عقدة أوديب والطفل بين أمه وأبيه
إن حب الطفل لأمه صغيرًا لا يدفعه إلى القتل كبيرًا إلا إذا اقترن بحقدٍ نحو الأب، وحين وُلِد الطفل وُلِدت معه عقدةٌ نفسية استعصى عليه حلها على الأيام، فأصبح يُعاني في قرارة نفسه ما يُسمِّيه رجال التحليل النفسي ﺑ «عقدة أوديب المرَضية»، وإليها يرجع كثير من متاعبه النفسية شابًّا وكهلًا، وقد تدفعه أحيانًا إلى القتل. والقتل في هذه الحالة لا يقع عادةً على شخص الأب بالذات، بل على شخصٍ آخر يتخذه العقل الباطن بديلًا للأب أو رمزًا له، يكون في الغالب مُشتركًا مع الأب في بعض الصفات أو المظاهر، أو في المنزلة أو المقام، كما هي الحال في القتل السياسي؛ وما ذلك إلا لكَوْن نزعات الطفولة الجامحة التي يُكنُّها المرء في سُوَيداء قلبه، لا تجرؤ على الخروج من وَكْرها إلى ميدان الحياة الشعورية سافرة؛ خوفًا من غضب الضمير ونقمته؛ إذ إن الضمير هو مُمثِّل المجتمع، ووريث آدابه وتعاليمه وتقاليده، فتبدو النزعة إلى قتل الأب مُقنِعة في زيٍّ مُستعار، كأن تلبس ثوب البطولة السياسية والتضحية لمصلحة الجماعة. وهي البواعث التي يتذرَّع بها عادةً المُجرم السياسي لتبرير موقفه من جريمته أمام ضميره وأمام الناس. فالمريض ﺑ «عقدة أوديب» يختار هذا الميدان، أي ميدان الجريمة السياسية، ليُنفِّس عن نزعةٍ طفليةٍ مكبوتة نحو قتل الأب بطريقةٍ تكفل له راحة الضمير. وهذا ما يُفسِّر سر هدوء نفسية هذا الفريق من المُجرمين بعد ارتكاب جرائمهم، وتبرير الموقف على مثل هذه الصورة التي تقوم على خداع الضمير ومُغالطته، وتُسمَّى في عُرْف رجال التحليل النفسي ﺑ «التبرير»، وهي من المظاهر المألوفة لدى المُصابين بالظواهر المرَضية، ولها نظير في حياتنا اليومية؛ إذ لا يعدم الإنسان حُجة أو مُسوغًا لعملٍ غير مشروع تشتهيه نفسه وتتُوق إليه. والتبرير في معظم الحالات يكون عمليةً لا شعورية يقوم بها العقل الباطن، وهي ترمي إلى تخدير الضمير والحيلولة دون يقظته، أو تسكين الألم حين يقظته.
فكم من مُجرمٍ هذا شأنه، لو تنبَّه القائمون على أمره صغيرًا إلى ما يُعانيه في أعماق نفسه من أمارات الكبت المرَضي لمشكلات الطفولة، أمكن إنقاذه في الوقت المُلائم من السقوط في هذه الجريمة، بتحليلٍ نفسي يحلُّ عقاله من براثن عُقَده النفسية الخبيثة قبل أن يستفحل أمرها، ويستعصي داؤها، ويفلت من قبضة يده زمامها.
ومن الأمثلة على العقدة حادثُ قتل كان مطروحًا على محكمة جنايات بني سويف، دور مايو سنة ١٩٣٤.
مايو سنة ١٩٣٤
فرغت بالأمس من قضية «محمد …» وصدر فيها الحكم بالأشغال الشاقَّة لمدة خمسة عشر عامًا، ولو كان في مصر نظام المُحلفين لقضى ببراءته، ولكان لقضيته دويٌّ في أنحاء البلاد.
وكَّلني عنه محمود أفندي التاجر بالقاهرة، وفهمت منه أن المتَّهَم شابٌّ من عائلةٍ ميسورة الحال بجهة المنصورة، وكان والده مِتلافًا مِزواجًا، وقد كان محمد وحيد والدته التي طُلِّقت من أبيه بعد حياة طويلة مُتواصلة العذاب، وتُوفِّيت بعد نيله شهادة الكفاءة، وكانت صلته بوالده تكاد تكون مقطوعة، فعُيِّن في وظيفةٍ بسيطة بوزارة «…». وعرفت من محمود أفندي أن الشاب هادئ الأعصاب خافت الصوت قليل الاختلاط بالناس، وأنه ضعيف البِنية، ويُستبعَد أن يكون قد ارتكب في حياته جريمة قتل ذبابة.
لقد كان محمود أفندي من ذوي قُربى والدة المتَّهَم عن بُعْد، ولكنه كان يعطف عليه عطفًا شديدًا، وقد دفع الأتعاب من جيبه الخاص، وقد أكبرت فيه هذه العاطفة.
