مكافحة الشيخوخة والموت
يقول ولدمار كيمبفرت في مجلة «فومرو»: «لم تقِف محاولات الكشف عن إكسير الحياة بانقضاء العصور الوسطى أو بظهور العلم التجريبي، وما زال دكتور فاوست حيًّا يُرزَق، وقد يكون اليوم أحد خريجي جامعة من الجامعات، أو عضوًا في جمعية من الجمعيات العلمية يُحاول فيها عن الفيتامينات والهرمونات والبكتريا والأمصال.»
وليس ذِكر فاوست في هذا المقام من قبيل التفكهة؛ فإن قُرناءه المعاصرين يفُوقونه كثيرًا في إلمامهم بوظائف الأعضاء وأسباب المرض وخواص العقاقير، ومع ذلك فما الغرض من معرفتهم بالجراثيم والبنسلين والإستروبتومسين وبالملاريا والسُّل والتيفوس والغذاء والهضم، إن لم يكن لإبعاد شبح الموت عن الإنسان؟
والواقع أن فاوست الحديث فاق سلفه نجاحًا في مُكافحة أمراض العدوى، وإن لم يفُقْه فيما يتعلَّق بأمراض العجز التي تُصيب — على الخصوص — الطاعنين في السن. لماذا تتصلَّب الشرايين ويخفق القلب والكُلْيتان في أداء عملهما؟ ما هو سر السرطان؟ لماذا تتحلَّل الخلايا البشرية فجأة من الرقابة التي تجعلها تُنتِج الأعيُن والأنوف والأفمام والأرجُل والأذرع بالأحجام العادية وتضعها في أماكنها الصحيحة، فتتضخَّم بدلًا من ذلك على هيئة كُتَل لا ضابط لها، تسطو على الجسم وتخنق أعضاءه الحيوية؟ لم نصِل بعدُ إلى جواب، غير أن السعي مُتواصِل للوصول إلى سر الحياة؛ إلى الإكسير الذي يحُول دون تطرُّق الفساد والانحلال إلى جسم الإنسان، ويجعل الرجال والنساء ينتشون في سن المائة كما كانوا يفعلون حين كانوا أصحَّاء البِنية في سن الواحدة والعشرين.
وقد كان دكتور ألكسندر أ. بوجومولتس الطبيب السوفيتي، في طليعة المُعارِضين لقبول الموت حتى في سن المائة. وقد شاعت عن ذلك العلَّامة الشائعات، ومضى أدعياء العلم وأنصاف المُتعلِّمين وأبواق الدعاة من أعداء بلاده ينسبون إليه المعجزات، ويختلقون الأنباء، ويدسُّون الأكاذيب؛ ليُلطِّخوا صفحة جهاد علمية رائعة، وتجارب مُضنِية لحمتها شجاعة طويلة الأمد.
فيكتب بعضهم أن بوجومولتس كشف عن مصلٍ سحري يُعطى لاتِّقاء كل الأمراض حتى السرطان، فيأتي بأعجب النتائج، يقضي على السُّل وأمراض الشرايين، بل حتى على السرطان، وذلك النوع الرهيب من الجنون المعروف بِاسم الشيزوفرينيا (ازدواج الشخصية)، ويجعل النساء تحمل في سن التسعين، ويُتيح لكل من يتعاطاه بلوغ سن الخمسين بعد المائة.
ولم يكن بوجومولتس مسئولًا عن هذه الاختلافات؛ فقد كان عالمًا واقعيَّ النظرة، لا يُمضي جلَّ حياته، كما يفعل الكثيرون، في الأحلام. كان بحَّاثة قديرًا، أمضى من حياته ثلاثين عامًا في درس مشكلة إطالة العمر وعلاجها، بل لم تكن نظرياته أو أساليبه حديثة، وما كان لديه سوى تراثه العلمي العملي الذي شيَّد عليه فكرته. وهي فكرة إن لم تنفع في إطالة أعمارنا إلى الأبد، فهي على الأقل ستُساعد الطب، وتُخفِّف من آلام البشر.
