سر الحياة
إن اكتشاف الطاقة الذرية إن هو إلا بداءةٌ بسيطة!
فإن الذرَّة تحتوي على أشياء أخرى كثيرة غير الطاقة، إنها تنطوي على سر الطبيعة، وهذا السر هو الذي جعل العلماء همَّهم أن يكشفوه، ويُزيحوا عنه الستر الذي طالما أُسدِل عليه.
لماذا يخرج الكتكوت من البيضة، والشجرة من البذرة؟
لماذا ينقسم الميكروب اثنَين فأربعة فثمانية، إلى ما شاء الله؟
كيف تتحوَّل شريحة اللحم التي نأكلها، أو كوب اللبن الذي نشربه، إلى أنسجةٍ حيَّة تمدُّنا بالطاقة اللازمة؟ بل أبسط من هذا كله: كيف يلتئم الجرح؟
إن هذه الأسئلة وكثيرًا مِثلها ما فتئتْ تُلحُّ على عقول العلماء تطلب جوابًا شافيًا، فهل آن الأوان أخيرًا لكي نُجيب؟ لقد ظلَّ العلماء قرونًا طويلة يتحسَّسون طريقهم وسط صعوبات بالغة المشقَّة. ومتى أُتيح لهم أن يُجيبوا عن هذه الأسئلة، فإن انقلابًا سيُصيب العالم كله؛ انقلاب هو أبلغ مغزًى وأعمق مدًى من الدهشة التي خلَّفها انفجار قنبلتَين في هيروشيما ونجازاكي. فإن نظرتنا إلى النجوم والكون وإلى الحياة وإلى الإنسان وإلى القيم والمعاني، كل ذلك كفيلٌ أن يتأثَّر تأثرًا شديدًا بما تتمخَّض عنه معامل العلماء من حقائق.
ما هي الحياة؟ لا أستطيع أن أُجيبك عن ذلك إجابةً دقيقةً واضحة، وكل ما أستطيعه هو أن أذكُر لك أهم خصائص الحياة؛ فأهم ما يتميَّز به عالم الحياة هو أن النظام فيه يتمخَّض دائمًا عن نظامٍ مِثله؛ فالبيضة إن هي إلا جسمٌ منظَّم مرتَّب، فإذا ما فقست أنتجت جسمًا آخر غاية في النظام والترتيب وهو الفرخ؛ فالحياة إذن نظام من نظام وإلى نظام.
وليس كذلك عالم الجماد؛ فهنا يتحلَّل النظام دائمًا إلى فوضى لا معنًى لها. وإن أجسامنا وأجسام الكائنات الحية كلها تتألَّف من الذرَّات التي تتكوَّن منها الشمس والنجوم وكل شيء على أرضنا هذه، فهل من وسيلة نستطيع أن نعبُر بها الهوَّة التي تفصل عالم الحياة من عالم الجماد؟ قد يبدو لك ذلك أمرًا بسيطًا، ولكن صدِّقني لا زال العلماء في حيرة من أمرهم.
إذا سلَّطت الأشعة السينية مدةً كافية على بيض ذباب الفاكهة، فإن الذباب الجديد الذي يفقس عنه البيض يخرج آية في الشذوذ، فمنه ما هو أحمر العينَين، ومنه ما ليست له أجنحة، أو لا شعر له على الإطلاق. وقد فسَّر العلامة أروين شرويدنجر، الحائز على جائزة نوبل في الطبيعة، فسَّر ذلك بأن «الجينات»، وهي العوامل المسئولة عن تحديد صفات النسل داخل الخلية، إن هي إلا بلوراتٌ معقَّدة التركيب قادرة على إعادة نفسها! وهي تتأثَّر كما تتأثَّر أية مادة كيميائية أخرى بتغيُّر الظروف الكيميائية أو الطبيعية المُحيطة بها، كالحرارة وكالأشعة السينية. وإذ يتغيَّر تركيب الجينات يتغيَّر تبعًا لذلك ما تُورِثه للنسل الجديد من صفات؛ فتحمرُّ العيون ويتساقط الشعر وتقع الأجنحة، ولكن أين لهذه الجينات القوة التي تجعلها تُحدِّد هل كان النتاج طائرًا أو حِصانًا أو آدميًّا؟ وما الذي يجعل الكروموزومات، وهي اللفائف المحتوية على الجينات في الخلية، ما الذي يجعلها تنقسم وتُوزِّع نفسها بشكلٍ هندسيٍّ بديع، حتى يرث الولد بعض صفاته عن أبيه وبعضها عن أمه؟ أي عقل يكمن وراء هذا النظام المُحكَم ويُحرِّكه؟!