لقد قرأت القضية في ملف الجناية، وتتلخَّص في أن قسم بوليس بندر بني سويف أُبلِغ بوجود جثة رجل تنزف منها الدماء بإحدى شوارع المدينة في الساعة الحادية عشرة، ولم تُسمَع استغاثة، ولا وُجدت آثار تدلُّ على الجاني، وقد وُجد بالجثة أكثر من جرح. ورأى مأمور البندر بعد استئذان وكيل النيابة تفتيش البيوت المُجاورة؛ على فكرة أن الجريمة ارتُكبت في إحداها، ثم نُقلت الجثة، وقد تعرَّف بعض أهل الحي عليها، وعُرِف أنها لشخصٍ يُدعى «سليمان …» من المُشتغلين بالسمسرة في الصفقات الزراعية والعقارية، وأنه ميسور الحال.
استُدعيت زوجة القتيل، فوُجدت بها آثار اعتداء شديد، ووُجد بطفل لها في الثالثة من عمره إصابات. وقد قرَّرت أن هذه الآثار نتيجة اعتداء زوجها عليها وعلى طفلها في الساعة العاشرة من مساء الحادث، وأنه ترك المنزل على الأثر.
فجأةً حضر مُعاوِن بوليس البندر ومعه سِكين تقطر دمًا، وشابٌّ هو المتَّهم محمد، وهو يسكن في المنزل المُواجه لسكن المجني عليه. ولما سئل عن التهمة أنكرها، وكانت السكين ممَّا يُستعمل في المنزل للطبخ، ولكنها كبيرة وحادَّة.
سار التحقيق، ووكيل النيابة حاوَل إيجاد علاقة بين المتَّهَم المُنكِر وبين زوجة المجني عليه البادي عليها آثار ضرب مُبرح.
شهد شهودٌ عديدون من الجيران والأقارب، فأجمعوا على أن المجني عليه كان سكِّيرًا مِتلافًا، وأنه كان دائم الاعتداء على زوجته، وذكرت سيدةٌ عجوز تسكن نفس المنزل أنه لا يمرُّ يوم لم تُضرَب الزوجة فيه! ولم يشهد شاهدٌ واحد عن قيام علاقة بين المتَّهَم وزوجة المجني عليه، غير تقرير من أحد كونستبلات البوليس، وكان مُنتدبًا للمباحث، ولعله أراد أن يُوجِد لنفسه شأنًا في القضية. بقيَ المتَّهَم مُنكِرًا دون أن يُعلِّل وجود السكين الملوَّثة بدماء القتيل بمنزله، ولم يُعلِّل ما وُجد بملابسه من دماء. وقد ظهر من التقرير الطبي أنها دماءٌ بشرية، وأن السكين هي التي أحدثت جميع الجروح التي وُجدت بالمجني عليه.
فماذا يُجدي الإنكار؟ ولكن ما هو الدافع للقتل؟ لعله الحب، ومن الحب ما يدفع إلى القتل، وإلى ما هو أشنع من القتل.
لقد زُرتُ المتَّهَم في سجنه في اليوم السابق للمُحاكَمة، وأقنعته أن لا مصلحة له في الإنكار، على الأقل بالنسبة إليَّ، وإلا كان مجهودي عبثًا، فاعترف لي بالقتل، ولكنه أقسم لي، وهو يؤكِّد أن القتيل مقتول قصاصًا ممَّا ارتكب، أنه لم تكن بينه وبين زوجة القتيل أية علاقة، بل لم يُحدِّثها في يوم من الأيام، ولكنه كان يسكن في مُواجهة مَسكن المجني عليه منذ أكثر من ستة أشهر قبل وقوع الحادث. وقد لفت نظرَه ما يحدث من شجارٍ دائم بين الزوجَين، وما يراه دائمًا من اعتداء الزوج على زوجته بالضرب والإيذاء الشديد، ولم يكن يرى ما يُبرِّر هذا الاعتداء؛ فالزوجة قائمة على شئون منزلها لا تكاد تُفارِقه، مُنهمِكة في أمور بيتها، وخاصةً خدمة الطفل الصغير الذي كان وحيد والدَيه، ولكن الزوج سكيرٌ عِربيد.
لم يكن يشغل المتَّهَمَ شاغلٌ بعد عمله اليومي في وظيفته، فكان يأوي معظم وقته إلى مَسكنه، ومنه يرى صور التعذيب المُتتالية المستمرة في منزل الجيران، حتى استعرت نار العداوة في قلبه للزوج، وأصبح أكره الناس عنده وأبغض خلق الله إليه، وظلت هذه الكراهية تتأجَّج من ناحية، والحب يتأجج من ناحيةٍ أخرى، حتى كان يوم الحادث صباحًا؛ إذ رأى الزوج يفتتح اليوم بمُشاجرةٍ صاخبة انتهى منها إلى ضرب زوجته ضربًا كان يقع كالسهام في قلب المتَّهَم الذي كان يُحسُّ دائمًا بأن هذه المظلومة، شبيهة أمه، في حاجة إلى من يردُّ عنها هذا العدوان، وكان يريد أن يكون هو الذي يردُّه، ولكنه كان يشعر بضعف جسمه. وممَّا زاد في تأثُّره أن هذه الزوجة الفاضلة غسلت دموعها بعد أن ترك زوجها المنزل، وقامت تعتني بابنها، وتنظِّف البيت، وتطبخ الطعام الذي يأكله الزوج.
