ملاحظات مُسافر في القطار الدولي عن نفسية الرجال والنساء
فتحتُ صفحات الجريدة كي أُخفي بها وجهي عن الكولونيل الذي جلس أمامي في ديوان عربة السكة الحديدية؛ لأنني كنت اصطدمت به في ردهة العربة عند دخولي، بينما جلس بجواره جنديٌّ أمريكي ومعه زوجته الإنجليزية وقد أمسك بيدها يُداعبها. كانت الفتاة جميلةً حوراء العينَين قاتمة الشعر، ولكنها كانت صامتة كالبكماء.
وتحرَّك القطار وقد خيَّم الصمت والسكون على المُسافرين، وانتشر الهدوء الإنجليزي في جو العربة، وهمست الفتاة شيئًا في أذن زوجها، فأجابها قائلًا: «نعم، في نهاية الردهة.»
وقامت الزوجة لقضاء حاجتها، ولم تكد تُغادر الديوان حتى نظر إلينا الفتى الأمريكي وقال مُتفكِّهًا: «إنها تضربني، ويمكنكم مشاهدة آثار الضرب على كتفي.»
فابتسمنا ابتساماتٍ فاترة، ولكنها كانت ابتسامات على أي حال، ولم يقنع الفتى من انصرافنا عن حديثه، فالتفت إلى الكولونيل وقال: «تبدو على وجهك آثار لفح الشمس يا سيدي.»
فابتسم الضابط، وأجابه قائلًا: «لم أُغادر كاراتشي في الهند إلا منذ يومَين اثنين، بعد إقامة ثماني سنوات.»
فظهرت علامات الدهشة على وجه الأمريكي؛ فإن ثماني سنوات تكفيه لجمع مليون دولار، وقال: «وهل كل هذه المدة في الجيش يا سيدي؟»
فأجابه الضابط: «لقد قضيت في خدمة الجيش سبعة وعشرين عامًا.»
فقال الجندي الأمريكي: «لو أنني قضيت هذه المدة في الجيش لطُبِّقت عليَّ جميع العقوبات العسكرية بما فيها الإعدام؛ فإنني أكره الجيش، وأمقت طابور التفتيش الذي يعمل صباح كل سبت، ويُطلَب منَّا فيه أن نقصَّ شعرنا، ومن يُهمِل ذلك يُعاقَب بتكليفه بتنظيف أزرار ملابس كولونيل مثلك.»
فابتسم الكولونيل وقال: «أظن ذلك.»
وعادت الفتاة، فأجلسها الفتى إلى جانبه وقبَّلها، وقال: «هل تستطيعين أن تُخمِّني المدة التي قضاها الكولونيل بالجيش؟»
فهزَّت الفتاة رأسها سلبًا، وقد ظهرت على وجهها علامات الخوف والذعر.
واستأنف الجندي كلامه قائلًا: «سبعة وعشرون عامًا! على أي حال، فإن إنجلترا مكان يُستحبُّ العودة إليه. لقد ذهبت بالأمس إلى جزيرة «ويت»، وأُعجِبت بمُرتفَعاتها البيضاء، تعلوها طيور البحر وخلفها التلال.»
ثم تنفَّس الصُّعَداء وقال: «إني دائم الحنين إلى بروكلين؛ أرض الشمس المُشرِقة والأزهار.»
فقال الكولونيل في هدوء: «نعم؛ فالوطن هو الوطن.»
وساد الصمت إلى أن قطعه الأمريكي بعد فترة قائلًا: «ما رأيك في جيش الولايات المتحدة يا كولونيل؟»
فحبس الحاضرون أنفاسهم، وسعل الكولونيل قبل أن يقول: «كفء، كفء جدًّا.»
فأعطى الجندي زوجته قطعة من الشيكولاتة، وربَّت على يدها وقال: «إنكم معشر البريطانيين تكادون أن تُصيبوني بالخبل لكثرة صفوفكم وطوابيركم. فإذا أخذ الإنسان زوجته لتناوُل الشاي، اضطرَّ للوقوف في طابور انتظارًا لدوره في دخول المِصعد. على أي حال فهذا لا يعنيني في شيء؛ فإنني سأُغادر وزوجتي هذه البلاد.»
ثم التفت إلى الفتاة البكماء، وقبَّلها مرةً أخرى، ثم قال: «وها هي تُطلي أظافرها بطلاءٍ أمريكي، وتلبس جوارب من النايلون، ولها مُطلَق الحق في ذلك؛ إذ إنني لم أحصل عليها كزوجة إلا بعد منافسات، أليس كذلك يا حبيبتي؟»
فهمست الفتاة في أذنه شيئًا بصوت لا يُسمَع.
وقال الجندي الأمريكي مُفاخِرًا: «لقد كان يُنافسني في غرامها ضابطٌ بريطاني برتبة ميجور، ولكني فزتُ بها دونه.»
وقال الكولونيل: «وهل ستعود إلى عملك الأصلي عند عودتك للوطن؟»
فأجابه الجندي: «كلا يا سيدي؛ فقد اقتصدت سبعمائة جنيه مُودَعة البنك بِاسمي، وأنا أُجيد التصوير، وسأبدأ عملي بصعود السُّلم من درجاته السفلى كما فعلت أنت.»
شعرت بميل إلى الكولونيل، وأردت أن أُحيِّيه، وأن أُدخِل على نفسه السرور، وأن أُسرِّي عنه كما فعل الجندي الشاب، ولكن بأية وسيلة؟
أخذت أُجهِد نفسي بالتفكير في وسيلة أُعبِّر بها عن شعوري نحوه، وأخيرًا أقبلت عليه وقلت له: «هل تتكرَّم بتصفُّح جريدة المساء؟»
فحدَّق الكولونيل في وجهي قليلًا قبل أن يبتسم ويُجيب: «أشكرك كثيرًا.»
وعاد الجندي الأمريكي يمرح قائلًا: «أودُّ لو رأيتم فتاتي وقد ارتدت ثوبًا برتقاليًّا، وعقصت شعرها!»
واتَّكأتُ في مقعدي مُستريحًا؛ فقد أيقنت أن الكولونيل قد أدرك ما يجول بنفسي، وعلِم ما أُكنُّه نحوه من عطف وولاء.