إن وحدة تركيب المادة الحية في الخلية (البروتوبلازم) هي الأحماض الأينية، فهذه هي أحجار البناء التي تتكوَّن منها البروتينات مهما يكن نوعها. وكما أن دنيا الموسيقى، بدرجاتها المختلفة من سيمفونيات وأوبرات إلى أغانٍ وأراجيز صغيرة، كلها مَبنية من ثلاثين نغمة لا غير، كذلك الحياة وحدتها الحامض الأيني.
ولعل أبسط ما نبدأ به إذ أردنا أن نخلق الحياة في أنابيب الاختبار وقناتَي التقطير، لعل أبسط ما نبدأ به هو «الفيرس».
والفيرس هو نوع من الأجسام لا زال أمر حياته مجال شك كبير ونقاش بين العلماء لا يفتُر، وهو سبب كثير من الأمراض المُنتشرة كالأنفلونزا والحصبة وشلل الأطفال، ويكفي وضع قليل منه على ورقة من ورق الطباق لكي يقضي عليه كله.
فإذا أفلحنا في تمثيل الفيرس حُقَّ لنا أن نُحاول خلق خلية بسيطة، وعند هذا الحد يجدُر بنا أن نقِف هُنيهةً ونترك الأمر في يد علماء الوراثة والتطور؛ فهم أجدر أن يتولَّوا هذا المخلوق الجديد برعايتهم وتوجيههم ليجعلوا منه كائنًا حيًّا راقيًا.
لقد كانت الصبغة الغالبة على البحث والتفكير العلمي حتى عهد قريب هي الصبغة التحليلية، وشُغِل العلماء بفصل المخاليط إلى مركبات، وتحليل المركبات إلى عناصرها، وتفكيك العناصر إلى ذرَّاتها. وانتهى المطاف بهم إلى الذرَّة، فهاجَموها وحطَّموها، وانطلقت الإلكترونات من أفلاكها، والبرونات من أوكارها، وكان ما كان.
إلا أن بعضًا من العلماء أخذوا يُولُون الطريقة التمثيلية (التركيبية) جانبًا من تفكيرهم وبحثهم، وبَهَرتهم النتائج على قلَّتها، وأصبح تمثيل المواد الغذائية والوقود والأدوية أمرًا سهل المنال.
وحلَّق بعضهم إلى آفاقٍ أعلى، يريدون تمثيل الحياة نفسها؛ تمثيل أنفسهم! تُرى هل سيُفلحون؟ علمُ ذلك في طوايا الغد القريب.
الأبناء الذين يقتلون آباءهم
واتخذ فرويد من هذه الأسطورة أو التمثيلية رمزًا للعلاقات الإنسانية بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم، فقال «إن الأطفال الذكور يُحبُّون أمهاتهم ويكرهون آباءهم»، وعنده أن هذا الحب أكثر من مجرد العاطفة المعروفة؛ فهو حبٌّ جنسي، على أن مذهب فرويد يقوم على جعل الغريزة الجنسية الدافع لجميع أنواع السلوك الإنساني، وعلى أن هذه الغريزة لا تظهر عند المُراهقة، بل هي قائمة في الطفل منذ الولادة.