اعتذر المتَّهَم عن عدم الذهاب إلى عمله في هذا الصباح، وظل طوال نهاره مهمومًا كئيبًا حتى أقبل المساء، فإذا بالزوج يعود إلى منزله مخمورًا، فيجد الطعام مهيَّئًا، وما إن يرى الزوجة حتى ينهال عنها بأواني الطعام، ويضربها ضربًا مُبرحًا. وفي هذه الأثناء يدرج الطفل ما بين والدَيه، فيحمله الزوج ويرمي به زوجته، فيصرخ الطفل صرخةً أطارت عقل هذا الشاب (ملحوظة: ولعله رأى في الطفل نفسه عندما كان أبوه يضرب أمه ويسومها سوء العذاب)، فانحدر إلى المطبخ وحمل السكين، ثم هبط إلى الطريق، فرأى الرجل يُغادر مسكنه، فلحقه في وسط الحارة، فانهال عليه بالسكين طعنًا، ثم عاد إلى منزله حيث انتظر مجيء البوليس والقبض عليه.
بيَّنتُ هذه الظروف للمحكمة في مُرافَعتي. ولقد كنت مؤمنًا ببراءة موكِّلي، وكنت مُختنقًا بالعبرات، ولكن بالرغم من أنني أدليت بمُرافعةٍ مؤثِّرة، فإن أوتار قلوب المُستشارين المكنونة في صدورهم كانت أبعد الأشياء عن التأثر بدفاعي؛ إذ كانت المحكمة مؤمنة بأن هذا الشاب تربطه بزوجة القتيل علاقات غرام، وأن ثورة الزوج كانت لهذا السبب؛ ومن ثَم قضت عليه بالأشغال الشاقة خمسة عشر عامًا، فرجعت كسير القلب محزونًا. انتهت مذكرة الأستاذ التوني.
لقد كان الأستاذ التوني صادق النظر في تصوير نفسية المتَّهَم تصويرًا دقيقًا سليمًا، وموفَّقًا فيما وصل إليه من معرفة الدافع الحقيقي الذي دفعه إلى القتل وهو «عقدة أوديب»؛ أعني حقد المتَّهَم القديم الذي يُكنُّه نحو والده في أعماق اللاشعور منذ عهد الطفولة.
وواضحٌ من وقائع الحادث المُتقدم أن الذي دعا إلى إثارة نفس المتَّهَم على المجني عليه هو تكرار حوادث التعذيب، وما بين الموقفَين (موقفه القديم من والدَيه، والموقف الجديد للأسرة التي تُجاوره) من تشابُه، فكان التماثل هو العامل الخفي الذي حرَّك أشجانه القديمة، وقوَّى لديه ظاهرة التقمُّص أو الاندماج في شخصية الطفل الصغير لجارَيه، وإلباس هذَين الجارين ثوب والدَيه القديمين، فطغى لاشعور المتَّهَم عليه طغيانًا لم يجد سبيلًا إلى دفعه أو ردِّه.
ومن يدري؟ ربما كان هناك أيضًا تشابُه في الخلقة بين زوجة المجني عليه ووالدة المتَّهَم، أو بين المجني عليه ووالده، وهو ما من شأنه أن يجعل ظاهرة اندماج الماضي في الحاضر التي تجري في جوف اللاشعور أشدَّ قوة وأدقَّ إحكامًا، فيجعل طغيان اللاشعور على الشعور أعظم بطشًا وأقوى سلطانًا.
وهناك قضيةٌ أخرى لعب فيها المركَّب الوالدي دورًا مُماثلًا، وقد رواها الأستاذ هوجو استوب المُحامي ببرلين، في المؤلَّف القيِّم المعروف باسم «المُجرم وقضاته»، والذي وضعه بالاشتراك مع الدكتور فرانز ألكسندر، وكلاهما من كبار المُحلِّلين النفسيين في العالم، ومن المُطابَقات التي تلفت النظرَ أن الأستاذ هوجو استوب كان مُحامي المتَّهَم أمام محكمة الجنايات، وكان موقفه مُماثلًا لموقف الأستاذ محمد شوكت التوني في قضيته السابقة، غير أننا لا نرى الاسترسال في تطبيق نظرية عقدة أوديب.
قاضية محكمة الأحداث
قالت «إلينورليك» في مجلة «كوزمويوليتان»: «امرأةٌ ضئيلة الجسم، ولكنها تحمل عبء دعوة ينوء بها الرجال؛ تلك هي القاضية كاميل كيلي بمدينة منفيس في ولاية تنيسي. فقد جعلت همَّها أن تُقنِع كل جافي الطباع من الآباء وغيرهم أن ليس ثمةَ شيء يُسمَّى «الطفل الفاسد»، وأن كل ما يحتاج إليه علاج الطفل العاصي العنيد هو قدرٌ صالح من الحب والحنان والفهم. وقد بلغت ما أرادت.»
وقد أمضت على منصة القضاء عشرين عامًا حافلةً بالعجب، وكفلت بحنانها ٤٥٠٠٠ طفل، وبلغت من التوفيق مبلغًا جعل اختيارها لمنصبها يتكرَّر ست مرات بغير مُعارضة من أحد.
وهي في مَلبسها أشبه بأميرةٍ صغيرة نحيلة تختال في أجمل ثيابها، فإذا تكلَّمت، والكلام عادتها التي لا تنقطع، لم تُلقِ بالًا إلى كثرة سامعيها أو إلى اختلاف طبائعهم وعقولهم؛ ففي نفسها عقيدة لا تزال تدفعها وتُحركها؛ إذ أُشرِب قلبها حب البشر جميعًا؛ أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم. فتراها تظل ست عشرة ساعة لا تملُّ وهي تشرح رأيها الذي تعتقده للناس من الزعماء إلى الخادمات إلى العمال إلى نواب الأمة، وترى عددًا جمًّا من الناس يحوطها بمحبته، فمن رجال ونساء وأطفال يحتشدون كل يوم على مَقربة من دار المحكمة، ومن كبار المشهورين إلى صغار المغمورين قد وقفوا ينتظرون لكي يُلقوا إليها بالتحية.
وقد قالت امرأة مدَّت إليها القاضية يد المعونة: «إن الذين يتولَّون بذل الخير للناس يتصنَّعون أحيانًا ابتسامةً تُوطِّد الثقة بينهم وبين أولئك الناس، أما القاضية كاميل فهي إذا ابتسمت لك شمختَ برأسك، وأحسست كأن الدنيا أصبحت طوع يدَيك.» وقال رجل من أصحاب الأعمال كان قد وقف بين يدَيها في المحكمة وهو يومئذٍ صغير: «إنها فيمن عرفتُ هي الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يجعلك تشعر بأن لكرامة المرء وعزته لذةً لا تُعادلها لذة.»
وغرفة محكمتها مكانٌ تبتهج العين برؤيته، ولكنه جليل يُشعِرك بالهيبة. فيه كراسيٌّ وثيرة، وفيه بدل منصة القضاء المألوفة منضدةٌ تتلألأ عليها باقة من الزهر. وتُعالج القاضية كاميل قضاياها غير مُتقيِّدة بتقاليد المحاكم، وتحرص على أن تجعل لغتها بسيطةً واضحة. فإذا جلست مجلسها قالت: «ليست هذه الغرفة إلا ساحة للتقاضي تُتاح فيها الفرصة لكل امرئ أن يتكلَّم، ولن أدع أحدًا يُغادرها وهو مهموم أو ضيِّق النفس، فتعالَوا نُعالج هذا الأمر معًا.»
وقد أراد أحد مشاهير المُحامين أن يستعجل النظر في إحدى القضايا، فانتهرته القاضية قائلةً: «لا أحب أن يتعجَّلني أحد. هذه محكمةٌ همُّها الأخلاق قبل كل شيء، وسأستنفد من الوقت ما يُتيح لي أن أُقوِّم الأخلاق.»
وأهل بلدتها جميعًا يُظاهرونها أقوى مُظاهرة، حتى لقد استطاعت أن تجمع حولها طائفة من أقدر رجال المحاكم؛ فمن أجل ذلك كان سبيلها في الإصلاح والتقويم أجدى من سُبُل القضاة الآخرين.
وهي تقول: «إنك لا تستطيع أن تُخرِج سوء الخُلق من طبيعة الطفل بالعنف ولا بالتقريع؛ فالطفل سريع التحول والانصراف، فلا تكاد تمضي في مُحاولة تهذيبه قليلًا حتى تراه قد صار أصمَّ لا يسمع لما تقول، فإذا وجدت في خُلُق الطفل ما يسوء فعليك أن تفحص عن العلة الكامنة، وتُحاول علاجها.» وهي ترى أن العقاب الذي يؤلِم البدن شيء لا جدوى فيه، وهي ترى أن الطفل إذا كان ثائرًا حديد الطبع (وهما وقود الحياة)، فهو خليق بأن يُرجى منه خيرٌ كثير، وتقول: «وإذا بذلت معونتك لطفلٍ هادئ الطباع عاجزٍ قليل الحيلة كنتَ خليقًا أن تظلَّ له كافلًا ومُعينًا مدى الحياة، ولكنك إذا أعنتَ آخر من ذوي العُرام والطباع الحديدة فجَّرت ينبوعًا مُتدفِّقًا لا يقف أمامه شيء.»
وقد وجَّهت القاضية كاميل طائفة من الصغار ذوي الحدَّة والشراسة، فجعلتهم يُقيمون، وهم لا يدرون، ملعبًا بمعونة من المجلس البلدي، ويشتركون هم مع الجماعات الأخرى القائمة في البلدة، ويحظى الطفل منهم بالمعونة التي تُتيح له أن يُنمِّي مواهبه، فتراها الخاصة تحثُّ الآباء مثلًا على أن يُشجعوا الطفل الذي يُجيد العمل بيده على أن يصبح صانعًا من الطبقة الأولى، بدلًا من أن يصبح موظفًا من الطبقة الثانية.
فإذا رأت القاضية أن الآباء والأطفال قد عرفوا الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه نفضت يدها من معونتهم. وهي تؤمن بأن من الواجب على كل امرئ أن يعتمد على نفسه، وأن يكون عنيفًا في زجْرِ الضِّعاف الواهنين، وأن يمقت التدليل والطراوة.
