الفوضى الجنسية عند المجرمين
لا تختلف الحياة الجنسية للفقير عن الحياة الجنسية للغني إلا قليلًا، وإذا كان هناك اختلاف فهو أن النظام الجنسي للفقراء أكمل وأقرب إلى الطبيعة البيولوجية العادية من نظام الأغنياء، ولكن دراسة طباع طبقة المُجرِمين في أي مجتمع تكشف لنا عن التعقيدات والشذوذ في حياتهم الجنسية، مِثلما هو الحال في مُثُلهم الأخلاقية.
والشخص الذي يستحيل مُجرمًا شخصٌ يُخفِق في الانسجام والانطواء في المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا الإخفاق يترك أثره في كل ناحية من وجوده وكل مرحلة في حياته، فيصبح شخصًا مُعادِيًا للمجتمع في جميع وجوهه، وهو إذ ينهج هذا السبيل المُعادي للمجتمع يضطرُّ الدولةَ في النهاية إلى جَعْله مُجرمًا، تتخذ كل الوسائل لحماية المجتمع من شروره.
والرأي السائد بين الناس العاديين أن الشخص يُعدُّ مُجرمًا بمجرد ارتكابه جريمة خطيرة، حتى ولو جاءت هذه الجريمة عفْوَ الخاطر، ولم تصدُر عن عمد وسبق إصرار. ومِثل هذه الأعمال تُعدُّ خرقًا للقانون، ولكنها لا تكفي بذاتها لوَصْم مُرتكِبها بصفة الإجرام. أما المُجرم الحقيقي فهو شخص ينشأ على كراهية المجتمع في سنٍّ مُبكرة، وينمو هذا الشعور في نفسه تدريجًا ويستغرق أعوامًا، وفي كثير من الأحوال يبدو هؤلاء المُجرمون وكأن بذور الثورة على المجتمع قد وُلِدت معهم.
ومِثل هذه الشخصيات تُعدُّ من الشخصيات المريضة عقليًّا، والمُعتقَد أن طبيعتهم الإجرامية جزء من نفوسهم الأصيلة مثل لون أعيُنهم أو شكل آذانهم. وفي طور الطفولة يبدأ هؤلاء الأشخاص في اقتراف أعمال تكشف عن شذوذهم واختلافهم عن سائر الأطفال. وفي سن الخامسة أو السادسة تبدو عليهم أمارات القسوة الشديدة، والاستهتار الكبير بسعادة الغير، والانغماس في حب الذات، وعدم الاستعداد للاعتراف للغير بحقوق الملكية أو احترامها، ورفض الخضوع لأبسط قواعد الأدب. ويمتلئ تاريخ هؤلاء الأطفال البؤساء بصدماتٍ جنسيةٍ مُتعددة، وظاهرتهم هي السلوك السيكوباتي.
وفي طور البلوغ يبدأ الانحراف الإجرامي وضعف الأخلاق، ويكشف التحليل عن اختلاف هذا النوع من الانحراف عمَّا يحدُث للطفل العادي. والطفل العادي قد ينحرف، فيُمارس السرقة أو تخريب مُمتلكات الغير، أو ينحدر إلى مُمارسة علاقات جنسية شاذة مع غيره من الأولاد، ولكن هذه النزعة نحو الشذوذ سرعان ما تفتُر في نفوس الشبان العاديين، فيكفُّون عن هذه الأفعال حتى تتكوَّن عاداتهم الراسخة، ويعدل الشاب العادي عن تلك الانحرافات الأخلاقية التي لا يرضى عنها المجتمع، لا خوفًا من العقاب، وإنما رغبة في كسب رضاء الكبار؛ وهو بهذا يحتفظ لنفسه بمكانةٍ محترمة في الحياة الاجتماعية؛ أي إنه يحترم تقاليد المجتمع لأنه يريد أن يصبح فردًا عاديًّا في الجماعة.
أما المُجرم الحقيقي فلا تُخالج نفسَه هذه الرغبة، وقد يرتدع بفعل العقاب، ولكنه يلجأ إلى الحيلة ليفرَّ من الرقابة، فلا ينكشف أمره، ولا يخطر لهذا الشخص ذي النزعة الإجرامية شعورٌ داخلي يُحبِّب إليه أن يُقلِّد الناس حوله ويتطبَّع بطباعهم — بوصفه عضوًا في هذه الجماعة — وإنما يغلب عليه إحساس بكراهية المجتمع، وعدم الاكتراث بالرأي العام. وهو إذا اندمج في المجتمع، فهو يُحسُّ السعادة في خرق القانون أكثر ممَّا يُحسُّها في مُراعاته والانصياع لأحكامه.
