الغريزة الجنسية عند الفتيات
قالت مجلة «ديتيكتيف»: «ليس أفعل في النفس من سلطان الغريزة الجنسية، التي إذا ما ركبت رأس الإنسان وتمكَّنت منه أفقدته عقله، وسيطرت على حواسه، وصيَّرته عبدًا لها.»
ونحن نعرض لهذا الموضوع على طريقتنا التحقيقية، فلا نتجاوز سرد الحوادث وعرضها أمام القارئ كفيلم السينما، كما أن في ثنايا الحوادث التي نُورِدها شرحًا لطريقةٍ جديدة في علم النفس؛ هي أحدث وسائل الكشف عن جرائم الغريزة الجنسية وإبراز مكنونات النفس. وسيرى منها القارئ أن كثيرين ممَّن يُتَّهمون في الجرائم الخلقية ليسوا إلا ضحايا لأحلام الفتيات، وتسلُّط الغريزة على عقولهنَّ، واختلاطها بتحفُّظهنَّ مما يُحدِث تشويشًا وتشعُّبًا في تفكيرهنَّ يؤدي إلى اضطراب وتصوُّر الأحلام أو القصص كأنها ضعيفة، فيكون الاتهام المُختلَق.
ولعل كلًّا منَّا يذكُر أن صديقًا أو شخصًا معروفًا له بحسن الخلق واستقامة السيرة قد اتُّهم فجأةً بأمرٍ مَشين، وربما ذهب ضحية هذا الاتهام، وقضى نَحْبه غمًّا وكمدًا لِما أصابه من سوء السيرة.
فهل كل هؤلاء مُذنِبون حقًّا؟ وأي عامل يحمل الفتاة على اتهام شخص معيَّن بما لم يفعله أو يفكر فيه؟ هذا ما تكشف عنه الحوادث التالية، ونرجو أن يُمعِن القارئ في مُطالعتها؛ ففيها سر الفتاة أو سر الطبيعة؛ أمِّ الغرائز كلها.
جرائم يُصوِّرها الخيال
ففي إحدى دور السينما في الولايات المتحدة، بينما كان عرض الفيلم مستمرًّا والجمهور يتلهَّى بمُشاهدته، دوَّت صرخة امرأة فيها نبرات الخوف والاستغاثة، فأُوقِف عرض الفيلم، وأُضيئت الأنوار، وشاهد النظارة فتاةً مُنتصِبة القامة موردة الوجه، تنمُّ أساريرها عن القلق، وهي تصيح: «لقد خدش عفافي.»
وأشارت بأصبعها إلى رجلٍ يُجاورها.
وتجمَّع النظارة حول الرجل، ومضَوا يضربونه ويدفعونه حتى ساقوه إلى دائرة البوليس، وكان يبكي ويدفع عن نفسه التهمة، ولكن شهادة المرأة كانت كافية وقاطعة، فحُكِم عليه بالحبس والغرامة.
ولو كان المتَّهم من السُّود، وكان مكان الجريمة في ولايات الجنوب، حيث يعجز البوليس عن حماية المتَّهم من غضب الشعب؛ لكان عقابه أشنع وأفظع، فيُعذَّب ويُجلَد ويُحرَق حيًّا.
ومن الغريب أن الإحصاءات الرسمية دلَّت على أنه ثبت بالتحقيق بعد توقيع الجزاء أن ٨٠٪ من المتَّهَمين كانوا أبرياء!
أما النساء اللائي يُوجِّهن الاتهام فهنَّ في الغالب مريضات بالهستيريا، أو نوع من الجنون التصوري «مانيا»، يُصوَّر للمرأة به أن الرجال يتعقَّبونها، وتحمل نظراتِ الرجال على محملٍ سيئ. فإذا ما وصل الفيلم أو أي مشهد آخر إلى نقطة تُهيِّج الإحساس، وتصل بها إلى قمة الخيال والتصور، وحدث أن تحرَّك جارها حركة ولو كانت عادية؛ فزعت، وصوَّر لها الوهم أنها موجَّهة للاعتداء عليها.