كان والد القاضية كاميل أحد الجرَّاحين المُمتازين، وهو الدكتور ج. ب. ماكجي، بيْدَ أن فتاته كاميل لم تمِلْ نفسها قط إلى أن تعيش عيشة الفتيات المدلَّلات المُترَفات، ومات أبوها وهي في ميعة صِباها، فعزمت على أن تصبح طبيبة أيضًا، وظلَّت تُزيِّن لولاة أمرها أن تلتحق بمدرسة الطب، فلم تلبث أن ماتت لها أختٌ أكبر منها، وخلَّفت بنين صغارًا، فهجرت كاميل ما كانت فيه لتربِّي أولاد أختها. وقبل أن تبلغ العشرين من عمرها لقيت شابًّا مُحاميًا هو نوماس فيتزجر الدكيلي، كان مِثلها شبابًا وتوقدًا، فتزوَّجا وعاشا في سعادةٍ مُشرِقة الجوانب، وظلَّت كاميل سنوات ولا همَّ لها إلا رعاية زوجها وصغارها الثلاثة.
كان توماس قد أعجبه ما في زوجته من عقل، وأحب لها أن تصرفه فيما ينفع، فأغراها بأن تدرس القانون عنده في مكتبه، فظلَّت سنتَين تُشاركه في عمله ليلًا، ثم بقيت ١٨ شهرًا تُعاونه في سائر أعمال مكتبه بعض الوقت، ثم رأت يومًا ولدها الصغير وقد خرج قاصدًا مدرسته، فانتبهت فجأة وجعلت تتساءل: «أي ضرب من الأطفال صغارهم أو كبارهم سوف يُعاشرهم ابنها هذا بعيدًا عن رعايتها ونظرها؟» وجعلت تقول لنفسها: «من الخطأ أن نظنَّ أن مهمة الأم الفاضلة لا تتجاوز ما يجري بين جدران بيتها.»
فما هو إلا أن اختارت أجمل قُبَّعاتها ولبِستها، وانطلقت مُيمِّمةً شطر المدرسة التي فيها ولدها، وقدَّمت نفسها للأساتذة المُدرسين، ثم لم يمضِ طويل وقت حتى كانت قد بذلت جهدًا في تأليف جماعة للآباء والمُعلمين، وظفرت بانتخاب أول امرأة لمجلس التعليم في بلدتها، ثم أجالت طَرْفها في نواحي البلدة؛ لتنظُر ما يفعل الأطفال بعد المدرسة، فلم يرُقها ما رأت.
فلما مضت سنوات، وجاءت ساعةٌ صارت البلدة في حاجة إلى قاضية لمحكمة الصغار؛ كانت كاميل قد طارت شهرتها في البلدة بأنها المرأة التي تستطيع أن تستميل أي إنسان للجهاد في سبيل تهذيب الأطفال. ومع أنها لم تنَل إجازة الحقوق، فقد سنَّ المجلس التشريعي للولاية قانونًا يُتيح لها أن تكون أول امرأة تتولَّى القضاء في ولاية تنيسي، وثانية اثنتَين في البلاد كلها.
ولم تنَل كاميل حتى اليوم إجازة الحقوق، ولكن المحاكم العليا لم تنقُض من أحكامها في ثماني سنوات سوى حكم واحد.
وكل ضرب من ضروب الإخفاق التي تحيق بالآباء تُعرَض عليها في المحكمة؛ فمن الآباء، كما تقول كاميل، «من يتعدَّون حدود القانون، ثم ينقلبون ساخطين حين ينتهك صغارهم حُرمته»، ومنهم من يأمر ابنه أن يُراقب له شرطي المرور؛ ليسوق هو سيارته بسرعةٍ تتجاوز ما حدَّده قلم المرور، ومن الآباء من لا يزالون في شقاق ونزاع، ولا يخطر لهم ببالٍ أن صغارهم يتلقَّفون كل كلمة يسمعونها، ومنهم الأم التي لا تقول شيئًا سوى: «امسح رجلَيك يا ولد. ابعد عن الكرسي يا ولد.» فهذا ليس بيتًا يؤلَف، بل كل ما فيه دعوة تدعو الطفل أن يخرج إلى الشارع.
وشر هؤلاء جميعًا أولئك الآباء الذين يأبَون أن يحملوا تبعة الأبوَّة والأمومة، وتقول كاميل: «إن الأطفال عندئذٍ يلتمسون لأنفسهم حنان الأبوَّة والأمومة حيثما وجدوها. وكثيرٌ من البنات السيئات الخُلق ليس بهنَّ إلا أنهنَّ يبحثن على غير هدًى عن الحب الذي افتقدنه في بيوتهن، والآباء الذين يُبرئون ذمتهم بأن يكفلوا للطفل حاجة جسمه، ثمَّ يتركون سائر أمره لمدرسة أو لخادم، إنما يحرقون قلوب أطفالهم باللوعة والحزن.»
وقد اقتبست نظامَ المحكمة التي أنشأتها كاميل بعضُ حكومات الولايات المتحدة في ست ولايات، وقد اتبعت كثير من المدن أسلوبها في الإصلاح، بيْدَ أن كاميل ترى نفسها أسعد ما تكون حين تكون المُعاملة بينها وبين أفراد الناس. وقد قال أحد أصدقائها وقد يئس من أمرها: «إن شر عادات كاميل أنها إذا لقيت فتاة لا تكاد تتذكَّر فيما يبدو؛ ألقيتها في حفلة أم في سجن؟» فليس في قلبها المُخلِص الكريم حدٌّ فاصل يُفرِّق بين الناس، ويجعل بعضهم عندها أفضل من بعض.
