العلم يكشف ضمائر المُجرمين
النفوذ إلى ضمير المُجرم، وحمله على الاعتراف بفعلته، كانا ولا يزالان غرض المُحاكَمات الجنائية في العصور القديمة والعصور الحديثة على السواء. وقد كان المُجرم يتعرَّض في العصور القديمة لألوان من التعذيب يقشعرُّ لها الجسم لِما تنطوي عليه من قساوة ووحشية، ولا يزال بعض هذه الوسائل شائعًا في بعض البلدان بعد تعديله تعديلًا يسيرًا، بل إن المجتمع الإنساني نفسه لا يكاد يُصدِّق أن هناك وسائل أخرى لاستلال سر المُجرم من بين فكَّيه، أشدَّ رأفة به وأفعل أثرًا من وسائل التعذيب المشهورة.
ولكن العلم اختطَّ طريقًا في ميدانٍ ظنَّه الناس مُمتنعًا على العلم، فاستنبط العلماء أساليب جديدةً أرأف بالمُجرمين، وأهدى إلى الغرض المقصود في أقصر وقت طويل عليها، قبل أن يصبح سلاحًا مشروعًا من أسلحة رجال النيابة والمحاكم.
كذب المتَّهَم من ضغط دمه
ولعل أشهر هذه الأساليب العلمية الجديدة وأفعلها آلةٌ تُعرَف بِاسم «بوليغراف كيلر»، وهي آلةٌ غرضها الكشف عن كذب المُجرم وامترائه عند التحقيق، والمبدأ الذي بُنيت عليه هذه الآلة هو قياس ضغط الدم؛ فهي لا تختلف في أركانها عن الجهاز الذي يستعمله الطبيب لقياس ضغط الدم عند مريض يخشى تصلُّب الشرايين، ولكن بدلًا من الإبرة المُتحركة في الجهاز الخاص لضغط الدم، هناك ريشةٌ ترسم خطًّا على ورقةٍ مُنسابة من لفَّة ورق مُتحركة، فيجلس المتَّهَم وهذه الآلة ملفوفة على ذراعه، فيُوجِّه إليه الباحث الأسئلة في صوتٍ طبيعي لا تجهُّم في وجهه ولا تهديد في نبراته، فيُجيب عنها المتَّهَم بما يراه، وكلما أجاب كذبًا ارتفع ضغط دمه، وظهر أثر هذا الارتفاع في الخط الذي ترسمه الريشة على الورقة المُنسابة.
ولكنك قد تسأل: «لماذا يرتفع ضغط الدم حين يقول كذبًا؟» أو «لماذا يؤخذ ارتفاع ضغط الدم دليلًا على أن المتَّهَم يمتري في جوابه؟» إن سر الجواب عن هذا السؤال في التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ على الجسم عندما يكون مُتأثرًا أو مُنفعلًا انفعالًا عنيفًا؛ فالإنسان إذا واجَه خطرًا ما، استعدَّ جسمه من الوجهة الفسيولوجية لدفع الخطر، فتُطلَق الكُريات الحُمْر من الطِّحال إلى مجرى الدم، حيث تتصل بالمُفرزات التي تُفرزها الغُدد الكلوية وغيرها من الغُدد، وغرضها جميعًا أن تبعث في الجسم النشاط للكفاح أو للفرار. فكأن أعضاء الجسم تبعث في الجسم نشاطًا غريبًا عندما يُواجه خطرًا يُهدده، فينشأ من هذا كله زيادة خفقان القلب، وارتفاع ضغط الدم في الشرايين.
فإذا واجه الإنسان خطرًا مُتمثلًا في سؤالٍ موجَّه إليه عن جريمة من الجرائم، كان الأثر الأول الذي يُحسُّ به الخوف من الكشف عن صلته بملك الجريمة؛ لأن هذا الكشف يُفضِي إلى مُعاقبته بالغرامة أو بالسجن أو بالتشهير أو بالإعدام، فتُسعِفه جميع أجهزة جسمه للدفاع عن نفسه. وهذا الدفاع يتخذ في هذه الحالة شكل محاولة التستُّر على فعلته، أو الكذب في الرد على السؤال الموجَّه إليه.
