من هو الإنسان العادي؟
الإنسان العادي في تعريف الدكتور «ساندور لاراند»، الطبيب النفساني العالمي، هو الشخص الذي يستطيع أن يُقِيم علاقاتٍ اجتماعيةً مع الناس على اختلاف ميولهم وبيئاتهم، وأن يؤدي عملًا مشروعًا، وأن يُهيئ الصفاء في الأسرة، وأن يسعد في حياته الزوجية. فإذا خاب في أية ناحية من هذه النواحي لسببٍ قهري أو غير إرادي، أو لعدم تأدية أعضاء الجسم لوظائفها كما يجب؛ تولَّد عنده مرض السرقة. فالثابت أن معظم المرضى بهذا المرض الداهم أشخاصٌ اضطربت عواطفهم أو أفكارهم، فلم يعودوا يعرفون كيف يسُوسون أمورهم أو ينجحون في أعمالهم. والسبب المباشر لذلك هو إخفاق آبائهم في تربيتهم التربية الواجبة بسبب خيبتهم في حياتهم الزوجية، وعجزهم عن إقامة صَرْح السعادة العائلية.
ويستطرد الدكتور «لوراند» فيقول: «إن مرض السرقة يُشبِه إلى حدٍّ كبيرٍ المشي في أثناء النوم. وكلاهما مرضٌ نفسي؛ فالشخص الذي ينهض من نومه وهو غير واعٍ، ويسير في المنزل، ويؤدي أعمالًا معيَّنة، أو يسير على حافة الشرفة؛ إنما يفعل ذلك بدوافع نفسية، وهو حين يعود إليه عقله الواعي لا يذكُر شيئًا ممَّا فعل أثناء النوم، إنما الفرق بين الحالتَين أن المُصاب بمرض السرقة يسرق وهو في حالة الوعي.
أما الذي يمشي أثناء النوم فإنه لا يكون واعيًا. على أن السارق في الحالة الأولى يسرق دائمًا أشياء ترمز إلى التعويض عن نقص، فهو قلَّما يفكر في الناحية المادية، وحين يعرف المحلِّل النفساني نوع الأشياء المسروقة يسهل عليه معرفة الدافع، فيُوفَّق في علاجه.»
ويقول رجال المباحث الجنائية والبوليس السري: «إن بعض النساء تُصاب في أيام الحمل بمرض السرقة، وسبب ذلك يرجع إلى اضطراب وظائف الجهاز التناسلي، فيؤثِّر في باقي أعضاء الجسم؛ إذ يكنَّ في حالاتٍ عديدة قد عمدن إلى الامتناع عن الحمل مدةً طويلة ثم عُدْن إليه. ويُعامل القضاةُ الحواملَ اللائي يسرقن في أثناء مدة الحمل دون أن يكنَّ في حاجة إلى السرقة بمُنتهى الرحمة والشفقة مراعاةً لظروفهن.»
المرأة والجريمة
قالت إيريش تيمس: «إن الفتاة التي تسطو على البيوت مألوفة في دبلن؛ فقد قُدِّمت للمحاكم فتيات بتهمة السرقة، وتنقسم أولئك الفتيات إلى قسمَين؛ الأول من كان له أخٌ عضو في إحدى العصابات، والثاني من كانت تنتمي إلى عصابةٍ كل أعضائها من النساء.
ولكن الجرائم التي ترتكبها الفتيات والنساء يغلب عليها بصورةٍ عامة طابعٌ خاص، وهي السرقة من البيوت أو المخازن، أو خطف حقائب السيدات في ملاهي الرقص، أو الصناديق المخصَّصة لوضع الثياب في أماكن الاستحمام.
وليس من شك في أن اعتياد النساء على السرقة، والأسباب التي دفعتهنَّ إليها؛ مشكلةٌ اجتماعيةٌ خطيرة تحتاج إلى درس وعلاج.
وحسبُنا أن نذكُر تلك الفتاة التي بدأت ترتكب السرقة من منزل مخدومها؛ فإن من المُحتمل أن تكون من إحدى المُقاطعات النائية التي يعيش ذووها في فقرٍ مُدقِع، فجاءت إلى دبلن ووجدت عملًا في سهولة، ولا بد أنها لاحظت الفرق العظيم بين قريتها والعاصمة، ورأت مظاهر المدنية، فكثرت رغباتها ومطالبها.
وسرعان ما تشعر بحاجتها إلى ترتيب شعرها على أحدث طراز، وإلى شراء مُستحضَرات التجميل، ورغبتها في الحصول على ثيابٍ أنيقة. وقد تكون تعرَّفت على أحد الأصدقاء من الرجال، فيُحرِّضها على سرقة النقود.