والمُجرم المُبكِّر لا يكون في جميع الأحوال مريضًا عقليًّا، بل ربما كان في كثير من النواحي أرقى من مستوى الذكاء العادي، وسر انحرافه لا يرجع إلى جهله، وإنما يرجع إلى رفضه أن يُفيد من مواهبه بالطريقة التي يتبعها العضو العادي في المجتمع. ومثل هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون تنظيم معارفهم أو تجاربهم بصورةٍ يقبَلها المجتمع أو يُوافِق عليها، وهم يرفضون أن يُحاسِبوا أنفُسهم على أساس القواعد أو التقاليد التي يحترمها مجتمعهم. ومثل هذا الميل يمكن عدُّه فوضى تنتاب الحياة الروحية لهؤلاء الأشخاص الخارجين على المجتمع؛ أي إن حياتهم ينقصها التنظيم، فهم لا يعيشون على هدفٍ محدَّد، ولا يتعلَّمون تجارة يربحون منها، أو يتبعون نظامًا معيَّنًا للتوفير، أو يرسمون برنامجًا لحياتهم يجعل منهم مُواطنين مُحترمين. ويكون هؤلاء الأشخاص من ذوي المطامح والرغبات، ولكنها كلها تصدُر عن نزعةٍ أنانية تجعلهم دائمًا في نزاع مع القانون.
وهذا التشتُّت وهذه الفوضى يتمثَّلان على صورةٍ كبيرة في حياتهم الجنسية، وهم يجعلون علاقاتهم الغرامية تعتمد كلها على الرغبات الجنسية، ولا ترتفع بها أبدًا إلى المستوى الذي يُرغِّبهم في احتمال مسئولية الزواج، وإنشاء بيت وإنجاب أطفال. وأنانيتهم المُطلَقة تجعل مِثل هذا التنظيم الطبيعي للحياة الجنسية أمرًا غير مرغوب فيه ومستحيلًا من وجهة نظرهم. وهم يتخذون عشيقاتٍ يستبدلونهنَّ كلما حلا لهم ذلك، وإذا حدث أن تزوَّجوا فإنهم يُغيِّرون زوجاتهم أيضًا حسب أهوائهم، وإذا أصبحوا آباءً فإن أبناءهم غالبًا ما يكونون غير شرعيين، ويرفضون هم أن يحتملوا بإزائهم أية مسئولية. والبيت عندهم ليس سوى مكان يخلعون فيه ثيابهم، وهم يرفضون الاستقرار في بيتٍ واحد، مِثلما ينزعون عن الإخلاص لامرأةٍ واحدة على الدوام.
أما تصرُّفاتهم هذه فيما يتَّصل بالحياة الجنسية، ورفضهم الخضوع لنُظُم الجماعة؛ فإن هذا هو الذي يُبغِّض المجتمع فيهم. وربما كان للفرد العادي علاقاتٌ جنسيةٌ غير شرعية في وقتٍ ما، ولكنه على الرغم من فقره يرتدُّ إلى الحياة الزوجية، ويبقى على الإخلاص لزوجته، وتُساوِره نزعة الأبوة، وهو يُحب أطفاله، ويُوفِّر لهم بيتًا مهما كان حقيرًا، وهو على استعداد لبذل جميع التضحيات من أجل زوجته وأطفاله وبيته، وهو يرسم الخُطة للمحافظة على هذا البيت، ولا يعُوقه عن ذلك فقر أو جهل، وحياته الجنسية مُنتظمة ذات هدف معيَّن، وهي تتفق مع المُثل التي لا بد من توفُّرها لتحقيق سعادة الجنس البشري بأَسْره، والسير به إلى الأمام.
ودراسة نفسية المُجرم تكشف عن مقدار اختلاف حياته الجنسية عن الفرد العادي. والواقع أنه من الممكن النظر بعين الحذر والريبة إلى كل شاب بالغ يعجز عن تنظيم حياته الجنسية وفقًا للقواعد المُتعارَف عليها؛ فهو إما أن يكون مُجرمًا، أو شخصًا يشعر بالكراهية للمجتمع ممَّا قد يدفع به يومًا ما في طريق الإجرام. وإذا كان أمره لا ينكشف حتى يومئذٍ، فربما كان مَرجع ذلك إلى عدم سنوح الفرصة واتِّساع المجال.
