَّد في القبرِ
وكيف وقد روَّعْنَني بفراق مَن
عليَّ فراقيه أمَرُّ من الصبرِ
أخٌ ماجدٌ ما دنَّس اللؤمُ عِرضه
ولا خاط كِشحَيه على الغدر والمكرِ
ولا قُلَّبٌ قلبُ المودة إن يغبْ
له صاحبٌ يُدميه بالناب والظُّفرِ
ولكنه يُعطي المودة حقَّها
ويجمع للخلِّ الوفاء مع النصرِ
ولا هو ممَّن همُّه لبْسُ فروةٍ
يُباهي بها أقرانَه من بني المصرِ
وينفضُ تيهًا مذرويه مفاخرًا
ويرفع من فرْطِ التكبُّرِ بالصدرِ
ويَرفُل في أثوابه متبخترًا
وينظر كيما يُرهِب الناسَ عن شزرِ
لَعَمْرِي لقد جرَّبت أبناء دهرنا
برُمَّتهم في حالة الخير والشرِّ
وقلَّبتُهم ظهرًا لبطنٍ بأسرهم
مرارًا لدى الحاجات في اليُسر والعسرِ
فما سمعتْ أذناي ما سرَّ منهمُ
ولا أبصرتْ عيناي وجهَ فتًى حُرِّ
وما إنْ رأى إنسانُ عينيَ واحدًا
كما شئت إنسانًا يُعدُّ سوى شُكري
ولو لم يكن في حاضر العصر مثلُه
لقلنا على الدنيا العفاء بذا العصرِ
فقل لغبيٍّ قاسه بسوائه
ولم يعرف التِّبرَ المصفَّى من الصُّفرِ
عداك الحجَى أين الثُّريا من الثرَى
وأين حصى الحصباء من دُرَر البحرِ
وحيث إني قد بلغتُ من العمر اليوم ما بلغت، تذكَّرتُ قول بعضهم:
فتوفرتُ على درسٍ أُلقيه، وكتابٍ أنظر فيه، وفرضٍ أؤديه، وتفريط في جنب الله أسعى
في
تلافيه، لا يشغلُني عن ذلك شاغل، ولا يَكُفُّ كفي عن مثابرتي في نشر الفضائل، لعل الله
سبحانه وتعالى يُدخلني دار رحمته، ويُسكنني مع مَن سبقت له الحسنى في جنته، فإن الرحيل
قريب، وكأني للنداء مجيب، وما أحسنَ قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى
عنه:
وهذا ملخَّص حالي، وما جرى عليَّ من حوادث الليالي، ونسأل الله حُسن العواقب.
ولما علِم فقيدُنا العلَّامة أحمد تيمور باشا من إحدى رسائل العلَّامة الأب أنستاس
الكرملي خبرَ نعيه، كتب إليه يقول: «قضى الله، ولا رادَّ لقضائه، أن يفجعَ العِلم
بإمامه ونِبراسه، وأن يُحرم المستفيدون من سندهم في حلِّ معضلاته، ويعلم الله ما كان
لهذه المصيبة من الوقْع في نفسي، ولكن ما الحيلة وقد نفذ القضاء وطُوِي الكتاب، وإنا
لله وإنا إليه راجعون.»