ولكن مهما يبرع المُجرم في كَبْت انفعاله، حتى لتبدو آثاره في نظره وكلامه وحركاته؛ فإنه لا يستطيع أن يمنع استعداد قُوى جسمه الداخلية لهذا الدفاع. وهذه الآلة الجديدة تستطيع أن تُبيِّن أثر كل هذا في ضغط دمه، فترى الريشة ترسم خطًّا مُتعرجًا شديد التعرُّج، عند ذلك يُبادر المُحقق إليه، فيطلب منه أن يُفسر هذا التقلب الغريب في ضغط دمه. وفي ٧٥ في المائة من الحوادث ينصرف المتَّهَم عن محاولة الإنكار إلى الاعتراف، حين يرى هذا الدليل المادي الذي يُثبِت أنه يُخفي شيئًا. فإذا أصرَّ على الإنكار وُجِّهت إليه أسئلةٌ أخرى مُتفرقة ومنوَّعة، ومن أثرها في ضغط دمه يستطيع الباحث أن يهتدي إلى بياناتٍ تقُوده إلى الحقيقة. فالآلة تُبيِّن صِدق المتَّهَم وكذبه. وقد جُرِّبت حتى الآن في ١٥٠٠ حادثة، فأصابت فيها جميعًا.
الجسم يُفشي سر العقل
وثمةَ طريقةٌ أخرى استنبطها الأب سمرز، أحد أساتذة جامعة فوردهام الأمريكية، تُدْعى «سيكوغلفانومتر»؛ أي المقياس الكهربائي النفسي. وهي مبنية على أساسٍ كهربائي، فيُمسِك المتَّهَم بقطعةٍ معدنية بيده، ثم يسري تيارٌ كهربائي ضعيف في جسمه مستمَدٌّ من بطاريةٍ واحدة، وإذ يكون في هذه الحالة تُوجَّه إليه الأسئلة المطلوبة، بعضها لا صلة له بالموضوع المطلوب البحث فيه، وبعضها له صلة وثيقة به. فإذا سئل سؤالًا له صلة بالموضوع، وكان على علم بذلك؛ يحدُث شيءٌ غريب في جسمه. فإذا كان على صلةٍ إجرامية بالموضوع حُفزت غُدَد العَرق فيه إلى إفراز العرق مُتأثرة باستعداد قُواه الداخلية لدفع الخطر عن جسمه. وهذا العَرق الذي يُفرَز قليل، ولكنه كافٍ لتغشية القطعة المعدنية القابض عليها، فيكفي، فتقلُّ مُقاومته للتيار الكهربائي الساري في جسمه. وهذه القلة تظهر في الحال على جهازٍ خاص بذلك. ومن المستحيل أن تحتال على هذه الآلة؛ لأنه إذا رفض المتَّهَم أن يُجيب عن السؤال الموجَّه إليه يعجز عن السيطرة على غُدَد العرق فيه، فلا يستطيع أن يمنعها عن إفراز عرقها، فكأن إفرازها صوتٌ صارخ في وجهه، وشاهد على فعلته.
وقد ذهب أحد الكتاب العلميين إلى الأب سمرز، وطلب إليه أن يُجرِّب آلته هذه فيه، فجرَّبها بأن أتى بمجموعة من ورق اللعب، وطلب إليه أن يختار إحدى ورقاتها، وأن يُعيد الورقة إلى المجموعة، ثم اختيرت تسع ورقات أخرى، وضُمَّت إلى هذه الورقة، وعُرِضت على الكاتب، وسئل في كل ورقة منها هل هي الورقة التي اختارها، فأجاب «لا» على الورقات العشر. وأُعيدت هذه التجربة ثلاث مرات وهو يجيب «لا» إجابةً مطردة، فما كان من الآلة إلا أن دلَّت على الورقة التي كذب في الإجابة عنها بزيادة سريان التيار الكهربائي في جسمه. وأخيرًا اعترف الكاتب بأن الورقة كَيْت هي الورقة التي اختارها، وأنه أجاب كذبًا لما عُرِضت عليه مع سائر الورقات.
