مرضى قابلون للشفاء
الواقع أن معظم المُصابين بداء السرقة قابلون للشفاء إذا كُفِلت لهم العناية الواجبة. وقد اهتمَّ الإخصائيون في أمريكا بدراسة هذا المرض، فكشفوا عن أسراره، ونجحوا في علاجه. والقصة التالية أفضل دليل على ما نقول:
منذ خمس سنوات قبض بوليس إحدى المدن الأمريكية على كاهنٍ معروف فيها مُتلبِّسًا بسرقة سيارة، واعترف الرجل أمام المُحقِّق بأنه اعتاد سرقة السيارات، وكشف له عن الحوادث التي ارتكبها ولم يُضبَط فيها، فأحاله المُحقِّق إلى المحكمة الجنائية.
وحاول مُحامي المتَّهَم أن ينفي عنه جريمة السرقة، وينسب إقدامه عليها إلى مس في قُواه العقلية، وأحاله القاضي إلى مستشفى الأمراض العقلية، حيث ظلَّ يُعالَج بالتحليل النفسي مدة عام كامل حتى شُفِي من داء السرقة، واستطاع أن يستأنف عمله في خدمة الدين. وهو الآن من أشهر رجاله في أمريكا، ويتقاضى مرتَّبًا ضخمًا، وينعَم بمواهب عقلية ممتازة، ويحظى بالاحترام.
أما إصابته بداء السرقة فترجع إلى العوامل التالية التي أدلى بها في اعترافاته لأطبائه.
قال الرجل: «منذ طفولتي وقفتُ نفسي على أن أكون كاهنًا، لكني وإن كانت تنهاني عن هذه المهنة لأني في نظرها لن أصلح لها، فكانت تنتقدني بشدة، وتُجسم هفواتي، وتزجرني وتُعاقبني على أي خطأ يبدر مني. ولم أستطع اختيار مهنة أخرى؛ لأن الأمر كان قد قُضي فيه، والتحقت بكلية اللاهوت، وأتممت دراستي، وعُيِّنت كاهنًا. وكنت في قرارة نفسي أمقت هذه المهنة، وأشعر بشيء من النقص كان يُعوضني عنه إعجاب الناس بي وتقديرهم لعملي، ثم تزوَّجت، ولم أُوفَّق في حياتي الزوجية؛ لأن زوجتي كانت كأمي؛ تُجسم من أخطائي، وتنتقدني انتقادًا مرًّا، وتزعم أنني لا أصلح لا للحياة الزوجية ولا لخدمة الدين، ولا لأية مهنة أخرى، فضعفت ثقتي بنفسي، وفقدت سيطرتي على الزوجة وعلى المنزل، فتولَّدت عندي الرغبة المُلحَّة في السرقة؛ سرقة الأشياء الكبيرة التي تُشعِرني بالمقدرة والسيطرة والزعامة، فوجدت أن هذه الأمور يمكن تحقيقها في سرقة السيارات؛ فإني في قيادتها على الصورة التي أريدها وفي توجيهها كما أشاء، كنت أشعر بتمام الرضا النفسي، وبالتعويض الكامل عن كل نقص أصابني.»
وقد سهَّلت هذه الاعترافات مهمة الأطباء، فنجحوا في علاجهم، وأنقذوا الرجل من دائه الخبيث. ويقول العلماء: «إن مرض السرقة مثل مرض الكذب، ينشأ كلٌّ منهما من العوامل النفسية كما ينشأ من الاضطرابات الفسيولوجية، وضعف الغُدد المتصلة بالمخ، فلا يستطيع؛ أي يؤدِّي وظيفته كاملة، كما ينشأ أيضًا من عوامل اجتماعية كالمنازعات التي تحدث بين الأبوَين، وتؤدِّي إلى هدم السعادة المنزلية، والخصومة بين أفراد الأسرة الواحدة أو الطلاق، فيتأثَّر الأولاد — وعلى الأخص الفتيات — بمسلك آبائهنَّ أو أمهاتهن، فيؤثِر العزلة على الاختلاط؛ إذ يعتقدون أن الناس يتهكَّمون عليهن، ويسخرون منهن، فينشأ عندهن مرض السرقة. وكذلك ينشأ المرض من خيبة أمل الفتاة في حبها، أو المرأة في حياتها الزوجية، أو عدم توفيق الشاب أو الفتاة إلى الزواج.
فالرجل الأعزب والفتاة العانس قد يُصابان بمرض السرقة.»
ونحن نسُوق الحادثة التالية كدليل على خيبة المرأة في حياتها الزوجية، وتولُّد حب السرقة عندها:
فقد حدث أن ضُبِطت شابَّةٌ مثقَّفةٌ غنية من أسرةٍ كبيرةٍ مُتلبسة بسرقة دراجة. وعند التحقيق معها أعربت عن أسفها على ما فعلت، وأخبرت المحقِّق بأنها تجد لذةً كبيرة في السرقة؛ ولذلك ترغب فيها، وأن هذه الرغبة المُلحة نشأت عندها منذ أن أهملها زوجها.
ولما كان المحقِّق من المُهتمين بعلمَي النفس والاجتماع، فقد مضى يستدرجها حتى كشفت له عن تاريخ حياتها، فقالت:
«إني الشقيقة الوحيدة لخمسة إخوة اعتادوا أن يُضايقوني في طفولتي، ويُطلِقون عليَّ كنايات التهكم والسخرية. ولما أصبحت فتاة حاولت أن أظفر بإعجابهم فأخفقت. وكانوا يركبون الدراجات، فتعلَّمت مِثلهم ركوب الدراجة، وأخذت أتفنَّن في قيادتها، حتى كنت أسير أسرع منهم، وأتفوق عليهم في المسابقات، وقد عوَّضت هذه الهواية المفيدة ما كنت ألقاه من عنف واضطهاد.
وتزوجتُ وسعدت في حياتي الزوجية وقتًا قصيرًا، ثم أهملني زوجي لانهماكه في أعماله الكثيرة، فأخفقت أيضًا في حياتي الزوجية، وشعرت بالرغبة في سرقة الدراجات وحدها؛ لأنها كما كانت تُشعرني بالرضاء وأنا فتاة، كانت تُشعرني كذلك بالرضاء بعد أن تهدَّم صرْحُ سعادتي الزوجية، فأنا لا أسرق إلا الوسيلة التي أشعر أنها تُعوِّضني عن نقصٍ طارئ.»
وهكذا ثبت للمحقِّق أن المرأة كانت حسنة النية؛ إذ كانت تسرق الدراجات وتُغيِّر طلاءها، وتبيعها لأمهات الأطفال الذين ذهب آباؤهم إلى ميادين القتال عبر البحار، ثم تُرسِل الثمن إلى جمعية الصليب الأحمر.
ولما كانت قد أبدَت الرغبة الخالصة في الإقلاع عن السرقة، كان لا بد من أن يعود إليها زوجها. وهذا ما أوضحه له الطبيب النفساني، واقتنع الزوج، وعاد إلى العناية بزوجته، وعندئذٍ شُفِيت.