وهنا تبدأ في السرقة. ولا بد أن يُكتشَف أمرها طال عليها الوقت أو قصر، فإذا اكتفى مخدومها بطردها قرَّرت البقاء في دبلن في انتظار العثور على عمل، ولكنها — إذا لم تكن تحمل كتاب توصية — لا تستطيع أن تُقِيم في الأماكن المخصَّصة لسُكْنى الفتيات العاملات؛ لأن هذه الأماكن تُحاذر من قبول الفتيات غير المعروفات. وعندئذٍ قد تضطرُّ إلى البحث عن غرفةٍ رخيصة تأوي إليها، ويحتمل أن تشترك في تلك الغرفة مع امرأةٍ أخرى أمهر منها وأعرق في السرقة والجريمة. فإذا كانت من النوع «الخام» أو قليلة الذكاء، سهل على زميلتها أن تُسيطر عليها، وأن تُوجِّهها في طريق الإجرام، فتصبح من بنات الشوارع.
وتتبع ذلك مرحلة من الأمراض وانحطاط الأخلاق والأعصاب الناشئ عن الإجهاد، وقد تنتقل بعد هذه المرحلة إلى مستشفى الأمراض العقلية، أو إلى أعماق السجون.
ومن بواعث الارتياح أن يكون هناك احتمال لتدخُّل مُراقبات سلوك النساء في الوقت المناسب للحيلولة دون تدهوُر الفتاة إلى الحضيض؛ أو تدخُّل المحكمة، فتُرسِل الفتاة إلى إحدى الإصلاحيات، فتبتعد عن الإغراء والتحريض، وتستقيم سيرتها.
أما إذا استمسك مخدومها — عند اكتشاف سرقاتها — بوجوب تقديمها للمحكمة، فإن القاضي يؤجِّل القضية إلى أن تستطيع إحدى مُراقبات السلوك درس الظروف التي أحاطت بها. وإذا كانت الفتاة صغيرة السن فقد تقترح المُراقبة الاكتفاء بردِّها إلى أهلها، ومتى كان مُحيطها العائلي فاسدًا أُرسلت إلى مدرسةٍ صناعية.
وإقدام ابنة المدينة على السرقة رغم خطره أخفُّ عاقبة من لجوء ابنة القرية إلى هذه الجريمة؛ فلِلأولى عادةً بيتٌ تقطن فيه مهما كان هذا البيت غير صحي أو غير مُلائم، وظروفها خيرٌ من تلك التي تلجأ إلى السُّكنى الرخيصة، ومهما يكن من شيء تظل إحدى الفتاتَين تحت المُراقبة، وقد تُساعدان على الالتحاق بعمل، أو تُرسَلان إلى منازل خاصة تُشرِف عليها الأديرة، إلى أن تقوم الدلائل على رجوعهما إلى الاستقامة.»
ملاحظات عن جريمة قتل
«في كل جريمة تقع بعض تصرفات غير طبيعية، تكفي، إذا تنبَّه لمُلاحظتها عقلٌ منطقي دقيق خبير بطبائع النفوس البشرية، لأنْ تُميط اللثام عن سرها ودوافعها، وتهدي لفاعليها.»
هذه قصةٌ واقعية حدثت بإحدى مدن أمريكا في أغسطس سنة ١٩٢٢، وهذه قصةٌ عادية يتكرر مثلها في عالم الإجرام في البلاد كلها. ليس الغرض سَرْد حوادث تُثير اهتمام القُراء، ولكننا نقصد إلى عرض أسلوب البحث والتحقيق المُثمِر في مثل هذه الحالات.
وُجِد أحد التجار في إحدى مدن أمريكا مقتولًا في مسكنه الخاص الذي يقطن فيه هو وزوجته وَحْدهما، ووُجِدت زوجته وقد أُوثِقت برباط إلى مقعد في المطبخ. وذكرت الزوجة أنها أحسَّت حوالَي الساعة الثانية بعد منتصف تلك الليلة بحركة في المنزل، فهبَّت من نومها، واتجهت إلى المطبخ مُخترِقةً قاعة الطعام التي تتوسَّط الشقة، فلم تشعر إلا بهجوم رجلَين عليها جاءاها من خلفها، وسارع أحدهما بسدِّ فمها حتى لا تصيح، ثم تعاونا معًا على شدِّها بوثاقٍ متين إلى مقعد بالمطبخ، وبقيَ أحدهما معها، وتسلَّل الآخر إلى غرفة النوم حيث يرقد زوجها. وبعد ذلك بلحظة سمعت طلقًا ناريًّا، وعلمت أن زوجها قُتِل. وكل ما استطاعت أن تتبيَّنه من ملامح الجانيَين أن أحدهما طويل والآخر قصير.