آيات في كشف الجرائم
قال جوتشمبرلين في مجلة «ذي أميريكان ليجيون»: «ألقت شرطة كليفلاند القبض على عاملٍ وقع في ظنهم أنه ضرب زوجته ضربًا أفضى إلى موتها، ولم يكن عندهم شهود عيان، وأبى العامل أن يعترف، فجاءه دافيد كاولز رئيس معمل البحث العملي للكشف عن الجرائم، ووجَّه إليه أسئلةً مُتعددة، فتبيَّن أنه رجل على حظٍّ يسير من الذكاء، فقال له: «إذا كنت أنت القاتل، فدمُ زوجتك لا يزال على يدَيك، ولن يدخل في طوقك أن تغسله أو تُزيله.» وصبَّ على يد الرجل محلولًا قلويًّا، ثم أضاف كاشفًا قلويًّا أحال المحلول الأول أحمر قانيًا كلونِ دم البشر، فاعترف الرجل بالجريمة.»
وبمثل هذه الوسائل التي تجمع بين العلم ومعرفة طوايا النفوس، استطاع كاولز أن يحلَّ مئات من الجرائم الغريبة، وهذان مثلان من حوادث حدثت:
غريزة السرقة «كلبتومانيا»
وكان هذا اللص الرهيب شابًّا نحيل الجسم قميء الهيئة دقيق العظام رقيق الحس، لم يلبث أن اعترف وهو بين يدَي المُحقِّق بحقيق جرائمه، وكان اعترافه طلقًا مفصَّلًا لم يُحاول فيه إخفاء شيء ممَّا اجترح. ولما مثل أمام القاضي أعاد اعترافه، وقال إنه يعلم تمام العلم أنه اجترأ على القانون، وخالف الوضع الاجتماعي الصحيح، وإنه لذلك يستحق العقاب، ثم أضاف إلى قوله هذا أنه مع ذلك لم يكن يسرق لكي يعيش، ولكنه كان يُحس وهو يُقارف جرائمه بأنه مدفوع إلى ارتكابها بعاملٍ خفي لم يكن يُدرِك كُنْهه، وأنه لم يكن يستطيع كَبْح جماح نفسه إذا ما أرخى الليل سدوله عن أن يخرج في تلك الجولات التي كان يقوم بها، والتي كان يعود منها راضيًا عن نفسه كل الرضا، مُطمئنًّا كل الاطمئنان، مُستشعرًا براحةٍ نفسيةٍ تامة لم يكن ليحصل على شيء منها أثناء النهار.
ومحاكم أمريكا — كمحاكم غيرها من بلاد الله — لا يتَّسع صدرها لمثل هذا الهذيان، فتوكَّل قاضيها على الله، وأنزل بهذا المُجرم الجريء الفاجر أشد العقوبة.
وكان مُدير السجن الذي نزل فيه المتَّهَم من رجال العصر الحديث الذين يظلون أوقاتهم على القراءة والاطلاع على ما يستحدثه أولو الألباب من البحوث والدراسات، وكانت قد طغت على المكتبات في بلده موجة العلوم النفسية الحديثة، فقرأ لفرويد وأصحابه ما قالوا، وعرف الشعور واللاشعور، كما عرف العُقَد النفسية وكيفية انعقادها ووسائل حلها، ورأى أن يُجرِّب شيئًا من معرفته هذه مع ضيفه الجديد؛ لينظر هل يُفلِح في العثور على عُقدته؟ ثم هل يُوفَّق بعد ذلك إلى مُعالجة حلها؟ فصار يستدعيه إليه، ويخلو به كلما سمح له عمله بذلك، ثم يُحادثه ويُحادثه، ويستمع إلى حديثه ويُوجِّهه فيه، ويسأله ويتلقَّى جوابه، حتى وقف على قصة حياته، وعلى التيَّارات التحتية التي أثَّرت في سلوكه، وانحرفت به عن طريق الهداية إلى ذلك الطريقِ المُعوجِّ الذي ركبه؛ فعرف كيف أنه في طفولته أُصيب بشلل الأطفال، وأن ذلك أثَّر في نمو جسمه، فنشأ ضعيفًا عاجزًا مُتخلِّفًا عن أقرانه في الجد وفي اللعب، وأنه كانت له شقيقةٌ قوية البِنية مفتولة العضلات، تُمارس كثيرًا من الألعاب الرياضية، فكانت كثيرة الاستهزاء به، والحط من شأنه، والتهكُّم عليه، والتنديد بضعفه وعجزه.
فلما شبَّ وكبِر هفَت نفسه إلى الفتيات اللاتي في مثل سنه بحكم غرائزه الفطرية، ولكنهن أعرضن عنه وازدرينه، فشعر بشيء من التحول في عواطفه نحوهن، وذهب الشوق وحلَّ محله النفور، وتبخَّر الحب وانعقدت مكانه سُحُب الكراهية والمَقت، وانعكست عاهته الجسمية على نفسه فشوَّهتها هي أيضًا، وأصبح يُحس بهذا الدافع الخفي الذي كان يدفعه إلى تحسُّس فرائسه في مضاجعهنَّ، وسلب أمتعتهنَّ، واستراق رسائلهن، وهَتْك أسرارهن، والاستمتاع بآثارهن.
ووضع مدير السجن أصبعه على «العقدة»، بعد أن تكشَّف له نفس صاحبه على هذه الصورة الواضحة.