وأنواع الفوضى الجنسية بين هؤلاء الأشخاص المُعادِين للمجتمع تختلف تبعًا لدرجة ذكائهم، ومقدرتهم على النجاح في تنفيذ برنامجهم الإجرامي. وأقدر هؤلاء يفوز بالغنى، فيملك شقة، ويتخذ خليلة تعيش معه حتى ينصرف هواه إلى أخرى. أما الأقل من ذلك في الذكاء والمقدرة فإنه يخضع لرئيسٍ إجرامي، ولا يستطيع أن يتخذ لنفسه خليلة، فيكتفي بمصاحبة النساء الساقطات. وهناك من هم أقل من هذا درجة من ذوي النزعات الإجرامية أيضًا، ومنهم الشريد المُتحول واللص الحقير، وتنتشر بين هؤلاء عادةً مُخالطة الذكور، فيتخذ الكبار منهم طفلًا يُعلِّمونه الإجرام، ويبسطون عليه لواء حمايتهم، ويستخدمونه جنسيًّا.
ومهما يكن مقدار ذكاء هؤلاء الرجال أو نوعهم أو مركزهم في الحياة، فكلهم يتَّصف بالأنانية المُطلَقة، والاستهتار الشديد براحة الغير وخيرهم، وانعدام الإحساس بالعطف نحو الضعيف، أو الحب الخالص للمرأة والأطفال، أو الرغبة في اتخاذ بيت ثابت. ومثل هذه الطباع لا تتأثَّر بالناحية المالية، وإنما ترجع كلها إلى تكوين شخصياتهم. وبعضهم يكون مُزدوج الشخصية؛ أي يجمع بين شخصية المُجرم في الخارج، وشخصية الزوج والأب العطوف في بيته.
وهؤلاء المُجرمون النفسيون رجالٌ مرضى، ومرضهم قد يكون أسوأ من مرض المُصابين بالسرطان أو السُّل أو ضعف القلب أو غير ذلك، وتجب معاملتهم معاملة المرضى، ولكن تجب في الوقت ذاته حماية المجتمع من آثامهم، مثل وقايته من الأمراض المُعدية والأوبئة. ويجب فصلهم عن سائر الناس، وأفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي حجزهم في إصلاحيةٍ مدى الحياة. ولو أن هذا لا يُنهي المُشكِل، فإن الحدَّ من حرياتهم، وإجبارهم على احترام قوانين معيَّنة، تبعث في نفوسهم الشقاء وعدم الرضاء؛ ولهذا فنحن نسمع كثيرًا عن قلاقل مُتكررة في سجون الدولة، يُثيرها هؤلاء المحكوم عليهم بالسجن لمددٍ طويلة أو مدى الحياة، ولكن إذا كانوا هم يرفضون الخضوع للقانون الاجتماعي للمجتمع الحر، فإن الحل الوحيد هو إجبارهم على حياة السجون أو الإصلاحيات.
ويجدُر بكل فرد، إذ يُقبِل على حياة البلوغ، أن يفهم أُسُس تنظيم الحياة الجنسية، وأن يكون قادرًا على انتهاج سبيل يتَّفق مع الجماعة، وأن يتَّبع هذا المنهج، ويحتمل المسئوليات المختلفة، فيتزوَّج، ويبدأ في تكوين أسرة يتخذ لها بيتًا دائمًا. أما إذا كان لا يرغب في سلوك هذا السبيل، واحتجَّ بالطموح أو المتاعب المالية أو الحاجة إلى مُواصلة التعليم؛ فهناك من ينظر إليه بعين الريبة والشك؛ ذلك لأنه إذا بدَت إلى جانب إهماله تنظيم الحياة الجنسية مظاهرُ الإفراط في الأنانية، والرغبة الدائمة في تحقيق المطامع على حساب الغير؛ عدَّه المجتمع مُجرمًا من الناحية الجنسية، سواء قام الدليل الفعلي على ذلك، أو كان مجرد استعداد قد تبدو آثاره في المستقبل القريب أو البعيد!