أما أبناء الشعوب البدائية فإنها تُقدِّس «الطوطم»؛ وهو حيوان أو نبات أو جماد يعبدونه. وهم بحكم هذه القداسة يمنعون الاعتداء على الطوطم ويُحرِّمون قتله، كما يفعل أهل الهند في تحريم قتل البقرة. والأب هو بديل الطوطم؛ فإذا اعتدوا عليه كفَّروا عن ذنبهم بالامتناع عن الاتصال بنساء أبيهم.
فإذا تمَّت جريمة القتل اجتمع الأبناء المُذنِبون، وأسرعوا في وضع قوانين ومحرَّمات دينية ونظام اجتماعي؛ أي إنهم يضعون في حياتهم البذور الأولى للحضارة التي تنتقل منذ ذلك الوقت من جيل إلى جيل، بحيث تجتاز تاريخ الإنسانية.»
نحن إذن بإزاء مشكلة عسيرة الحل: هل كانت أصول الحضارة في المجتمع البدائي، فلا تصحُّ نظرية فرويد القائلة بأن قتل الآباء هو السبب في مولدها؟ أم أن هذه الأصول لم تكن قائمة، فتحتاج إلى تعليل ظهور الأشياء المقدَّسة على يد الأبناء والقوانين والعادات والتقاليد؟
غير أن نظرية فرويد السابقة يمكن الاعتراض عليها، وأهم هذه الاعتراضات هو «دوام الجريمة الأولى» واستمرارها؛ إذ كيف يُعقَل أن يرتكب الناس هذه الجريمة بدون انقطاع على الأجيال المُتعاقبة على الإنسانية.
ويردُّ فرويد على هذا الاعتراض بنظريةٍ جديدة أو بفرضٍ جديد، يقول فيه: «لا يجهل أحدٌ وجود نفس جمعية تؤدِّي وظيفتها، وتنتقل صورتها إلى النفس العادية.»
غير أن القول بوجود نفس جمعية لا يكفي في تعليل ظاهرة القتل مع انتقال هذه النزعة منذ الحياة البدائية؛ ولهذا يُضيف فرويد إلى القول بوجود النفس الجمعية القول بأن الشعور بالمسئولية قد صحب الإنسان منذ آلاف السنين، وانتقل معه من جيل إلى جيل، وأن هذه المسئولية تتَّصل بجريمةٍ أولى لا يحتفظ الإنسان الحاضر بأي ذكرى لها، وأن هناك مرحلةً تاريخية كان الآباء يستبدُّون فيها بأبنائهم ويُسيئون معاملتهم، ثم ظهر جيل من الأبناء قضَوا على استبداد الآباء، وتخلَّصوا من سوء حكمهم.
فلما شعر فرويد بتهافُت نظريته، أراد أن يُعزِّزها بتأييد فكرة «النفس الجمعية»، وأنها همزة الوصل في استمرار الحياة النفسية عند الإنسان، فلا يحدُث فيها انقطاع بموت الأفراد، وبغير ذلك لا يمكن أن يوجد علم النفس الاجتماعي أو نفسية الشعوب. فإذا لم تنتقل النفسية من جيل إلى جيل بحيث تستمر على مدى الأجيال، فسوف يضطرُّ كل جيل إلى تعلُّم الحياة من جديد؛ ممَّا يتنافى مع كل تقدُّم ورقي.
غير أن القول ﺑ «النفس الجمعية» خرافةٌ لا يقبَلها علماء الاجتماع المُحدَثون الراسخون في هذا العلم، وهم لا يقبلون كذلك القول بالانتقال الوراثي للاستعدادات النفسية المُكتسَبة، ولا بالاستمرار النفسي فيما يفُوق نطاق قُوى الفرد النفسية.