وتولَّى رجال التحقيق بحث الوقائع، واتضح لهم أن القتل كان بقصد سرقة مبلغ سحبته الزوجة في اليوم نفسه من البنك، وبعد تعقُّب كل من يُشتبَه فيهم في الجهة، وتعرُّف كل من يصح أن يكون قد حام حول البنك في ذلك اليوم منهم، لم يستطع التحقيق أن يصل إلى نتيجة في تحديد الفاعل في هذه الجريمة.
وبعد ثلاثة أيام من الحادث رأى المحقِّق أن يستعين بخبير من رجال المباحث معروف بخبرته الواسعة بالجرائم والمُجرمين، سبق أن أماط اللثام عن أسرار كثير من الجرائم الغامضة.
كان أول ما قام به الخبير أن اتصل بالمحقِّق، واستمع إلى ما أورده من الوقائع، وما اتجهت إليه شبهته. وأراد المحقِّق أن يتصل بالمُشتبَه فيهم، ويستمع إلى أقوالهم، ولكنه قال في رفقٍ إنه يُفضِّل أن يبدأ بزيارة مكان الجريمة. فوافقه المحقِّق، وقال له إنه سيجد هناك أرملة القتيل، وقد يستفيد منها بعض الفائدة على الرغم من فداحة ما تشعر به من الألم للفاجعة التي رُزئت بها.
قصد الخبير إلى سكن القتيل تصحبه سكرتيرته الخاصة التي تدوِّن كل ما يقوم به، فوجد الأرملة جالسة وبيدها إنجيل تقرؤه، فقال لها: «صباح الخير يا سيِّدتي، إني أنا رجل المباحث الذي دُعِي للنظر في القضية، وإني أرجو ألا أُزعجك كثيرًا، فإني أعلم مبلغ ما سبَّبته لكِ الفاجعة من متاعب، وما أرهقك به رجال التحقيق من أسئلة، وكل ما أرجوه أن تأذني لي بإلقاء نظرة على المسكن ومحتوياته.»
فشكرته السيدة وانفجرت باكية، فربَّت كتفها، وطيَّب خاطرها قائلًا لها: «ما جَدْوى البكاء وهو لا يُرجِع ذاهبًا؟»
ثم انصرف إلى مهمته، وأخذ يرسم تخطيطًا للمسكن، وعرف أنه مكوَّن من ثلاث غُرَف؛ إحداها للنوم وبها سريرٌ واحد ينام عليه الزوجان، وغرفة جلوس، وكلتا الغرفتَين لهما منافذ خارجية على الشارع، ثم تليهما قاعة الطعام، وليس لها نوافذ على الخارج، ثم تتصل قاعة الطعام بالمطبخ، وهو على شارعٍ عام وبه منافذ. وبعد أن أتمَّ المُعاينة وأتمَّ الرسم، عاد إلى السيدة وقال: «والآن أيتها السيدة أرجو منك أن تتفضَّلي إذا لم يكن في ذلك إزعاج لك بتمثيل ما حدث في تلك الليلة تمثيلًا دقيقًا.» وهنا فعلت قائلةً: «لقد كنت نائمة في الغرفة مع زوجي.»
– «وأين كان وَضْعك وأنت نائمة؟»
– «كنت على الطرف الخارجي.»
– «حسن، هذا يُفسِّر قيامك على أثر سماعك الحركة دون أن يستيقظ زوجك.»
– «وسمعت حركة، فخرجت من الغرفة إلى قاعة الطعام متَّجِهة نحو المطبخ.»
– «أظن يا سيِّدتي أن الليلة كانت مُقمِرة، ولا بد أن الضوء كان يتسرَّب إلى المكان من النوافذ.»
– «هذا صحيح، ولكن قاعة الطعام لم تكن مُضيئة إضاءةً كافية؛ ولهذا لم أنتبه لوجود أحد، ولم أشعر وأنا على أبواب المطبخ إلا وقد هُوجِمت من الخلف، وسارع أحد المُهاجمين إلى سدِّ فمي وتقييد حركتي، بينما أسرع الآخر إلى شدِّ وثاقي، ورُبِطتُّ إلى مقعد بالمطبخ.»
– «هل تبيَّنتِ ملامح الرجلَين؟ أظن ضوء القمر في المطبخ كان يسمح بشيء من ذلك.»
– «أنت تدري حالة الإنسان في مثل هذه الظروف، كل ما استطعت أن أتبيَّنه أن أحدهما طويل والآخر قصير.»