وقد رثاه شاعر العراق الكبير السيد معروف الرصافي بقصيدة عصماء جعل عنوانها «وا
شيخاه»، وفيها يقول:
أزمعتَ عنَّا إلى مولاك ترحالًا
لمَّا رأيتَ مناخ القوم أوحالَا
رأيتَنا في ظلام ليس يعقبُه
صبحٌ فشمَّرتَ للترحال أذيالَا
كرهتَ طول مقام بين أظْهُرِنَا
بحيثُ تُبصرنا للحقِّ خُذَّالا
ولم ترُقْ نفسُكَ الدنيا ونحن بها
لسنا نؤكِّد بالأقوال أفعالَا
وكيف تحلو لذي علم إقامتُه
في معشر صحبوا الأيام جُهَّالا
لذاك كنتَ اعتزلتَ القوم منفردًا
حتى أقاربك الأدنين والآلَا
وما ركنتَ إلى الدنيا وزُخرفها
ولا أردتَ بها جاهًا ولا مالا
لكن سلكتَ طريقَ العلم مجتهدًا
تُهدي به من جميع الناس ضُلَّالا
«محمود شكري» فقدنا منك حَبْرَ هدًى
للمشكلات بحُسن الرأي حلَّالا
قد كنتَ للعلم في أوطاننا جبلًا
إذا تقسَّم فيها كان أجبالا
وبحرَ علمٍ إذا جاشتْ غواربُه
نغَّصْتَ بالحزن شهرَ العيد شوالَا
أعظِم برُزْئكَ في الأيام من حدثٍ
هزَّت عليَّ به الأيام عسَّالا
أمستْ لروعته الأبصارُ شاخصةً
أما القلوب فقد أجفلْنَ إجفالَا
طاشتْ حصاةُ العُلا لما نُعيتَ لها
وكلُّ ميزان حلم بالأسى شالَا
إذا نَعِيُّكَ وافى مصر منتشرًا
جثا أبو الهول يشكو منه أهوالا
وإن أتى البيتَ، بيت الله، رُجَّ به
وأوجس الركنُ من منعاك زلزالا
أما العراقُ فأمسى الرافدانِ به
سطرَين للدمع في خدَّيه قد سالا
بكى الورى منك حبرًا لا مثيلَ له
أقوالُه ضربتْ في العلم أمثالَا
بَكوكَ حتى قد احمرَّتْ مدامعُهم
كأنهم نضحوا فيهن جِريالا
ولو لفظنا لك الأرواحَ من كمَدٍ
لم نقضِ من حقِّكَ المفروض مثقالَا
ولا نخصص في رُزءٍ بتعزيةٍ
إلا علومًا أضاعت منك مفضالَا
فإنَّ رُزءَكَ عمَّ الناسَ قاطبةً
يا أكرمَ الناس أعمامًا وأخوالا
شكرًا لأقلامك اللاتي كشفتَ بها
عن أوجه العلم أستارًا وأسدالا
كتبنَ في العلم أسفارًا سيدرسُها
أهلُ البسيطة أجيالًا فأجيالا
أمددتَها بمِدادٍ ليس يبلغُه
دمعُ الأنام وإن يبكوكَ أحوالا
وكنتَ أنت نَطاسيَّ العلوم بها
وكنَّ في سَبرِ جرحِ الجهل أميالا
يا مُطلعًا في سماء الفكر أنجمه
تَهدي إلى العلم رُحَّالًا وقُفَّالا
لو أنني بلغتْ زُهرَ النجوم يدي
نَحَتُّها لكَ بعد الموت تمثالا
ما ضرَّنا بعد ما خلدتَ من كُتُبٍ
ألَّا نرى لك بين الناس أنجالا
إذا ذكرناكَ يومًا في محافلنا
قمْنا لذكراك تعظيمًا وإجلالَا
إني أخفُّ لدى ذِكراك مضطربًا
وإن حملتُ من الأحزان أثقالا
لأشكرنَّكَ يا «شكري» مدى عمري
وأبكينَّك أبكارًا وآصالا
فأنت أنت الذي لقَّنتني حِكمًا
بها اكتسيتُ من الآداب سِربالا
أوجرتَني من فنون العلم أدويةً
شفتْ من الجهل داءً كان قتَّالا
فصحَّ عقلي وقبلًا كنتُ مشتكيًا
من علَّةِ الجهل أوجاعًا وأوجالَا
أنا المقصِّرُ عن نُعماكَ أشكرُها
ولو ملأتُ عليك الدهر إعوالَا
فاغفر عليك سلام الله ما طلعتْ
شمسٌ وما ضاء بدرُ الليل أو لالا
٢