الجريمة والشذوذ الجنسي
تشغل الرأيَ العام من حين إلى حين جريمةٌ من الجرائم الجنسية، فيُقبِل الناس على أنبائها مُتهافتين، يترقَّبونها في الصحف والمجلات، ويتلمَّسونها في المجالس الخاصة والعامة، ويجعلونها موضع سمرهم وحديثهم، ويحفلون بتفصيلاتها في كل مناسبة، ويُديرون ذِكرها في كل مكان، ويكون لكل إنسان فيها رأي، ولكل مُتحدِّث عليها تعليق. وقد تقوم في بلد من بلاد الله عصابةٌ مسلَّحة تُهلِك الزرع والنسل، وتعيث في الأرض فسادًا، فلا تنال من اهتمام الناس مثل ما يناله رجلٌ فرد الْتوَت به غريزته الجنسية مثلًا، فأصابه من الشذوذ والانحراف ما يجعله يقتل فريسته بعد أن ينال أربه منها، كما حدث منذ سنوات في فرنسا، وكما حدث في الإسكندرية منذ بضعة أعوام، إذ رُوِّعت بسلسلة من الجرائم الغامضة المُتشابهة، التي قيل إن بطلها كان واحدًا من هؤلاء الشواذ «الساديين».
أما الساديَّة فهي انفعالٌ جنسي مصحوب بالرغبة في التعذيب واستعمال العنف والقسوة مع الجنس الآخر. وأما الماسوكية فهي على عكسها؛ هي انفعالٌ جنسي مصحوب بالرغبة في الاستسلام المُطلَق لسيطرة شخص من الجنس الآخر، والوقوع تحت تأثيره، والشعور بلذةٍ فائقة في تلقِّي كل مسبَّة وإهانة تصدر عنه. هذا وإن «السادية» منسوبة إلى رجلٍ فرنسي يُدعى الكونت دي ساد، أصابته في شبابه مشكلاتٌ جنسية خطيرة انحرفت بغريزته ذلك الانحراف الذي جعله لا يستكمل نشوته عند اجتماعه بمن كان يتصل بهنَّ من النساء إلا إذا أمعن في تعذيبهنَّ وضربهن بطريقةٍ وحشية. أما «الماسكوية» فإنها تُنسَب إلى ماسوك النمسوي الذي نشأ أيضًا من الناحية الجنسية نشأةً خاطئة أثَّرت في مستقبله ذلك التأثير الشديد، وكانت السبب الأكبر في انحرافه الجنسي الذي ابتُلي به، حتى قيل عنه إنه طلب إلى زوجته الأولى عقب زواجه منها أن تضربه بالسوط، فلمَّا لم تُجِبه إلى طلبه اقترح عليها أن يقوم الخادم بضربه بدلًا منها. وكان يقوم بنفسه بإعداد السوط الذي يريد أن يُضرَب به، فكان لا يكفيه في ذلك متانة خيوطه وقوة نسيجه، بل كان يضع في آخره كثيرًا من المسامير.
يرى «ألفرد أدلر» أن عقدة النقص هي أصل الشذوذ الجنسي على تعدُّد أنواعه؛ وذلك لأن من تُصيبه عقدة النقص في حياته النفسية يلجأ على الدوام إلى البحث عن خير الطُّرق لتغطية نقصه؛ ذلك أن «عقدة النقص» في ذاتها تعتري معظم الناس بسبب عدم إمكان بلوغ مراتب الكمال من جميع النواحي في هذه الحياة الدنيا. ولما كان كل إنسان لا يخلو من صفةٍ تنقصه، فإنه يشعر بنوع من الضعف قد تتولَّد عنه «عقدة النقص». وليس في ذلك على الإنسان من بأس إذا استطاع أن يتخلَّص من هذه العقدة بطريق التسامي والتعويض؛ فقد كان نابليون قصير القامة ضعيف الجسم رقيق الحال في وسطٍ كانت مظاهر الأرستقراطية قد بلغت فيه ذروتها، فلم يمنعه ذلك أن يعمل على تعويض نقصه بالعكوف على الدرس والطموح إلى المجد، وقد نال عن هذا الطريق كل ما كانت تصبو إليه نفسه، وكان إذا ذُكِر اسمه بعد ذلك لم تنصرف أذهان الناس إلى قِصر قامته وضعف بِنيته وفقر أسرته، وإنما انصرفت إلى علوِّ همته، وإلى نبوغه في الفنون الحربية وغيرها. فعقدة النقص لا ضَيْر منها، وإنما الذي يضير هو الاستسلام لها، والقعود بها في مواطن الذلة والهوان التي تُوحي بها إلى النفس.