ذهب بوجومولتس، كبعض أسلافه في ميدان الطب، يتساءل أسئلةً قديمة العهد: «لماذا تعيش الأشجار لتبلغ ٢٠٠٠ سنة من العمر؟ ولماذا نتجعَّد ونتقلَّص نحن الآدميين كلما تقدَّمت بنا السنون؟» ولطالما تغيَّرت الأجوبة عن أسئلته بتطوُّر علم الطب؛ فتارة يُعزى السبب إلى الدم؛ ومن ثَم أُجريَت عمليات نقل الدم. وتارةً يُقال بالعودة إلى غذاء المُتوحِّشين السهل؛ لِما في أساليب الطهي الحديثة المعقَّدة من إجهاد للقناة الهضمية. وعندما كُشِف عن الفيتامينات وعلاقتها بأمراض النقص، بدأنا نتردَّد على الأطباء لتناوُل أنواع لا تُحصى منها، بين «أ» و«ب» إلى «ك» و«ل». وأعقبتها الهرمونات، هرمونات الجنس على وجه الخصوص، ودعوى فورونوف وستيناخ أنهما سيردَّان إلى الطاعنين في السن حيوية الشباب ولو إلى حين، إلا أن إكسير الحياة ظلَّ مع ذلك بعيدًا.
إن العجز ليس أمرًا يسيرًا. ويُشير بوجومولتس نفسه إلى ما يُخالِط هذه العملية من عوامل مُتعددة، منها الغذاء والبيئة والمعيشة الصحية والتعرض للعدوى، وتأثير القُوى الكيماوية والكهربائية التي لم يُعرَف عنها بعدُ سوى القليل. ولم يستولِ القنوط على العالم السوفيتي أمام صعوبة الوصول إلى غايته وسط هذا الخليط الخِضَم؛ ومن ثَم توصَّل إلى مَصله عن طريق الأنسجة الوصلة. وكانت الأنسجة الوصلة تُعدُّ فيما مضى مجرد مادة بنائية تقوم مقام الأسمنت في تماسُك العظام والأعضاء والأعصاب بعضها بالبعض. أما بوجومولتس فاستشفَّ فيها ما هو أكثر من الأسمنت؛ فهي إن لم تكن سليمة على خير حال سبَّبت الانحطاط والوهن، وكانت النتيجة ما أطلق عليه الموت البادر في سن السبعين أو الثمانين أو المائة.
وقد استلهم بوجومولتس أبحاث بورديت ومتشنيكوف في الإفادة من نوع معيَّن من الأمصال لتنشيط الأنسجة والخلايا ومُضاعفة قدرتها على المُقاومة، وهي الأبحاث التي توقَّفت لعجز الأخيرَين عن الاهتداء إلى تعيين المقادير الصحيحة لتلك الأمصال.
وكثيرًا ما كان بوجومولتس يبدأ بحقن مَصله منذ الولادة، بل قبل الولادة للأم الحامل (على سبيل الاحتياط ضد العدوى)، وذلك بعد أن نجح المَصل، وأصبح ساطع الاسم بين فتوحات العلم الحديث. وما كان بوجومولتس يقتصر على مَصله؛ فقد كان يُشير بالرياضة والمعيشة الصحية والطعام الجيد والدأب على النشاط، ويُصرُّ على ضرورة ذلك كأي طبيب أمين رشيد.
واليوم يُواصِل علماء أوروبا وأمريكا تجربة مَصل لمعرفة تأثيره على مختلف الأمراض والعِلل كالسرطان والشيزوفرينيا. ولن تُعرَف نتيجة تلك الأبحاث قبل مُضِي بعض الوقت، وحتى تُحلَّل وتُصنَّف وتُلخَّص. وإلى أن يصدُر الحكم على قيمة هذا الكشف العلمي، يمكن التصريح دون مُغالاة بأن كشف بوجومولتس مُستنِد إلى أسسٍ واقعية؛ فهو وإن لم يكن سيُمكِّننا من تطارُح الغرام في سن المائة، كما كنَّا نفعل في عنفوان الشباب وميعة الصِّبا، فإنه سيكون أداةً طيِّبة الأثر يستعين بها الطبيب على قهر المرض. هذا إلى أنه استرعى الأنظار إلى أهمية الأنسجة الوصلية «الفصول».
