أثر الحرب في الإجرام
وتتأثَّر الجريمة بالحروب، فتنطوي تلك الظاهرة الاجتماعية تحت قانون العرض والطلب كما ردَّد ذلك الفيلسوف تارد، فتكثر أنواع من الجرائم تقتضيها الظروف الطارئة، أو بتعبيرٍ آخر يشتدُّ الطلب عليها، وتصطبغ أفعالٌ ما كان يدور بخلَدِ أحدٍ أن تصطبغ بصبغة الجريمة، ويُلابس الجريمةَ بصفةٍ عامة صفةُ المُبالغة في الأداء أو على الأقل الأداء الإجماعي.
والعقاب، وهو العنصر الثالث من عناصر الإجرام، يظهر أثر الحرب واضحًا عليه في تلك النظرة الحازمة التي تُوليها السلطة العامة بعض الجرائم، وارتفاعها بدرجات العقاب في بعض الحالات وبعض الظروف إلى درجةٍ غير متصوَّرة في الظروف العادية.
وسنبدأ بشرح أثر الحرب في المُجرم، وسنُحاول الوصول إلى ما وراء العرض الظاهر لصانع الجريمة مُقتفين دخيلة نفسه.
يصدُر المُجرم في جريمته عن بواعث تُحرِّكه، وعن بيئةٍ اجتماعية تُساعد في تكوين هذه البواعث لديه. وفي الظروف العادية تعمل البيئة عملها في تكوين البواعث الخاطئة؛ فهذا شخصٌ يُولَد في أحضان الفقر، فتدفعه الحاجة وأخلاط السوء إلى ألوان من الإثم والجريمة. وهذا حدثٌ من أقاصي الصعيد يُقتَل والده، وتعمل البيئة الحارَّة التي تغلي بالانتقام عملها في نفسه، ويضجُّ بشماتة الناس وتعييرهم، فتنمو فكرة الانتقام عنده وتترعرع إلى أن يُنفِّس عنها بالطريق الذي يختاره؛ وبذلك ينخرط في سلك المُجرمين.
وفي الحرب تزداد البواعث الموجودة أصلًا، والتي تُحرِّك الشخص لارتكاب الجريمة، جلاءً ووضوحًا وقوة؛ فطبيعة الطفرات التي تُلازم الحروب، وترتفع بأشخاص من الفقر إلى الغنى العريض، هذه الطفرات الواسعة تصلح حافزًا ضخمًا لدى كثير من الأشخاص على ارتكاب جرائم الأموال، وتُوفِّر في نفوسهم عنصر المُقامرة التي قد يكون من نتائجها فيما بينهم وبين أنفسهم استواؤهم على عرش المال إن كفلت لهم حظوظهم النجاة من مُعقبات فعلهم. فمثلًا في جرائم الأموال، وهدف الشخص فيها وقصده الأول الحصول على مالٍ مملوك للغير بطريقٍ غير مشروع، يزداد الدافع على ارتكاب هذه الجرائم في أزمان الحرب وضوحًا وقوة، فيدفع المُجرمين على اجتراح مثل هذه الأفعال دفعًا أشد عنفًا وأكثر جلاءً من أزمنة السِّلم. وهذا ما ظهر فعلًا في عدد من المُجرمين؛ فكثيرٌ من موظفي الحكومة الذين كانوا في مدة الحرب يحتكُّون بحكم عملهم بالتجار يرون بأعيُنهم الربح الذي ينعم به هؤلاء، فيُعمِلون أذهانهم في مُقارناتٍ خاطئة بين حالتهم وحالة هؤلاء المجدودين، وكثيرًا ما أنتجت هذه المُقارنات لدى بعضهم بواعث على الجريمة، فتُولِّد حالة الموظف المالية، وما يتوقَّعه لنفسه من مستقبلٍ تعِس، وما يرى عليه التجار الذين أسعدهم الحظ، كل هذا يُولِّد عنده رغبةً حائرةً عاجلة في الربح، فيسعى نهمًا وراء المال، ويشعر بجوع مادي هو أول درجات الجريمة عند ضعاف النفوس. وقد وقعت طوائف مُتعددة من الموظفين في المحظور بسبب هذا، وأُضيف إلى السجون شبابٌ يانعٌ سلبته الرغبة الجامحة في الاغتناء نعمة الحياة الشريفة. وفي غير دوائر الموظفين كثيرون من ضعاف النفوس أذهلهم الغنى المُفاجئ الذي حلَّ بغيرهم، فتولَّدت عندهم رغبة التسابق المُندفع الذي لا يعرف الهوادة ولا يعرف القيود، خلقيةً كانت أو قانونية أو اجتماعية، وولَّدت هذه الرغبة بدَورها باعثًا جامحًا على الاغتناء ولو كان عن طريق الجريمة. فهذه الطفرات الواسعة التي ولَّدتها الحروب تُعتبر مسئولة شيئًا ما عن أشخاصٍ عديدين وقعوا في الجُرم، وما كانوا ليقعوا فيه لو لم تسرِ الظروف على هذا النحو.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن بيئة الحرب تُغيِّر من نظرة بعض الأشخاص إلى المعايير الخلقية التي تواضَع المجتمع عليها، ومن مُقتضى هذه المعايير إدخال طائفة من الأفعال في عدد من الجرائم. والملحوظ أن الأخلاق تنهى عن الجريمة أيًّا كان لونها؛ إما لأن اقترافها خطأٌ خلقي في ذاته كالسرقة والاغتصاب، وإما لأنها مُجافية — وإن لم تكن مُجافاةً تامة — لقواعد الأخلاق كجرائم الإهمال؛ فإن في ارتكابها تعريضًا للمركز الذي يحرص الرجل المحترم على التمتع به في المجتمع، والحرب تؤثِّر في هذا الوضع المُريب الذي يُحيط بالجريمة، فتكاد تخرج بها في نظر بعض الأشخاص عن دائرة الخطيئة إلى دائرة الأفعال المشروعة. ففرص الاغتناء الواسعة، وموجات الأموال التي تُنفَق بغير حساب، وعمل الظروف غير المفهوم في توزيع الأموال على أشخاص دون آخرين، وزيادة الاعتقاد أن الحرب فرصة لا تُعوَّض للاغتناء لا يكون وراء تركها إلا الندم؛ كل هذا يُغلِّب في بعض النفوس رغبة انتهاز الفرصة، ويُلبِس الجريمة ثوبًا من أثواب المحاولات والكفاح في الحياة لا أكثر، وتختفي تدريجيًّا المعايير الخلقية تحت هذا الستار، فيصبح الشخص المُقدِم على الجريمة في نظر نفسه ليس أمام عمل مشروع أو غير مشروع، أو عملٍ ينال من مركزه الاجتماعي أو لا ينال منه، بل أمام اختيار الفقر أو الغنى، انتهاز الفرصة أو تركها، ولا شأن للأخلاق في هذا الموقف، ولا محل لرقابة الضمير. ويندفع وراء هذا التصور الخاطئ مُستعينًا بكل وسائل التسويغ، إلى أن يصل بينه وبين وجدانه إلى أن مهارة الشخص في انتهاز الفرصة، وأن طعام الساعة هو عقل الساعة. ولا تترك له عجلة الحرب الهوجاء فرصة للتأمل والتدبر في أوهامه وأخطائه.