– «وهل كان الطويل يلبس قبعةً صغيرة، ويضع على عينَيه نظارةً سوداء؟»
– «يا لله! هذا صحيح. كيف غابت عني هذه الملاحظة فلم أذكُرها إلا الآن وأنت تُورِدها؟»
– «استمرِّي يا سيِّدتي.»
– «ثم تسلَّل الرجل القصير إلى غرفة النوم، وسمعت طلقًا ناريًّا.»
– «ماذا حدث عند سماع الطلق؟ هل قال أحد الرجلَين شيئًا؟»
– «نعم، قال الرجل الطويل القائم إلى جواري عندما سمع الطلق: «ما هذا؟ هل كانت له ضرورة؟» فأجابه القصير من الغرفة: «لم يكن من ذلك بدٌّ؛ فقد استيقظ الرجل وأراد مُقاومتي».»
– «وأين كان المال الذي سُرِق؟»
– «كان تحت الوسادة.»
– «شكرًا يا سيِّدتي.»
والتفت الخبير إلى سكرتيرته، وسألها إن كانت قد أثبتت ذلك كله، ثم استأذنا وانصرفا.
وفيما هو خارجٌ التقى الخبير بطائفة من مُكاتبي الصحف سمعوا بنبأ حضوره، فبادروا ليتحسَّسوا منه جديدًا عن القضية، فقال لهم: «لقد أعطتني أرملة القتيل أوصاف أحد الرجلَين، وقد كنت كوَّنت عند حضوري فكرة عن القاتل، وأظنني قد انتهيت إلى ما يؤيد فكرتي.»
وقصد الخبير إلى المحقِّق، فسارع إليه في لهفة قائلًا: «ما وراءك؟ لقد نقل إليَّ الصحفيون أنك اهتديت إلى الفاعل، فمن هو؟»
فقال: «ستتبيَّنه حين تسمع المحضر من سكرتيرتي.»
وأمرها أن تتلو المحضر. وبعد أن فرغت من تلاوته قال المحقِّق: «لم تزِدْنا جديدًا؛ فكل ما ذكرته كنَّا نعرفه من قبل، وأين من هذا ما تقوله من أنك اكتشفت القاتل؟ إن كل ما وصلت إليه أنك علمت أن القاتل كان يلبس قبعةً صغيرة، ويضع منظارًا على عينَيه — وهي معلوماتٌ قيِّمة أعجب كيف فات الأرملةَ ذِكرُها لنا — ولكن كيف تستطيع من هذه الأوصاف وحدها الاهتداء إليه؟»
فقال له الخبير: «ألم تستطع من هذا المحضر أن تحدس من القاتل؟! إن القاتل يا سيِّدي هو أرملة القتيل.»
– «هذا عجيب! إنها امرأةٌ صالحةٌ معروفة بالاستقامة والمُواظبة على الكنيسة، وفوق ذلك فقد وُجِد في فمها وجسمها آثار مجهوداتها مع القاتلَين.»
- أولًا: لقد ذكَرت أن أحد الرجلَين بعد أن سمع الطلق خاطب الآخر قائلًا:
«لماذا قتلته؟ وهل كانت هناك ضرورة؟» فأجابه الآخر قائلًا: «لقد استيقظ
وأراد المُقاومة، فلم يكن من قتله بدٌّ.»
هل تتصوَّر أن هذا طبيعي؟ ضَعْ نفسك مكان أحد الرجلَين، وتصوَّرْ أنك سمعت طلقًا في الغرفة الأخرى، فهل تقطع بأن المقتول هو الرجل النائم لا زميلك، وتخاطبه بلهجة الواثق هكذا؟ إن حالة الشك والذعر والقلق التي تُداخلك لا تسمح بمثل هذا الوثوق، فهي قصةٌ غير طبيعية تنمُّ عن الوضع والاختلاق.
- ثانيًا: لقد ذكَرت أنها سمعت حركة، فقامت من نومها لتتبيَّنها. هل هذا طبيعي؟ هل تعلم أن امرأة في الوجود ترقد إلى جار زوجها، فتُحسُّ بحركةٍ غير عادية تبعث على الهلع، فتقوم من غير أن تُوقِظ زوجها لتتولَّى بنفسها تبيُّنها؟ أليس الطبيعي أن تُبادر إلى إزعاجه، وتحمله على أن يقوم هو بنفسه لحمايتها ودرء الخطر عنها؟
أما الوثاق والجروح والبكاء والإنجيل، فكلها حِيلٌ بدائية يلجأ إليها البسطاء من المُجرمين.»