أما علماء الأجناس البشرية فإنهم ينظرون في البيئة التي ينشأ فيها الجيل، ويعيش لهذه البيئة، ويأخذ منها تجاربه ممَّا يحتفظ به لمصلحة الجيل المُقبِل، وتتكوَّن هذه البيئة من مجموعة الأشياء المادية والتقاليد وأساليب الفكر ممَّا تتميَّز بطابَعٍ خاص نُسمِّيه الحضارة. هذه البيئة وما يتصل بها من حضارةٍ أعلى من الفرد، ولكنها اجتماعية، وليست نفسية. الإنسان هو الذي يصنعها، وهي من ثَم تؤثِّر فيه وتُشكِّله. وتصلح البيئة لأن تكون ميدانًا تنعكس عليه نوازع الإنسان ومُبتكَراته بما يزيد في قيمة الإنسانية. وفي الوقت نفسه، البيئة هي المُستودَع الوحيد الذي يستمدُّ منه الفرد ما يُحقِّق تجربته؛ فنحن إذا حلَّلنا عناصر الحضارة تبيَّن لنا أن البيئة هي مصدر الخلق والحفظ والنقل لها. ويُبيِّن لنا هذا التحليل أن العُقَد النفسية ليست أصيلة في الفطرة الإنسانية، بل هي وليدة الحضارة.
ويتفق مع فرويد عالمٌ نفسانيٌّ جديد يُسمَّى «جونس»، ويرى أن عقدة أوديب هي الأصل في كثير من العواطف البشرية، وهذه العقدة سابقة على كل حضارة، وهو يقبل كذلك نظرية انتقال الدوافع الإنسانية عن طريق الوراثة خلال الأجيال.
يقول علماء الأجناس البشرية: «إن الأسرة قبل العصور التاريخية وقبل الإنسانية كان أفرادها مُرتبِطين بعضهم ببعض بروابطَ غريزيةٍ فطريةٍ خارجة على تأثير العُرف؛ وذلك نظرًا لأن الحيوانات لا تعرف الكلام واللغة ولا القوانين والشرائع، ثم إن اتصال الذكور بالإناث يتم عن طريق الجاذبية الطبيعية في فصل الصلة الجنسية، فإذا انتهى ذلك الفصل فلا تتمُّ أي صلة جنسية، فإذا حملت الأنثى انصرف الزوجان بدافعٍ جديد إلى حياةٍ مُشتركة حسبُ الذكر فيها دور الحارس الذي يحمي الأنثى أثناء الحمل، فإذا وضعت الأنثى استيقظت في نفسها غرائز الأمومة، والحاجة إلى إرضاع الصغار والعناية بهم، بينما يقوم الذكر بالسهر على الأسرة الجديدة، والبحث عن الطعام لها، وحمايتها من الأعداء.
ولمَّا كانت مدة الحمل والرضاعة عند القردة طويلة، فلا بد للاحتفاظ بالنوع من ظهور عاطفة محبَّبة عند الذكر والأنثى قبل ظهور المولود وبعد ولادته، إلى أن يصبح هذا الصغير قادرًا على مُواجهة الحياة بنفسه مستقلًّا عن غيره. وما يكاد يصل إلى مرحلة النضج حتى تختفي الحاجة البيولوجية الدافعة إلى الاحتفاظ بالأسرة. وهذا يختلف عن الأسرة الإنسانية؛ لأن روابط الأسرة تظل قائمة بعد نُضْج الأطفال ووصولهم إلى مرحلة الرجولة، بل استقلالهم عن آبائهم.
وإذا نظرنا إلى عالم الحيوان تبيَّن أن الثدييات الراقية «مثل القردة» يهجر فيها الذكر حين يبلغ الشيخوخة الأسرة، مُتخلِّيًا عن مكانه إلى ذكرٍ أكثر شبابًا وأقدر على حماية الأسرة. وهذا في مصلحة النوع؛ لأن صفة الحيوان لا تَرْقى مع التقدم في السن، بل على النقيض يُعدُّ العجوز عبئًا ثقيلًا على الأسرة. فالحيوان في الحالة الطبيعية تجري أموره دون صعوبات أو تعقُّد أو كَبْت، وهذا ينفي ما يقوله فرويد وجونس من أن عقدة أوديب قائمة في الإنسان قبل الإنسانية وقبل ظهور الحضارة.»