في إحدى القضايا سئلت فتاةٌ اندفعت في تيَّار الفساد عن حياتها قبل الوقوع في الرذيلة، فأجابت بأنها كانت خادمة. ولما سئلت عن سبب إيثارها عملها الجديد على القديم، وهو يمتاز بطهارة المسلك، أجابت بأنها خرجت من المقارنة بين الماضي والحاضر إلى أن في الحاضر يُسرًا وسهولة في سُبُل الرزق، ويُسرًا وسهولة في تجميع المال، وتفويت مثل هذه الفرصة قد يدعو إلى ندم العمر كله. وظهر أيضًا أن بعض الموظفين الذين انزلقوا إلى الرشوة كان يُساورهم شعورٌ خفيٌّ أن فعلهم هذا لم يكن إلا إقامة للعدل بينهم وبين غيرهم من المجدودين بسبب الحرب، وإصلاحًا للتوزيع الذي قامت به المُصادفات بغير حساب، وهي علةٌ مفهومة في نظرهم، بل إن كثيرًا من الذين اقتُطعت منهم مبالغ الرشوة ليذكُرون أن هؤلاء الموظفين كانوا يُصرِّحون لهم بذلك دون مُواربة، مُوضِّحين أنه ليس غريبًا ولا نابيًا أن يخصَّهم شيء ممَّا ينالون من أموالٍ طائلة. ومن ذلك يبدو مقدار تأثُّر المعايير الخلقية بالحروب، ومقدار مُزاحمة الفرص البرَّاقة، وهي كثيرة جدًّا في زمن الحرب، للتراث الخلقي، ومقدار تداعي مبادئ الأخلاق أمام رغبة جمع المال.
هذا هو أثر الحرب في صانعي الجريمة، وهذا هو المدى الذي يتأثَّر به المُجرم. وأما أثر الحرب في الجريمة فيتعيَّن أن نبدأ قبل الكلام عنه بتعريف الجريمة.
يُعرِّف رجال القانون الجريمة بأنها كل فعل أو امتناع يُقرِّر له القانون عقابًا. والمفهوم بداهةً أن القانون عندما ينهى عن فعل أو امتناع يستهدف في ذلك مُقتضيات الزمان والمكان، فما يُعتبر محرَّمًا في وقت من الأوقات أو ظرف من الظروف قد لا يُعتبر كذلك في وقتٍ آخر أو مناسبةٍ أخرى.
والمجتمع بحكم غريزته في المحافظة على نفسه دائم اليقظة، ويتحرَّى ما يُهدِّد كيانه فينهى عنه، ويُوجِب الأفعال التي يراها لازمة للمحافظة عليه، وأوقات الحروب أشد الأوقات تهديدًا لسلامة المجتمع؛ ومن ثَم تزداد حسَّاسيته، فيرصد العقاب في أفعالٍ مُتعددةٍ أحسَّ بخطرها واضحًا. والحرب التي مرَّت بنا أرَتْنا بوضوحٍ ذلك الحرص وتلك اليقظة التي تُلابِس المجتمع في المحافظة على نفسه؛ فقد نهى عن أفعال وهو لا يبغي من وراء نهيه إلا تلبية رد الفعل الجديد الذي وضعته فيه ظروف الحرب قهرًا.
أحسَّت الحكومات منذ البداية بأطماع الطامعين، ورأت شبح الجوع والغلاء يُهدِّد كيان الشعوب، ورأت الميزان يختلُّ بين مختلف الطوائف، ورأت توثُّب بعضها لبعض، فاستجابت لذلك كله، وأدخلت أفعالًا معيَّنة في باب المحرَّمات، وقرَّرت لها عقابًا، ووُضِع الاتجار تحت الرقابة، وأُقيمت له حدودٌ اعتُبرت مُجافاتها جُرمًا، وحُرِّمت الأفعال الكثيرة لضمان تموين الشعوب، وأخرى لضمان سلامة الدولة في أعمالها الحربية. وصفوة ما تقدَّم أن أفعالًا كثيرة انسحب عليها ثوب التحريم بسبب الظروف الطارئة؛ ومن ثَم زاد عدد الجرائم زيادةً ملحوظة.
