الحرية الجنسية عند الشعوب الهمجية
وضع البروفسور «برونيسلاس لملينوفسكي»، أستاذ علم الأجناس البشرية في جامعة لندن سابقًا، كتابًا قيِّمًا عن دراساته الشخصية الطويلة التي قام بها أثناء جولته العلمية في جزر «تروبرياند» البريطانية. ولعل القارئ يتساءل بعد اطِّلاعه على الفصل الذي ننقله فيما بعد من ذلك الكتاب: «أليس هناك وجهٌ للتشابه بين مجتمعنا المُتمدين الحديث وبين ذلك المجتمع الهمجي؟» أو: «هل ترى مدنيتنا المعاصرة تعود بنا إلى الوراء؟»
وتشمل هذه الحرية الواسعة العلاقات الجنسية بين الأطفال الذين يتعلَّمون هذه الناحية من أحاديث الكبار، ثم من مُشاهداتهم الشخصية في الأكواخ أو تحت ظلال الأشجار، حيث يتصل آباؤهم وأمهاتهم أو الشبان بعشيقاتهم على مرأًى منهم. فإذا لاحَظ الأب والأم أن الابن ينظر إليهما لا يقفان عن الاستمرار في الفعل، بل يكتفيان بأن يطلبا إليه أن يُغطِّي رأسه وينام، وهو حرٌّ أن يُطيع أو يتمرَّد، ثم يمتدحان هذا الابن أو تلك البنت؛ لأنه لا يتحدث مع زملائه عمَّا شاهَد. وحدث مرةً أني كنت في رفقة جماعة من سكان تلك الجزر تتكلم عن شروط الزواج والعلاقات الجنسية، فاقتربت منَّا الابنة الصغيرة، وأخذت تسترق السمع، فسألتُ أباها أن يُبعدها، فضحك وقال: «لا بأس عليك، إن ابنتي لا تنطق بكلمة ممَّا ترى أو تسمع، وهي تذهب معنا إلى الصيد، وترى حالتنا العارية تمامًا، ومع ذلك تأبى أن تصف ذلك إلى أمها أو خالتها.»
ولدى الأطفال من الجنسَين فُرصٌ لا تُحصى لمُمارسة الحب؛ فالذكور يُعلِّم بعضهم بعضًا أسراره؛ ولذلك حين يبلغ الواحد منهم الرابعة من عمره يكون خبيرًا واسع الاطلاع في هذا الشأن.
ولما كان هؤلاء لا يخضعون لرقابة الوالدَين أو الأشقَّاء الكبار، ولا يتقيَّدون بوازعٍ أخلاقي إلا تقاليد القبيلة التي تُحرِّم الصلة الجنسية بين الأخ وأخته، أو بين الابن وأمه وخالته؛ فإن إقبالهم على اللذَّات لا يجد عائقًا ولا ناقدًا؛ لأن آباءهم شديدو التسامح معهم في هذه الناحية، ولا يرون في هذا الإقبال ما يدعو إلى اللوم. ويتحدث القوم، وهم يتضاحكون، عن فلانة (الطفلة) التي بدأت تُعاشِر فلانًا، أو عن فلانة التي غيَّرت عشيقها، ويقولون: «إن العلاقات الغرامية هي تسلية الأطفال البريئة!»
متى يبدأ الأطفال هذه الصلات العملية؟ يقول سكان الجُزر: «إنها تبدأ عندما يسترون عوراتهم؛ أي بين الرابعة والخامسة.» ويؤكِّدون أن الأطفال في هذه السن يقومون بهذه العمليات على وجهها الصحيح الكامل. ومع أني أميل إلى عدِّ هذا التأكيد من قبيل المبالغة التي هي طبيعة في المجتمع البدائي، إلا أن البراهين التي تجمَّعت لديَّ تُثبِت أن هذه الصلات تتخذ شكلها «الفزيولوجي» الصحيح بين السادسة والثامنة بالنسبة إلى البنات، وبين العاشرة والثانية عشرة بالنسبة إلى الأولاد، ومن ذلك الحين تبدأ العلاقات الجنسية نشاطها العظيم في حياة الذكر والأنثى، بل في الأسرة والقبيلة معًا.