فإن ما أصاب الشابَّ في طفولته من الشلل، وما أورثه هذا الشلل من عجز، وما واجهت به أخته هذا العجز من زراية وسخرية، كل أولئك أشعر الصبي بنقصه وحقارة شأنه، ولكن «غريزة السيطرة» — وهي إحدى الغرائز الرئيسية في الإنسان — تأبى عليه أن يعيش في هذا الهوان الذي سبَّبته له عاهته؛ فهو لا بد له من الكفاح للخروج من هذه الورطة، ولردِّ ما يستطيع أن يردَّه إلى نفسه من الاعتبار، ولكنه شبَّ وكبِر، وأصبح يَلقى من الفتيات أقسى ممَّا كان يَلقى من أخته. وفي الوقت الذي تفتَّحت فيه نفسه للصواحب والصديقات غُلقت دونه الأبواب في كبر واشمئزاز، وارتفعت حرارة عواطفه، فلم يلقَ من جاراته إلا الماء البارد يُلقى على ناره المشبوبة. إنها إذن الحرب قد أُعلنت بينه وبين هذا الجنس الآخر المُتمرد المُتغطرس.
ورأى المسكين أنه استُدرج إلى معركة لم يكن له يد فيها، ودفعته «غريزة البقاء» إلى الثبات والدفاع عن نفسه، فنزل إلى الميدان، ولكن بسلاحه الخاص الذي يسَّرته له الطبيعة، والذي لم يكن يملك غيره؛ سلاح السطو والاغتصاب.
وقام بأولى غزواته الليلية على مَخدع فتاة ممَّن تأبَّين عليه مع كثرة صِلاتها بشبان الحي أجمعين، فسلب ونهب، وخرج من الموقعة بغنائمه وأسلابه راضيًا عن نفسه معتزًّا بشجاعته، وقد تولَّاه إحساسٌ مُريح بأنه عرف كيف يستردُّ شخصيته التي تآمر المجتمع على أن يُفقِده إياها. ومنذ تلك الليلة التي استشعر فيها تلك الراحة جعل دأبه أن يقوم مع الليل فيُجدِّد نشاطه، ويفتتح ميادين جديدة يستمتع فيها بإثبات شخصيته. وكان كل عمل يؤدِّيه يرمز إلى ناحية من نواحي النقص الذي يُحسُّه ويُثير في نفسه الشعور بالتعويض والرضا؛ فاقتحام المنازل كان يُشعِره بالقوة الجسدية التي لم يكن ينعَم بشيء منها؛ لأنه مُصاب بذلك الشلل الذي لا يُشعِره إلا السقم والضعف، وسرقة أدوات الزينة وتلك التوافه التي يحرص عليها النساء كان يُعوضه عن حرمانه من مجلسهنَّ والاستمتاع بهنَّ، وسرقة رسائل الغرام كانت تُعوضه عن تحريرها بنفسه وتبادُلها مع غيره.
تلك كانت قصة هذا الشاب العجيب، ولكن أعجب منها كانت قصة مُدير السجن؛ فإنه عوَّل على انتشال الشاب من ذلك التيَّار الذي جرفه، وعلى العودة به إلى المجتمع سليمًا مُعافًى ممَّا ألمَّ به؛ فما زال به حتى جعله يقتنع بأن مرضه وعجزه هما اللذان دفعا به إلى سلوكه الحالي، وأنه كان ضحية أخته القاسية بقدر ما كان ضحية ذلك العجز الطبيعي، وأنه لو كان في طفولته قد لقي ما يُخفِّف عنه وطأة عاهته بالمحافظة على شخصيته، والقيام على توجيهه نحو العمل الذي يُلائم حالته، لما اندفع نحو السرقة ليُعوض بها ما فاته على النحو الذي قدَّمنا. وما كاد الشاب يرى نفسه على حقيقتها في ضوء هذا التحليل، حتى أبدى رغبته في الإقلاع عن تلك العادة التي تحكَّمت فيه، وصار يُلحُّ في طلب أي عمل مشروع ليُمارسه. فلما أرشده المُدير إلى العمل الذي اختاره له أقبل عليه بكل جوارحه حتى أتقنه، وسار في السجن سيرةً محمودة. فلما أتمَّ مدة عقوبته خرج وهو يشعر أنه قد خُلِق خلقًا جديدًا. وزكَّاه مُدير السجن لدى شركةٍ كبيرة؛ فقدَّمت له عملًا ممَّا تعلَّمه وهو في السجن. فكان في عمله الجديد موضع رضاء من معه، وانجاب عن نفسه إحساسه بنقصها، وصلح حاله، وتزوَّج وعاش بقية عمره عيشةً راضية.
وقالت الدكتورة دونيتا فرجسون في مجلة «كورونوت»: «لقد رُوِّع سكان إحدى المدن الأمريكية من تعدُّد حوادث سرقة المنازل في الليل، وكانت هذه الجرائم تتمُّ في كل الحالات بطريقةٍ واحدة، وتُسرَق فيها أشياء مُتماثلة؛ ممَّا حمل رجال البوليس على الاعتقاد بأن الجاني لا بد أن يكون شخصًا واحدًا، ومُصابًا بخبل في قُواه العقلية.»