وتُصاب المرأة عقب ذلك بالهذيان، فتُصوِّر للناس تفاصيل حادث وَهْمي طُبِع في ذهنها من روايةٍ قرأتها أو سمعتها، فتقصُّها على أنها وقعت لها من هذا الرجل البريء الجالس بجانبها.
فتاة تقع ضحية الغريزة الجنسية
وقد حدث في فرنسا حادثٌ غريبٌ أثار اهتمام دوائر البوليس والقضاء والطب الشرعي والنفسي، وكان موضع حديث الأندية والصحف.
وإليك التفاصيل كما يسردها أحد القضاة الفرنسيين ممَّن عرضت لهم آلاف الحالات:
في شهر أكتوبر، وهو موعد افتتاح المدارس، غادرت الفتاة «أوديت كال» منزل والدَيها في بلدة «جاب» في الساعة ٧:٤٥ لتذهب إلى المدرسة، وهي فتاةٌ جميلة في الخامسة عشرة من عمرها.
وفي اليوم نفسه في الساعة ١٣ اشتدَّ قلق والدها — وهو ميكانيكيٌّ بسيط — لعدم حضور ابنته إلى المنزل لتناوُل الغداء، فذهب إلى ناظر المدرسة، فأخبره بأنه لم يرَ ابنته طول النهار.
وفي اليوم نفسه أيضًا في «جرينوبل» التي تقع على مسافة ١٣٠ كيلومترًا من «جاب»، كان أحد الضباط الشبان يتغدَّى في مطعمٍ أُقيم على الجبل الذي يُطلُّ على مدينة جرينوبل، فسمع أصوات استغاثة آتية من النواحي المُجاورة.
فهرع مع كل من كانوا في المطعم، وكم كانت دهشتهم حين شاهدوا فتاةً فائقة الجمال تئنُّ وهي في حالة ضعف، وقد تولَّاها الذهول والخبل.
ولم تستطع الإجابة عن الأسئلة التي وُجِّهت لها، فهل هذا فِعل المخدِّر؟
ونُقِلت الفتاة إلى مسكن صاحبة المطعم، وأُجريت لها الإسعافات اللازمة، وبدَت كأنها ما زالت تحت تأثير رُعْب شديد، وكانت تهذي بالألفاظ التالية: «أين أنا؟ وماذا أفعل؟ ألم أقتل أمي؟ آه من الرجال السُّود. كلا، لا أريد ركوب السيارة الحمراء.»
وكان المكان هادئًا كثير السكون، فعادت إلى الفتاة ذاكرتها وقالت: «اسمي أوديت، وقد خطفوني في سيارةٍ حمراء، وسقَوني شرابًا أحمر.»
ولكنها عادت إلى خوفها من الرجال السود والملابس القاتمة.
وبدأ البوليس تحقيقه بعد أن عرف اسمها، وأبلغ والدها، فحضر ولم تعرفه، بل قفزت إليه كأنه عدو؛ لأنه كان يلبس «جاكتة» سوداء، وصاحت به: «آه! مَن هذا الرجل الأسود؟»
وأخيرًا استطاعت أن تبوح ببعض معلومات عن هذا الرجل الذي يُقلِق بالها، فقالت إنه رجلٌ ضخمٌ قويٌّ يلبس بذلةً سوداء، أسود الشعر! أزرق العينَين، طويل الأهداب، مليح الوجه.
ومضت أوديت في هذيانها، فتكلَّمت عن موت أمها، مع أنها ما زالت حيةً تنعم بصحةٍ قوية.
فإذا كان اليوم الرابع من أكتوبر عرفت أوديت والدها، ولكنها ما زالت تهذي وتبكي أمها بزعم أنها ماتت. وتولَّى علاجَها طبيبٌ كبير، واستمرَّ التحقيق.
وانتشر الخبر في المنطقة الجنوبية الغربية من فرنسا، ومضى الناس يتساءلون: «أهناك جريمة خطف، أم مُغامرةٌ غرامية أعقبها اعتداء، أم تصورٌ جنوني وهذيان؟»
واتجه التحقيق إلى جريمة الخطف؛ فقد صرَّح والد الفتاة بأنها كانت وحدها في البيت حين حضر إليها شابٌّ قال إنه جاء ليُوقِّع بوليسة تأمين، وكان ذلك قبل وقوع الحادث بأيام.