والعلاقات بين الصِّبية لا تدوم؛ لأنها قائمة على العبث، ولا تُكلِّف أحدًا منهم نصبًا، ولكن الفتى يضطرُّ متى بلغ الثالثة عشرة أو أكثر إلى أن يبني له كوخًا منفردًا، أو يجد مأوًى مُنعزلًا يلجأ إليه مع الفتاة التي يميل إليها. وقد يلجأ إليه أزواجٌ كثيرون إذا تعاونوا على بنائه، وهناك يُعدُّون الطعام، فيأكلون ويشربون قبل أن يُمارسوا العلاقات الجنسية. ومتى نضجت الثمار البرية ذهبت جماعات منهم لقطفها، ثم يُقدِّمونها هدية إلى الفتيات اللواتي يُرافقنهم مع كثير من الأزهار أو المحار أو الفراش.
وفي أحيانٍ أخرى، يسير الفتيات على انفراد والفِتيان يلعبون وحدهم. ومردُّ ذلك إلى ملل الفريقَين، ولكن هذه الحالة لا يطول أمدها.
ومتى بلغ الطفل الرابعة عشرة أصبح معدودًا بين الرجال، وصار ينعم بحقوقٍ جديدة، ويحمل مسئولياتٍ مُتعددة، وبات لزامًا عليه أن يهجر المنزل حتى لا يُسبِّب مُضايقة لوالدَيه أثناء اتصالهما الجنسي، وينفصل عن شقيقاته، وتتسع دائرة المحظورات عليه حسب شرائع القبيلة. وهنا يبدأ التفكير في الزواج.
والزواج عندهم بسيط؛ فالشاب يختار الفتاة التي يريدها زوجة من بين الكثيرات ممَّن عاشرهنَّ مُعاشرة الأزواج، ثم يذهب هو وأهله لخطبتها من أبيها. فإن كان كسولًا (وهو أكبر عيب يحطُّ من قيمة الرجل) أو من طبقةٍ أدنى، رفض الأب المُوافقة. فإن كان الفتى والفتاة يتبادلان الحب العميق، هربت الفتاة معه رغم مشيئة والدها. وإذا ظلَّ الوالد مُصرًّا على رفض الزواج، مضى إلى بيت الفتى مع بعض أتباعه وأعوانه وعاد بابنته، ولكن إذا هربت الفتاة ثانية إلى بيت عشيقها تحتَّم على الأب القبول بالأمر الواقع، وأصبح الاثنان زوجَين في حكم الشرائع المتَّبَعة.
والأب هو المسئول عن رفاهية ابنته بعد زواجها، بل مسئول عن طعامها؛ فهو يُخصِّص لها قسمًا من محصول أرضه لمدة سنة، كما يُخصِّص قسمًا آخر لأمه ولخالته إذا لم يكن لتلك الخالة من يعُولها. والابن عادةً يتبع الأم لا الأب؛ ولذلك كانت صلته بها أمتن وأثبت على الزمن.
وللحب ظاهرةٌ غريبة في جزر «تروبرياند» قد تخفى على الكثيرين، وهي أن للعلاقات الجنسية، مهما طال أمدها أو قصر، ثمنًا يجب أن يؤدِّيه الرجل بصورة هدايا؛ فإن كانت العلاقة لمرةٍ واحدة كانت الهدية غالية، أما إذا كان القصد منها الزواج نقصت قيمتها حتى لا تزيد أحيانًا على حبَّة من الفاكهة، أو عدد من أزهار. وتتمسَّك الأنثى بحقها هذا، ولا تنزل عنه أبدًا؛ فإذا اتصل بها طفل أو شابٌّ ولم يُقدِّم الهدية المُلائمة (وهي تختلف حسب جمالها وسنها ومركزها في القبيلة)، أشاعت بين الفتيات أنه بخيل، فلا ترضى واحدة منهنَّ الاتصال، ويصبح منبوذًا منهنَّ حتى يُقلِع عن عادته، أو يضطرَّ إلى إعطاء الهدية مقدَّمًا.
والزوجة تُطالب زوجها بثمن اتصاله بها كل مرة، ولا تجد غضاضة في مُطالبته به علانية أمام أهله وأهلها، بل أمام الغرباء، لكنها تنقطع عن المُطالبة إذا كانت مُنصرِفة إلى إرضاع الأطفال والعناية بهم؛ إذ تقبَل الصلة الجنسية مجانًا، ولكنها تعود إلى المُطالبة بمجرد أن يبلغ الطفل الثالثة من عمره أو أقل، وأصبح الأب مسئولًا عن تربيته والإشراف عليه. والفرق عظيم بين تقاليد سكان هذه الجزر وبين الدعارة في المجتمع الحديث؛ ففي الحالة الأولى الدافع إلى الإصرار على أخذ الهدية هو حمل الذكر على الاهتمام بالفتاة، بينما الدافع إلى الحالة الثانية هو الرغبة في الحصول على النقود أو ما يقوم مقامها.