إن جهود بورديت ومتشنيكوف ثم أخيرًا بوجومولتس، وضعتنا وجهًا لوجه أمام مشكلة العجز والموت البادر. ونحن في غضون عصرنا العلمي هذا نعدُّ الجسم آلةً حية، لكنها آلةٌ ترتكز إلى الكيمياء ارتكازَها إلى العضلات والمفاصل، فلِمَ لا تُفكَّك هذه الآلة لقِطعها الأولية لنرى كيف شُيِّدت؟ ولماذا تتآكل بعض قِطعها؟ لقد فعل المُشرِّحون والأطباء ذلك، وأصبح من غير المُستبعَد أن نتمكَّن بعد قرن أو أقل من إيجاد وسيلة الإبدال من عضوٍ مُعتلٍّ عضوًا آخر صحيحًا مُحتفَظًا به لمثل ذلك الغرض في ثلاجةٍ كهربائية. وقد وُفِّق العلم إلى استبدال قرنية العين، فأصبح في مقدور الأعمى أن يُبصِر ثانية. ونحن ننقل الدم من جسمٍ صحيح لآخر مريض، وغالبًا ما يؤدِّي ذلك إلى إنقاذ الحياة.
إن جوهر مشكلة إطالة العمر راجع إلى تكويننا؛ فنحن مصنوعون من خلايا تتوالد في الظروف المناسبة إلى ما لا نهاية، وفي الإمكان مُشاهدة كيفية توالُد أبسط أنواع الخلايا البروتوبلازمية (البروتوزون) تحت المِجهر؛ فالخلية تنقسم خليتَين، وكلٌّ من الاثنتَين الجديدتين إلى اثنتَين أخريَين، وتستمرُّ عملية الانقسام إلى الأبد. من أجل هذا قيل: «إن الخلية خالدة.» وقد تتبَّع الأستاذ ل. ل. وودرف انقسام كائن صغير يُدعى باراميشم، ظلَّ يتوالد خلال ٩٠٠٠ جيل؛ أي ما يُعادِل ٢٥٠٠٠٠ سنة في حياة الإنسان. وإذا تجمَّعت بلايين الأجسام والخلايا الدقيقة فيما يُسمِّيه العلماء «النطاق المُغلَق»، أو بمعنًى آخر، في كل كائن عضوي؛ أصبح ذلك الحشد طفلًا، وسمَّاه أبواه «جون» أو «نوبل». وتنقضي الأيام حتى تُفاجئك بنبأٍ مُثير؛ فقد قضى جون في منزله بالغًا السادسة والثمانين بعد مرض لم يُمهِله طويلًا … إلخ. ما الذي حدث أصلًا؟ لماذا تُوفِّي هذا الإنسان وهو مجموعة من الخلايا الحية الخالدة؟ أقصى ما يضعه العلم تحت تصرُّفنا من تفسيراتٍ أن جون بدأ يموت في سن الطفولة، وأنه كان طوال حياته يتخلَّص ممَّا لا فائدة منه من الخلايا على صورة نفايات وفضلات، وأنه إذا كان استطاع بلوغ سن السادسة والثمانين، فذلك لأنه كان أسرع في صنع الخلايا منه في التخلص منها. وعندما أعلن الطبيب وفاة جون كان مُصيبًا قانونًا مُخطئًا علميًّا؛ فالواقع أن بعض من أُعلِنت وفاتهم في الاتحاد السوفيتي أمكن إعادتهم إلى الحياة، وجون لم يمُت عندما توقَّف تنفُّسه وضربات قلبه. إن عددًا من أعضائه كان سليمًا، وكان يمكنه مُواصلة تأدية وظائفه سنواتٍ طويلةً أُخريات، وقد ظلَّت خلايا بعض تلك الأعضاء حية حتى بعد أن وقَّع الطبيب على شهادة الوفاة. فهو لم يمُت إلا عند موت الخلية الأخيرة في جثته؛ فإذا أمكنَّا معرفة ما يحدث حين تموت الخلية أمكننا معرفة ماهية الحياة، وأمكننا إطالتها. وهذا سر انكباب البيولوجيين على دراسة الموت انكبابَهم على معرفة الحياة، وهم يسعَون للكشف عن سبب موت جون في حين تظل خلاياه حية.