وأكثر هذا الرجل من إطراء جمال أوديت، وألحَّ في الدخول إلى المنزل، حتى اضطرَّت الفتاة إلى أن تُثبت الباب بقدمها؛ إذ كان الزائر لا يميل إلى الابتعاد أو الخروج، وذُعِرت الفتاة، وبدا عليها الرعب إذ ذاك. ومن هنا اتجهت الشبهة إلى أن يكون هذا الزائر الغريب هو مُرتكِب الحادث.
فإذا أضفنا إلى هذا أنه كان قد غادر بلدة «جاب» منذ أيام إلى مرسيليا، وأنه يملك سيارةً حمراء؛ ثبت أنه الشخص الذي تعنيه أوديت في هذيانها.
كيف اختُطِفت؟
ولكن شهود الحادث أكَّدوا أن أوديت لم تُخطَف في سيارة، ولكنها سافرت بالقطار، فرآها أحد موظفي المحطة تستقلُّ قطار جرينوبل، وأكَّد هذا القول بائع الكتب في المحطة.
ودلَّ الكشف الطبي على الفتاة على أنها لم تكن ضحية لأي اعتداء خُلقي أيًّا كان نوعه.
وهنا تخرج المسألة من بين يدَي البوليس والنيابة والطب، ويتولَّاها علماء النفس، فاسمع التحليل الذي أوضحه للقضاة إخصائيٌّ كبير في علم النفس:
تبلغ أوديت خمسة عشر عامًا، وهو السن الذي يلمع فيه في العيون هذا اللهب الغريب الذي يقلق له الوالدان؛ لهب الرغبة الجسدية. وكانت أمها تسهر عليها في غيرةٍ شديدة، وتُسمِعها كل يوم العبارة القاسية: «يجب أن تكوني عاقلة، إذا لم تكوني مُستقيمة فإني أنتحر.»
وتكوَّنت عند أوديت فكرة عن هذا السلوك السيئ الذي تنهاها عنه أمها في كل يوم، وانعكست هذه الأفكار، وسلَّط الخيال أوهامه، وتحكَّم هذا الخيال في لحظاتٍ كادت الفتاة تفقد فيها كل مُقاومة، وتتعرَّض للسقوط لأول طارئ.
وبينما هي في هذه الأفكار المُتشعِّبة يحضر رسول شركة التأمين وكانت وحدها في المنزل، وهو شابٌّ أنيق الملبس كما يقتضيه عمله، يرتدي بذلةً قاتمة، فهو الرجل الأسود. وشاء الاتفاق أن يُبدِي الرجل لباقته أمام فتاة جميلة ما هي إلا طفلةٌ عديمة التجارب، فتُقاومه، وتذكُر أمها ونصائحها، ويختلط فيها عامل الحياء والإحساس الخاص الذي يُسمِّيه علماء النفس «هزة الحنان».
وكان للشاب سيارةٌ حمراء من النوع الذي تحلم به الفتيات.
ويحين يوم بدء الدراسة، فتذهب أوديت وحدها إلى المدرسة، وتهجس في خاطرها أفكارٌ غريبة هي نتيجة الخيال القوي والغريزة المكبوتة في سنٍّ تلتهب فيه؛ لو يعود هذا الشاب الظريف بسيارته الفخمة فيُحدِّثها بأسلوبه الرشيق، ويُطرِبها فيُثير كامن عاطفتها، وآه لو يخطفها معه في السيارة، لو!
وتعصف برأسها النوبة التي تميل بها إلى السقوط، ويصحبها الخيال والهذيان، وهي نوباتٌ حقيقية وصفها البروفسور بتير الأستاذ بجامعة بوردو، وحلَّل ظروفها في دراساتٍ دقيقة.
وتبدأ الرحلة التي تخيَّلتها! فهي تعيش في حلمٍ قديم بُعِث في نفسها!