فقال له الأب سمرز: «إذا كان هذا مبلغ فعل الآلة في حالة الكذب عن ورقةٍ لا شأن لها، فكيف بها والمتَّهَم يُحاول أن يُخفي جريمة أو فعلةً شنعاء؟!»
حقنة الحقيقة ومصلها
لقد ذكَرنا حتى الآن الأساليب العلمية التي تُمكِّن البحَّاث من تبيُّن الشعور بالإثم أو بالإجرام، ولكن بعض علماء الإجرام يُسلِّمون بأن أكثر هذه الوسائل لا يكفي لانتزاع الاعتراف بالجريمة من فم المُجرم، وجلُّ ما تُمكِّنهم منه هو تهيئة الظروف لهذا الاعتراف، وهذا قد ينجح في بعض المُجرمين، ولكنه في الغالب يُخفِق في حالة المُجرمين الذين تعوَّدوا الآلة؛ ولذلك استنبط العلم لهذا الطراز من الجُناة مركَّب «السكوبولامين»، المعروف بمصل الحقيقة، وهو دواء يفعل فعلًا خفيًّا في الدماغ، فيعترف المُجرم بالحقيقة.
والسكوبولامين هذا عقارٌ مُستخرَج من السيكران أو الحشيشة الفارسية، اكتشفه الدكتور هوس، أحد أطباء ولاية تكساس، في عمليةٍ جراحيةٍ نسائية، فتبيَّن له أنه يُخدِّر، أو يفعل فعلًا مُخدِّرًا في بعض مناطق الدماغ، ولكنه لا يُضعِف ذاكرة من يتناوله ولا سمعه ولا مقدرته على النطق. وبعد موالاة البحث تبيَّن أن منطقة الدماغ التي تتأثَّر به هي المنطقة التي تُمكِّننا من اختلاق الأقوال في سبيل الدفاع عن النفس. وكذلك كشف أن الإنسان الذي يُحقَن بالسكوبولامين يظل مُحتفظًا بجميع حواسه، ولكنه يفقد المقدرة على الاختلاق والكذب.
وقد جرَّبه العالم الإجرامي الأمريكي المشهور «الكولونيل كالفن غودرد»، فتبيَّن فِعله العجيب؛ ذلك أن الكولونيل غودرد طلب إلى أحد زملائه أن يردَّ على عشرين سؤالًا بسيطًا وجَّهها إليه، مثلًا: «هل تلعب البردج؟» «هل تتكلم الفرنسوية؟» ثم حقن هذا الزميل حقنة تحت الجلد بجرعة من السكوبولامين، فلمَّا فعل العقار فِعله في الجسم وُجِّهت الأسئلة نفسها إلى الرجل، فتبيَّن أنه كان صادقًا في ١٩ سؤالًا منها، وأما السؤال العشرون فكان: «هل قُبض عليك لمُخالفةٍ ارتكبتها بسيارتك؟» فكان جواب اليقظة التامة عليه: «لا.» وأما الجواب والرجل تحت فعل العقار المذكور فكان: «نعم، لما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية في فرجينيا.» ولما استيقظ وسئل عن هذا التناقض، صرَّح أنه كان قد نسي كل النسيان تلك الحادثة إلى أن نبشها السكوبولامين من خبايا الذاكرة. وقد استعمل وكيل نيابة برمنجهام بولاية ألاباما هذه الحقنة للتوصل إلى سر سلسلة من جناياتٍ بلغ عددها خمسًا وعشرين، فضبط عصابةً مؤلَّفة من اثنَي عشر رجلًا، واستخدم هذا العقار في الاهتداء إلى حقيقتهم. ولما كانت المحكمة لا تُسلِّم بدليل من هذا القبيل، اعتمد على الحقائق التي انتزعها منهم وهم تحت العقار في الفوز باعترافٍ صريح.
