الحب الحسي والجنسي
الحب جاذبيةٌ حسية يُغذِّيها التصور ويُضخمها الفكر، ولولا الفكر وقوَّته والتصور وفنونه لاستحال الحب إلى مجرد عمل بهيمي وضِيع.
فأنت إذ تلتقي بامرأةٍ حسناء يتملَّكك الإعجاب بها من طريق حواسك في مبدأ الأمر؛ أي إن بصرك يُعجَب بها، وتقاطيع بدنها تستهوي عينَيك، وإن شيئًا معيَّنًا فيها يرُوقك بوجهٍ خاص ويفتنك. وهكذا تشعر نحوها بالجاذبية الحسية التي هي أولى درجات الحب.
ثمَّ تلتقي بهذه الحسناء مرةً ثانية، ويتَّفق أن يكون ذلك في حديقةٍ جميلة أو في دار مسرح أو سينما تُعرَض فيها قصةٌ غرامية مؤثِّرة، أو في مكان تتردَّد بالقرب منه نغمات الموسيقى، فيحدث عندئذٍ أن يَبهَرك منظر الحديقة الجميلة، أو يهزَّ أعصابَك موضوعُ القصة الغرامية المؤثرة، أو تُحرِّك أشجانَك الراقدة نغماتُ الموسيقى، فتتأجَّج إحساساتك، وتشعر بحنين إلى العاطفة، ورغبةٍ جامحة في أن تروي ظمأ نفسك، فتتحوَّل بالرغم منك إلى المخلوق الذي عرف كيف يجتذب حواسك، وتبدأ في التفكير فيه وأنت تتصوَّره من خلال الجمال الشعري الذي بالَغ وَهْمك وخيالك في تزيينه.
وقد يكفي أن تسمع رنين ضحك المرأة التي اجتذبتك، أو صوتها وهي تتكلَّم، كي تُحدِث فيك جلجلة الضحك أو رخامة الصوت ذلك التأثيرَ الشعري الذي لا بد أن تخلعه على المرأة لتطمئنَّ إليها، وتستطيع التفكير فيها، وتوليد عاطفة الحب في نفسك نحوها.
ولا يمكن أن يتولَّد الحب بدونِ دافعٍ شعري يُوقِظ العاطفة، ودافعٍ جنسي يُوقِظ الحواس. وقد تُثير فينا المرأة سلطان العاطفة ثم الحواس أو نقيض هذا، غير أن اقتران الدافع العاطفي بالدافع الجنسي لا بد منه لتحقُّق الحب الكامل.
وحيث إن العاطفة لا تعيش بدون تفكير، فعقلنا هو الذي يخلق الحب، وخيالنا هو الذي يتعهَّده، وتصوُّرنا هو الذي يُغذيه مُستمدًّا قوَّته من الظروف الشعرية التي أحاطت بالمرأة، ومن شتَّى ألوان الجمال الخيالي التي أحاطت بتلك الظروف؛ وإذن فلا حب بدون شعر، ولا شعر بدون فكر وخيال. وأرحب الناس خيالًا أكثرهم حُبًّا، وأقدرهم على الحب.
وهذا ما يُفسِّر لنا خيبة المُحبِّين وشقاءهم، وما يدلُّنا أبلغ الدلالة على أن الحب وهمٌ من الأوهام، وكيف لا يكون وهمًا والمُحبُّ لا يمكن أن يرى حبيبته إلا في إطار من الشعر، ولا يمكن أن يُحبها إلا إذا أضفى عليها أبدع حُلَل الشعر، ولا يمكن أن يسمو بحبه عن الغريزة البهيمية إلا إذا حمله وزيَّنه بالشعر؟!
ولكن الشعر غير الواقع، والمرأة ليست إلهة، فمتى اتصل بها الرجل وخالطها، وكشفت له الحياة عن جوهر طبيعتها العادي، أحسَّ الفرق الهائل بين خيالها في ذهنه وبين حقيقتها اليومية، فانجابت السُّحب عن بصره، وتداعى حبه، وتقوَّض الهيكل الذي كان قد شيَّده بعقله وأعصابه ودمه!
وإذن فالمُحبُّ يطلب ما يُحب أن يكون، لا ما هو كائن. وهذا سر شقائه، وهذا سر عظمته، وعظمة الحب التي يتهالك عليها جميع الناس!
وفي هذا يقول ماكس رينال: «إن المُحبَّ شخصٌ «مثالي»، يريد أن ينهض بالحياة، ويسمو بالإنسان، ويرفع حبيبته من حضيض الأرض إلى عنان السماء. إنه يشعر بالدافع الجنسي يدفعه إليها، فيستنكر خشونته ويستنكر غلظته، ويأبى إلا أن يُهذِّبه بدافع من القلب والروح.»
إن حبه يقوده إلى الطبيعة، فيرى جمالها من خلال شخص محبوبته، فيتناول هذا الجمال ويصوغه ويُكلِّلها به. وهكذا يُعلِّمنا معنى الفن ومعنى الحياة.
فماذا تهمُّ خيبة الواقع أمام هذه اللذة العُلوية التي يظفر بها المُحبُّون؟ وماذا يهمُّ أن يكون الحب في أصله وهمًا ما دامت الغاية هي السمو بالغريزة، وتجميل الكون من طريق تجميل المرأة؟
لقد كان «دستويفسكي» يكره المرأة التي لا تستطيع إثارة الدافع الشعري في نفسه، وكان يخافها ويفرُّ منها، ويُسمِّيها «شيطان الظلام»؛ أي شيطان الشهوة.
وكان «روسو» لا يفهم كيف يمكن أن يشتهي امرأة لا تُخاطِب محاسنها قلبه أولًا، ولا تُوحي إليه عاطفةً رقيقة، أو فكرةً غريبة، أو خيالًا شائقًا.
وكان «فلوبيير» يقول: «ليست وظيفة المرأة أن تكون حارسة النوع فقط، بل حارسة الجمال أيضًا. والمرأة التي لا أشعر بالقرب منها بجمال الطبيعة وجمال العواطف النبيلة الخالدة لا يمكن أن أستريح إليها.»
وعليه فالقوة التي تُميِّز الحب عن الرغبة الجنسية المجردة، هي هذا الاتجاه المثالي نحوَ عالمٍ أكمل من الواقع، وأصفى وأجدر بقيمة الإنسان. وهنا يشترك الحب الكبير مع الشعور الديني؛ إذ كلاهما يبحث عن الصفاء، وكلاهما ينشُد الجمال الأعلى!