نعم، كانت حالمة، فسافرت وذهبت إلى الجبل كأنها تُنفِّذ برنامجًا أو تُمثِّل دورها في قصة. فإذا ما اشتدَّت بها النوبة فقدت صوابها، ونسيت كل شيء، فخارت قُواها وراحت تهذي، وفي تصوُّرها دائمًا ذلك الرجل الذي تنشُده، والوحيد الذي رأته؛ الرجل الأسمر، صاحب العيون الزرقاء والوجه المليح والملابس الأنيقة القاتمة.
هذا هو شرح ما حدث للفتاة كما فسَّره طبيب النفس، وما زالت بين يدَيه يُعالجها، وستُشفى من نوبتها كما شُفِيت من قبلها كثيرات.
ونذكُر بهذه المناسبة أنه قد حدث في القرن السابع عشر أن انتشر في فرنسا وباءٌ بين النساء، وبخاصةٍ الراهبات اللائي أثَّر على عقولهنَّ الجوع الجنسي، فمضين يتَّهمن الرجال، وذهب ضحية اتهامهن كثيرٌ من القسس.
ونذكُر الحادث التالي الذي وقع في إحدى مدن الشمال في فرنسا. فقد تقدَّم إلى دائرة البوليس يومًا ثلاث فتيات، واتَّهمن رجلًا قالوا إنه كان يتنزَّه في الغابة، هدَّدهن بالمسدَّس ليعتدي عليهن.
وأسرع رجال البوليس إلى الغابة، فعثروا على الرجل، وهو موظف بوزارة المالية يقوم بنزهته اليومية. وقد دُهِش حين شاهد الفتيات يهربن لمجرد رؤيته. أما المسدَّس الذي زعمن أنه هدَّدهن به، فلم يكن إلا غليونه أسنده بيده إلى فمه.
ولما وضح الأمر للفتيات كنَّ أسبق الحضور إلى الضحك من المهزلة التي يُصوِّرنها.
وبحث القاضي، وكان مهتمًّا بعلم النفس، عن سبب هذا التصور، فوضح له أن إحدى الفتيات، وهي عاملة على الآلة الكاتبة عند أحد المُحامين، نسخت قبل حادثة الغابة بأيام موضوعًا لدعوى اعتداءٍ جنسي بإكراه، فعلِق ذلك في ذاكرتها، وترك فيها أثرًا عميقًا، فقرأته وأعادت قراءته، وقصَّت موضوعه على صديقتَيها.
وبعد هذا كان كافيًا أن تُفاجئهنَّ حركة رجل في الغابة وهنَّ تحت تأثير قصة الاعتداء الجنسي بالإكراه، فتحدث هزة الأعصاب عند الفتاة الأولى، وتتبعها الاثنتان بالعدوى، فيَعدُون خائفات. فالخيال وأثر القصة العميق يُصوِّران لهنَّ أن غليون الرجل ليس إلا مسدَّسًا مُشهَرًا عليهن بغيةَ الاعتداء على عفافهن.
أما الرجل فإنه لم يتحرك من مكانه، مع أنهن زعمن أنهن رأينه يهجم عليهن، ورأين المسدَّس مصوَّبًا إليهن.
كل هذا من فِعل الخيال القوي الذي يتسلَّط على الفتيات المُحافظات.
وهذه قصة فتاة أخرى في الثانية عشرة من عمرها، اتَّهمت مخدومها، وهو رجلٌ واسع الثراء، بأنه اعتدى عليها، وأبانت في شكواها تفصيلات لا تترك مجالًا للشك في إدانة الرجل.
ولكن الحقيقة وضحت؛ فقد قرَّر الطبيب الشرعي أن الفتاة عذراء لم ينلها أي اعتداء.
وإنما انعكست في ذهنها قصصٌ كانت تسمعها من صديقة لها أكبر منها سنًّا.
اضطرب خيال الطفلة التي لم تتجاوز اثني عشر عامًا، فتصوَّرت تفاصيل القصص المُثيرة، ووجَّهتها إلى مخدومها زاعمةً أنه ارتكبها معها.
وقد اعترفت أمام القاضي وهي تبكي، وأنَّبت نفسها، وطلبت الصفح من سيدها وهي تُقبِّل يدَيه.