بصمات الشفاه تكشف عن القاتل
هناك قضيةٌ أجنبية شغلت دوائر التحقيق في مصر في وقتٍ ما خلال الحرب، ولكن أحدًا لم يعلم بأمرها؛ نظرًا للكتمان الشديد الذي أحاط بها، شأنها شأن جميع القضايا الأجنبية التي وقعت أثناء الحرب، وهاك وقائعها:
ثم ذكَر أنه ترك المنزل في الليلة السابقة حوالَي الثامنة مساءً، وكان به سيدته وبعض أصدقائها، ومنهم الطيار أول «جوني» من سلاح الطيران البريطاني، وأنه لما عاد في الصباح وجد كثيرًا من زجاجات الخمر والأكواب الفارغة وبقايا من فضلات الطعام.
وانتقل على الأثر رجال التحقيق، مأمور القسم وضابط المباحث ووكيل النيابة والطبيب الشرعي وموظف تحقيق الشخصية، إلى مسكن الكولونيل سمارت، وقد وجدوا الشقة كما وصفها العسكري الهندي. أما القتيل فقد وُجدت مخنوقة بخيطٍ رفيع، ومُلقاةً بهيئة تدلُّ على عنف المُقاومة التي أبدتها دفاعًا عن عِرضها.
وفي منتصف الساعة الواحدة بعد الظهر، وفي أثناء انهماك المحقِّقين في عملهم، حضر الطيَّار أول «جوني»، فسأله رجال التحقيق عن سبب حضوره في هذه الساعة، فذكَر أن السيدة مارجو دعته في الليلة السابقة لتناوُل الغداء معها. وعند استجوابه قرَّر أنه كان مع القتيل حتى منتصف الثانية عشرة من الليلة السابقة، كما قرَّر أنها توجَّهت معه إلى محطة المترو، وأنها أعطته كتاب توصية لقائده للسماح له بإجازةٍ صغيرة؛ ليتمكن من تناوُل الغداء معها.
وفي خلال ذلك حضر الطبيب الشرعي، وقرَّر أن القتل حدث حوالَي منتصف الليلة السابقة، فاشتبه المُحقِّق في الطيَّار جوني، واستصدر أمرًا من البوليس الحربي بالقبض عليه رهن التحقيق.
ويشاء الاتفاق أن يهتدي موظف تحقيق الشخصية إلى فكرةٍ لا شك أنها عجيبة حقًّا؛ فقد أخذ في التقاط بصمات «شفاه» القتيلة، وكذلك بصمات الشفاه التي وُجدت مطبوعة على خدَّيها، كما التقط بصمات شفاه الطيَّار جوني والعسكري الهندي.
وفي ساعةٍ مُتأخرة من الليل، اهتدى الموظف إلى أن بصمات شفاه العسكري الهندي تطبق على البصمات المطبوعة على خدود القتيلة!
فأُلقي القبض على الهندي، وُوجِه بالجريمة فاعترف بها، وقال إنه لم يكن يقصد قتلها، وإنه حين اقتحم عليها مخدعها قاومته مقاومةً عنيفة، وعندئذٍ انتزع قطعة من الخيط الذي يربط به محفظته، وشدَّه حول عنقها فاختنقت وماتت. وهذه طريقةٌ هنديةٌ معروفة، ثم ترك المنزل إلى القشلاق، وفي الصباح قدَّم بلاغه إلى البوليس.
وأُبلِغ الكولونيل سمارت زوج القتيل بالحادث، وذُكِر له اعتراف العسكري الهندي فذُهِل، ولكنه لم يلبث أن كتب إلى البوليس الحربي تقريرًا مطوَّلًا جاء فيه أن مُراسلنا الهندي في غاية الاستقامة والأمانة، وأن الدافع الوحيد الذي دفعه إلى ارتكاب هذه الفعلة هو سيرة زوجته المعوجَّة؛ فإن الهندي حين وجدها في حالة سُكْر شديد لم يستطع مُقاومة هذا الإغراء الصادر عنها، ولم يكن يقصد قتلها، ثم اقترح العفو عن العسكري قائلًا: «أوَليس بشرًا؟!»