اعتاد المُجرم أن يقتحم الطوابق الأولى في المنازل أو الفيلات الصغيرة، ولا يدخل غير حجرات نوم السيدات، ولا يسرق سوى أدوات الزينة والحُلي والملابس، ويهتمُّ بوجهٍ خاص بسرقة رسائل الغرام المُرسَلة إلى السيدة. وقد بلغ عدد ما ارتكبه من جرائم في أقل من سنة نحو ٤٠٠ جريمة.
ونشط البوليس في تعقُّب آثار الجاني، حتى وُفِّق إلى إلقاء القبض عليه مُتلبِّسًا ببعض جرائمه، وكان يُخفي رسائل الغرام تحت ملابسه كما لو كانت أثمن شيء لديه. ولشدَّ ما دهش البوليس عندما رأى أن هذا الذي أقلق سكان مدينة كبيرة، وأزعج إدارة الأمن العام فيها، كان شابًّا نحيلًا يبدو عليه الضعف والسقم، وكان مُصابًا بشللٍ جزئي.
اعترف اللص بجرائمه، فأُحيل إلى المُحاكَمة، فلما مثل أمام القاضي دافع عن نفسه قائلًا إنه يعلم تمام العلم أنه قد اجترأ على القانون، وخالف الوضع الاجتماعي؛ إنه لذلك يستحق العقاب. مع أنه لا يسرق لكي يعيش، إلا أنه كان مدفوعًا بعاملٍ خفي، فلم يستطع كَبْح جماح نفسه؛ إذ كانت الجريمة ذاتها تُشعِره بالارتياح والقوة والاعتداد بالنفس، وفي صورةٍ مُوجَزة كانت تُوحي إليه بالشخصية، وهو ما حرمه منها المجتمع.
ولم يُجدِه هذا الدفاع شيئًا، وحُكِم عليه بالأشغال الشاقَّة في سجن سنج سنج المشهور.
وكان مُدير السجن وقتئذٍ من أساطين علم النفس، وكان يرى أن العقوبة لا تؤدِّي إلى زجْرِ المُذنِب، بل إنها في كثير من الأحيان كانت تدفعه إلى التمادي في الإجرام بدوافع نفسية مُتعددة؛ ولذلك كان يؤمن بفائدة التحليل النفسي للمُجرم حتى يمكن معرفة نوازعه ودوافعه؛ ومن ثَم يسهل علاجه وردعه. فلما وفد عليه اللص الذي أشرنا إليه آنفًا، أحاله على قسم العلاج النفسي المُلحَق بالسجن، وعهد به إلى الدكتور «رالف باتاي» مُدير القسم، وبعد جلسات مُتعددة أفضى إليه اللص بقصة حياته، قال:
«أُصبتُ في طفولتي بشلل الأطفال، فأثَّر في نمو جسمي، فنشأت ضعيفًا عاجزًا عن منافسة أقراني في الدراسة أو اللعب أو في العمل، وكانت لي شقيقةٌ قوية البِنية مفتولة العضلات، تُمارس كثيرًا من الألعاب الرياضية، فكانت دائمة التهكُّم عليَّ، والحط من شأني، والتنديد بضعفي وعجزي.
ولما بلغت مرحلة الشباب حاولت بحكم غرائزي التقرُّبَ من الفتيات، فأعرضن عني وازدرينني؛ فأصبح لزامًا عليَّ أن أسعى إلى العمل على تعويض النقص الذي أشعر به، فأقدمت على السرقة.»
واستطرد الرجل قائلًا: «وكان كل عمل أؤدِّيه يرمز إلى ناحية من نواحي النقص الذي أُحسُّ به، ويؤدِّي إلى الشعور بالتعويض والرضا.
فاقتحام المنازل يجعلني أشعر بالقوة الجسدية التي لست مُتمتِّعًا بها.
وسرقة أدوات زينة السيدات يُعوض ما حرماني من صداقتهن والتمتع بهن.
وسرقة رسائل الغرام تُعوضني عن كتابتها وتبادُلها.
وكنت بعد إتمام السرقة أشعر بذاتيَّتي بارتياحٍ نفسيٍّ عجيب.»
وعلى ضوء هذا الاعتراف وضع الدكتور «باتاي» قواعد معالجة الرجل، فجعله أولًا يقتنع بأن مرضه في الطفولة الذي أدَّى إلى عجزه وخيبته هو السبب المباشر لسلوكه الحالي، فلو كان قد وجد الشخص الذي يُوجِّهه إلى امتهان حِرفة مُلائمة، ويتعهَّده بالعناية الدائمة في أطوار نموه، لما أقدم على السرقة. والواقع أن أبوَيه كانا قد أهملاه إهمالًا تامًّا كأن لا وجود له.
وهنا أظهر المُجرم رغبةً مُلحَّة في الإقلاع عن الإجرام، ومُمارسة أي عمل شريف مشروع. واقترح عليه طبيبه نوع العمل الذي يُلائمه، فأقبل عليه بكل جوارحه وأتقنه، وسار في السجن سيرًا مشكورًا. فلما أتمَّ مدة العقوبة خرج من السجن وقد خُلِق خلقًا جديدًا. وزكَّاه مُدير السجن لدى شركة كبيرة، فعيَّنته في مكاتبها، وأصبح عضوًا نافعًا في المجتمع، واستردَّ اعتباره وتزوَّج. ومنذ عشرة أعوام حُوكِمت فتاتان مصريتان والدهما ضابطٌ كبير على سرقة حُلي بهذه الطريقة.