ويروي «أدلر» للتدليل على صحة هذا الرأي حالةَ رجل اتُّهم بالسادية وبتعذيب الأطفال، ولما بُحِثت حالته تبيَّن أنه كانت له أمٌّ ذات بطش وسطوة، وأنها في طفولته لم تكن تفتأ تُعنِّفه وتقرعه على ما كان يجترح من حماقات الطفولة، وعلى ما لم يكن يجترح أيضًا. وعلى الرغم من أنه كان في مدرسته تلميذًا طيِّبًا ذكيًّا، فإن أمه لم تكن تُعِير نجاحه هذا أي التفات؛ إذ لم يكن يعنيها إلا تعقُّب سقطاته وإذلاله من أجلها بالكلام القارص والتقريع المهين، فاضطر الصبي أن يُخرِج أمه من نطاق عواطفه العائلية، ونفَر منها، ولم يكن يشعر بأي ميل نحوها. وكثيرون من أعداء المرأة يمكن فهم عداوتهم على ضوء هذه المعلومات، فإن من يُنكَب بمثل هذه الأم تشبُّ معه عقيدة أن النساء قاسياتٌ جاهلات، ويرمي الجنس كله بداء بعض أفراده، ويستقر في نفسه أن الاتصال بالنساء لا يمكن أن يكون مصدر سرور، وأنه يجب ألا يتعدَّى الضرورات القصوى. وكان هذا الرجل من النوع الذي يهتاج جنسيًّا إذا خاف، فكان يبحث عن الظروف التي تُبعد عنه الخوف. ومن المألوف في مثل هذه الحالة أن يلجأ الإنسان إلى النقيض. ونحن نرى الطفل الذي يخاف من الظلام مثلًا يرفع عقيرته بالغناء أو نحوه ليُطارد أشباح تلك الظلمة التي تُرهِق خياله، كأنما يريد بصياحه أن يقول: «أنا هنا! وهذا صوتي الجهوري يدل على قوَّتي، وإنه لن يستطيع أحدٌ أن ينال مني!» فكذلك يحدث مع من تملَّكته هموم الخوف الأخرى أيًّا كان مصادرها، فهو يُحاربها باصطناع العنف، وتقترن عاطفته الجنسية بالرغبة في التعذيب والإيلام، وينقلب إلى تلك الحالة السادية. ويدلُّ هذا المثال الذي ضربه «أدلر» على مبلغ ما يؤدِّي إليه التدريب الخاطئ من نكباتٍ عائلية وخُلقية.
والواقع أن التربية الجنسية تكاد تكون معدومة عندنا وعند كثير من الأمم غيرنا، مع أن هذه التربية تجيء في المرتبة الأولى من حيث أهميتها لتكوين النشء، ومن حيث تأثيرها في مستقبل حياتهم.
فالعادة السرِّية مثلًا التي أفاض الكثيرون في بحثها في المجلات المختلفة، قد يكون الوالدان هما سببها الأول والأخير بسوء تصرُّفهما مع طفلهما الذي قد يعبث بحسن نية في بعض أجزاء جسمه من باب العبث المجرد أو حب الاستطلاع العادي، فيأخذهما الذُّعر لهذه الحركة، ويُخاطبان الطفل في شأنها بعقلَيهما البالغين، وينهرانه عن العودة إلى ما كان فيه، ويُشدِّدان عليه في ذلك، ويعملان على مراقبته، فيُوجِّهانه بذلك إلى ما كان عنه غافلًا وبه جاهلًا، ويدفعانه دفعًا إلى مُمارسة عمل كانت كل رغبتهما في أن يحُولا بينه وبين إتيانه. وقد وصل الأمر في حالة من الحالات إلى حدِّ أن قام الوالدان بربط يدَي الطفل ورجلَيه كلما أوى إلى فراشه، فكان ذلك سببًا في تركيز اهتمام الطفل بأشد صورة ممكنة إلى الاتجاه الذي كان الوالدان يرغبان في صرفه عنه. ومن المتفَّق عليه بين جميع الباحثين في هذه الشئون أن علاج مثل هذه الحالة إنما يكون في تحويل اهتمام الطفل إلى نواحٍ أخرى بتهيئة وسائل التسلية التي تشغله عن جسمه، وبتوفير ميادين النشاط واللعب التي تصرفه عن التفكير في لهوٍ رخيص كالذي تلهو به اليد الفارغة.