وفيما عدا الجرائم التي نشأت لأول مرة بسبب الحرب، فقد اختلَّ التوازن اختلالًا واضحًا بين الجرائم المحرَّمة أصلًا في زمن السِّلم، فبينما دعت ظروف الحرب إلى زيادة نوع معيَّن من الجرائم بقيت أنواعٌ أخرى في حدودها الطبيعية. ويصحُّ أن نستهدي هنا بنظرية الفيلسوف تارد في إخضاع الإجرام لقانون العرض والطلب؛ فقد اقتضت ظروف الحروب، وتجمُّع الجند في المدن لقضاء فراغهم، والتماسهم الراحة عن طريق اللهو، وعدم اطمئنانهم على حياتهم، ممَّا يُقلِّل حرصهم على المال، اقتضى كل ذلك زيادة عدد الجرائم الخلقية وجرائم الأموال زيادةً فاحشة؛ فوسائل تصيُّد المال ميسورة بالطُّرق غير المشروعة. فقام هيكلٌ ضخم من جرائم مُتعددة هدفُها الأول ابتزاز أموال هؤلاء الجنود، وفي هذا الهيكل زادت الجرائم الخلقية وجرائم السرقة زيادةً ملحوظة. ودعا تجمُّع الجيوش، وكثرة ما تُنفِقه، وانتشار الجنود، وقضاؤهم حاجاتهم، وكَوْنهم جنودًا، إلى حرص التاجر وجشعه، فكثرت جرائم غش البضائع. ومجرد مُطالعة الإحصائيات الرسمية يؤيد ما سبق أن ذكَرنا من اختلال موازين الجرائم، وازدياد بعضها ازديادًا واضحًا.
والحرب تُعتبر بيئةً صالحة لنوع من الجريمة يستتر دائمًا تحت ستار البطولة، وهو الجريمة التي تُوجَّه ضد الدولة، والتي تصطبغ بصبغة المُغامرة التي يقوم بها المُغامرون الطامحون. فجرائم الخيانة وجرائم الاتصال بدول الأعداء والمُراهنة الإيجابية العملية على مصاير الدول، كل هذه الأفعال تظهر غالبًا في أيام الحروب، ويقوم بها أشخاصٌ تضيق صدورهم بالمطامع الواسعة والآمال العريضة، وهم في الغالب من الطوائف الممتازة ذهنيًّا، لكن شدة أثرتهم هي التي تدفعهم إلى سلوك هذا السبيل.
وهناك أثر للحروب ينسحب على الجريمة بصفةٍ عامة، فالعنف والتنظيم الذي يُلابِس الحرب يصبغ الحياة كلها، ومن بينها الجريمة، بهذه الصبغة، فهي تتخذ شكلًا منظَّمًا تُوحي به عقلية الحرب والميدان، فتُنظم العصابات للسرقات وللنهب ولابتزاز الأموال بالطُّرق غير المشروعة، وتجمُّع هذه العصابات وتنظيمها يؤدي بها إلى شيء من الثقة والجرأة؛ ومن ثَم تنشأ الجريمة التي تؤدَّى بشكلٍ إجماعيٍّ عنيف.
هذا هو أثر الحرب في الجريمة، وهذا هو اللون الذي تصطبغ به. أما أثر الحرب في العقاب، وهو العنصر الثالث من عناصر الإجرام كما سبق أن أوضحنا، فيمكن تلخيصه في زيادة حساسية المجتمع في الحفاظ على نفسه، فيصدر من العقوبات ما يكون رد فعل للعنف الذي يبدو من المُجرم والاتساع في الجريمة. فالأثر عبارة عن عنف يُقابل عنفًا، وشدة تُقابل شدة؛ ومن ثَم ترتفع العقوبات، ويوجد القضاء العسكري بإجراءاته الصارمة وشدة أخذه للجناة، وما هذا كله إلا كما أوضحنا استجابةً للظرف الجديد؛ ظرف المُبالغة والجنون في كل شيء. هذا هو أثر الحرب في الإجرام أحد مظاهر الحياة الاجتماعية، وهو كما أوضحنا اندفاع من المُجرم إلى آخر مدًى تُطيقه إرادته الإجرامية، مع تبرير ومُغالطة ترمي إلى تسويغ الجريمة، واتساع واختلال في ميزان العمل الخاطئ، ويقظة وحرص واستجابة من جانب الحكومات لهذه الدواعي التي تُهدِّد كيانها.