محمد محمود التركزي الشنقيطي١
هو الأستاذ العلَّامة الحجة الثقة إمام اللغويين في عصره شيخنا محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي، اشتهر والدُه بالتلاميد — بالدال المهملة — وسببُ ذلك على ما أخبرني به أنه كان يُقرئ تلاميذَه في خيمةٍ انفرد بها، فكان كلُّ مَن يسأل عنه يقول: أين خيمةُ التلاميد؟ ثم أُطلق هذا اللقب عليه كما يقال: السادات للواحد من السادات الوفائية بمصر، وتُرْكز، بضم فسكون: اسم قبيلته، وهو في الأصل أمويُّ النسب؛ ولهذا كان يكتب في توقيعه: «العبشمي» نسبة إلى عبد شمس، ثم ترك كتابتَه لما أقام بمصر.
قرأ على أبيه وبعضَ أقاربه، كما أشار إلى ذلك في ميميته التي نظمها لمؤتمر العلوم الشرقية بِاستكهلم، فقال:
ولازم أيضًا الشيخ عبد الوهاب الملقَّب بأجدود وعليه تخرَّج، ثم تلقَّى الحديث عن ابن بلعمش الجلني، واستظهر من المتون وأشعار العرب شيئًا كثيرًا لم يذهب من حفظه حتى مات، واشتهر باللغة والأنساب وانفرد بهما.
ثم رحل إلى المشرق وحجَّ واجتمع بأمير مكة الشريف عبد الله بن محمد بن عون فأكرمه وطلب منه البقاءَ عنده فأجاب، وكانت تقع بينه وبين علماء مكة والواردين عليها مناظراتٌ ومحاوراتٌ علمية في مجلس الأمير، وصار يتردَّدُ في الإقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصَد القسطنطينية فأكرمه السلطانُ عبد الحميد وعرَف قدرَه، وأوفده سنة ١٣٠٤ﻫ إلى باريس ولندن والأندلس للاطِّلاع على ما في خزائنها من الكتب العربية النادرة وتقييد أسماء ما يوجد منها بخزائن القسطنطينية لتُستنسخ، فسافر على باخرة خاصة، وكان ينزل حيثما حلَّ بدور السفارات العثمانية، ولكن المشروع أُهمل بعد عودته، ثم لما شرع الملك أسكار الثاني ملك السويد والنرويج في عقد المؤتمر الثامن من العلوم الشرقية استكهلم سنة ١٣٠٦ﻫ طلب من السلطان عبد الحميد أن ينتدب الشيخَ إليه، فانتدبه مع مدحت أفندي الكاتب التركي الشهير، ونظَم الشيخ قصيدتَه الميمية ليُقدِّمها للمؤتمر، وأولها:
ذكر بها سببَ هذه الرحلة وابتداء تحصيله للعلم بالمغرب ورحلته إلى المشرق، وضمَّنها مسائل علمية، ورثى نفسَه فيها، وختمَها بذكر القبائل العربية المشهورة، ولكنه لم يسافر لاشتراطه شروطًا أغضبت السلطان، فأمر بسفره إلى المدينة، ومنها قدِم إلى القاهرة وألقى بها عصا التَّسْيار، واستحضر أهلَه وكُتبَه من المدينة، وأقبل على المطالعة والإفادة إلى أن تُوفِّي بدار سكنه القريبة من الأزهر قُبيل الغروب من يوم الجمعة ٢٣ شوال سنة ١٣٢٢ﻫ عن سنٍّ عالية، ولم يمرضْ إلا أيامًا قليلة.
وكان رحمه الله نحيفًا أسمرَ اللون، شديد التمسُّك بالسُّنَّة قوَّالًا للحق ولو على نفسه، مع حدَّة طبْع زائدة؛ ولهذا لم ينتفع به إلا القليلون، وكان لا يملُّ المطالعة ليلًا ونهارًا حتى أضنته كثرةُ الجلوس وسبَّبت له أمراضًا وآلامًا، ولا سيما لما اشتغل بتصحيح المخصص وأنه كان يُقابله مع شخص آخر بمكان رطب في الطبقة السفلى من داره، فاشتدَّ به مرضُ الصدر وألمُ الرثية في أطرافه، وكثيرًا ما كان يقول: «أنا قتيل المخصص، أنا قتيل الكتب»، ولم يترك من الآثار إلا «الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية»، ضمَّنها شيئًا من أخباره وقصائده وردوده على مَن خالفه في بعض المسائل العلمية، وطُبِعت بالقاهرة في مطبعة الموسوعات سنة ١٣١٩، وله أرجوزة سمَّاها: «عذب المنهل والمعل المسمَّى صرف ثعل» لم تُطبع، و«إحقاق الحق وتبريء العرب مما أحدث عاكش اليمني في لغتهم ولامية العرب»، وهي حاشية على شرح لامية العرب لعاكش اليمني، وكان قد وفد على الشريف عبد الله بن محمد بن عون بمكة وقدَّم له هذا الشرح، فطلب الشريف من الشيخ أن يكتب عليه فكتب هذه الحاشية وبيَّن فيها أغلاطه، وهي مخطوطة لم تُطبع، وكان شرع في تأليف كتاب سمَّاه: «بنيان العلم المرصص في أوهام المخصص» لم يكتب منه إلا ما طُبِع على حواشي المخصص، وكان صحَّح بعضَ الأوهام الواقعة في الطبعة البولاقية من الأغاني، ولم يستوعب كلَّ ما فيه، فجرَّدها من حواشي نسخته الشيخُ الفاضل محمد عبد الجواد الأصمعي وطبعها بالمطبعة الجمالية بالقاهرة سنة ١٣٣٤ بعنوان: تصحيح الأغاني.