ومن المُجمَع عليه أيضًا أن المشكلات الجنسية التي تُعانيها نسبةٌ مئوية كبيرة من الرجال إنما ترجع إلى أسبابٍ نشأت في عهد الطفولة. وليس الأمر في كل الحالات راجعًا إلى سوء تصرُّف الوالدَين أو سوء توجيههما؛ فقد أورد الأستاذ القوصي في كتابه «أسس الصحة النفسية» حالة رجل كان يشكو مشكلةً جنسية معقَّدة لم يستطع معها أن يجتمع بزوجته اجتماعًا طبيعيًّا؛ ممَّا أدَّى إلى انفصاله منها، وقد حاوَل الزواج أكثر من مرة، ولكنه كان في كل مرة ينتهي إلى النتيجة نفسها. وبدراسة حالته تبيَّن أنه رجل في العقد الرابع من عمره، وأنه ينتمي إلى أسرةٍ مُحافِظة مُتدينة، لم يكن يجري حديث أفرادها إلا في أطهر الموضوعات، ولم تكن تشير هذه الأحاديث أدنى إشارة إلى شيء من الجنسيات ومسائلها أو مشكلاتها، بل كانت تستنكر هذه الموضوعات استنكارًا شديدًا؛ فنشأ الولد في هذا الجو لا على احترام أمه فحسب، بل على تقديسها أيضًا؛ ممَّا جعله يرى في زوجته صورة تلك الأم؛ فكان يخفق عند محاولته الاجتماع بها إخفاقًا تامًّا. ولم يكن مردُّ ذلك إلى علة في جسمه؛ فقد ثبت أنه كان يُحسِن الاجتماع بالمُومِسات ومن في طبقتهنَّ. ومن الواضح أن ذلك كان لبُعْد الشبه بينهنَّ وبين أمه. ولقد تبيَّن من استقصاء هذه الحالة أن هناك عاملًا آخر كان له أثره في دعم صلة هذا الرجل بالمُومِسات خاصة؛ وذلك أنه في دور مُراهقته كان قد وقع في أزمةٍ عصبية بسبب حالة العفة المُطلَقة التي نشَّأه عليها أبواه، فأشار عليه صاحب سوء أن يلتمس الترفيه عند المُومِسات. وهي أروج النصائح انتشارًا بين الشبان الذين يتخلَّى عنهم أهلوهم، ويتركونهم للخدم وأصحاب السوء ليُفقِّهوهم في هذه المسائل. فكان من ذلك أن أثر الصورة الأولى التي ارتبطت في ذهنه بتلك العملية كانت صورة المُومِسات. وقد زاد في حالة هذا التعِس تعقيدًا أن خطيبته الأولى لم تكن تميل إليه، وكان هو يُحس ذلك ويشعر به شعورًا واضحًا؛ فانعقدت من أجله ومن أجل سائر الأسباب السالفة تلك العقدة الخبيثة التي أفسدت عليه حياته المشروعة.
وإذا كانت الغريزة الجنسية حين تنحرف ساديةً مُجرمة تقترن بارتكاب الجرائم الشائنة التي تمقتها قوانين الأرض والسماء، فإننا نودُّ أن نشير إلى ما بين الجريمة والغريزة والجنسية على إطلاقها من روابط، سواء كانت هذه الغريزة مُلتوية أو غير مُلتوية؛ فقد شُوهِد أن الجريمة كثيرًا ما تقترن بتهييجٍ جنسي، ويقول النفسيون في تفسير ذلك إن المُجرم يجد نفسه بعد ارتكاب جريمته مُجهَدًا مكدودًا مُتعَب الأعصاب، توَّاقًا إلى الترفيه عن نفسه، والتخفيف من حدَّة هذا التوتر الذي اعترى أعصابه، ثم هو فوق ذلك يريد أن يُقنِع نفسه بما له من قوة وسيطرة، وأن يُثبِت أنه لا يزال مخلوقًا قويًّا، لا نفسًا محطَّمةً ضائعة، ومن بواعث الارتياح أن رجال الشرطة يعرفون على الأقل هذه الحقيقة؛ فإنك لتراهم يتَّجهون أول ما يتَّجهون في البحث عن المُجرِمين إلى دور الساقطات، وفي تلك المراتع الوخيمة كثيرًا ما تظفر هداهدنا البشرية بديدانها الزرية التي تنشُدها وتتشمَّم ريحها وتنقب عنها.