وعمليَّتا العجز والموت كيماويتان، والتفاعلات الكيماوية ممَّا يمكن التعجيل به أو إبطاؤه بتغيير درجة الحرارة. وقد أُطيل عمر فئران التجارب حين أُعطِيت أقل الطعام لحفظها على قيد الحياة. فإن الطعام كيماوي، وتناوُل الفئران منه أقل ممَّا تستهلك أبطأ من موتها وأرجأه. وقد أمكن إطالة عمر بعض الحشرات ٩٠ في المائة بخفض درجة حرارة تربيتها. وقدَّر بعض العلماء أنه لو أمكن الاحتفاظ بدرجة حرارة الإنسان عند ٣٢٫٨ درجة فهرنيت — وهو أمرٌ مستحيل — لطالت حياة الإنسان ١٩٠٠ سنة، ولكن بأي ثمن؟ أليس معناه زوال معاني الحياة والنشاط والعيش في شبه غيبوبة يقظة، مع فقدان قدر كبير من الإدراك والإحساس، وعدم التنعم بمباهج الكون والطبيعة؟ أيكون في حياة الألف عام إذن ما يُبرِّر عناء البحث عن إكسير الحياة؟
وحين نُشاهد استحالة مُعالجة الجسم البشري، كما لو كان سيارةً يمكننا ابتياع قِطع غيارها، واستحالة الحصول على الحياة إلى ما لا نهاية بدون تبريد أجسامنا، واستحالة الاستمتاع بالموسيقى والانفعالات الإنسانية العظيمة؛ نُدرِك قيمة الحاجة إلى الموت. ونحن لو افترضنا إمكان تجنُّب النهاية إلى الأبد، لانتفت ضرورة التطور، ولم يبقَ سوى الركون، ولن تتطوَّر الكائنات الدنيا إلى أعلى منها؛ ذلك لأن التطور دون موت ممَّا لا يخطر ببال.
إليك حكايةً يرويها العلم: منذ بضعة بلايين سنة دبَّ النشاط في البروتوبلازما. والبروتوبلازما هي أدنى صور الحياة، منها تطوَّرت النباتات والأسماك والزواحف والطيور والثدييات، ثم أخيرًا الإنسان، وقد ظهرت آلاف، بل ربما ملايين، الأنواع وانقرضت. وقد اعتاد العلماء أن يتجنَّبوا الخوض في ذِكر الغرض من هذه العملية المُتواصلة، على أنه لا بد من غرض لاستمرار التطور من أدنى إلى أعلى على نحوٍ أبدي. والإنسان هو قطعًا أسمى صور الحياة المُنتَجة حتى هذه اللحظة، وهو إنسان لا بسبب تكوينه الجسماني، بل بسبب عقله وموهبة إدراكه ووعيه ما يحدث له، وقدرته المحدودة على التنبؤ والاستنتاج، وإمكانه الفكري أن يُعبِّر عن خواطره شعرًا ورسمًا وموسيقى. وهذا أهم ما يُفرِّق الإنسان عن شبيهه بين القردة، وهذا التطور يُفسِّر كثيرًا من أغراض الحياة والموت.
إن مخَّ الإنسان مَثلٌ بارز على أن التطور في الطبيعة دافعٌ مستمر. وقد تكوَّن المخ، بعد طول تغيير وتعديل وتحوير، من خليطٍ كبير من أمخاخ أسلافنا الحيوانيين، فلدينا فيه من الطيور والأسماك والأسود؛ ولهذا نحن نتعارك كما تتعارك، ونُحب كما تُحب، ونسلك كالحيوان.
ولم يكتمل التطور بعد، وكيف يكتمل وقد جاء وذهب ثلاثون أو أربعون نوعًا من الإنسان خلال النصف مليون سنة الأخيرة؟ وهذا ثابت من الحفريات، فهناك إنسان بكين، إنسان جافا، إنسان روديسيا، إنسان هايدلبرج.
كل هؤلاء كانوا يومًا سادة الغابة. أين هم الآن؟ ما الذي يدعونا إلى الظن بأننا الكلمة الأخيرة في عالم التطور؟
إن معيشة ١٠٠ أو ١٥٠ سنة لا تُوقِف دولاب التطور أو تُعطِّله. أما الخلود فمعناه القبر الحي؛ لأننا حينئذٍ سنتناول مصائرنا البيولوجية بأيدينا، وفي هذا تدهوُر إلى الأعماق. لقد لفظت الطبيعة إنسان بكين وروديسيا وغيرهما لتكشف عن اتجاهٍ جليل. إنها تسعى لخلق كائن أقرب إلى الملاك، وأبعد عن النمر قليلًا، وعن ماضي الطير الهزيل.
فلنعِش حتى المائة أو المائة والخمسين. أما الخلود إلى ما لا نهاية فلننصرف عن التفكير فيه.
ألم يكن بوجومولتس واقعيًّا، فلم يُنفِق فيه وقته عبثًا؟!