العقدة النفسية
ليس من شك في ما ﻟ «الشعور» و«اللاشعور»، أو قل «العقل الواعي» و«العقل الباطن»، من أهمية عند علماء النفس، كل منطقة من هاتَين المنطقتين في عملية التفكير الإنساني؛ ذلك أن «الشعور» ليس إلا المنطقة السطحية في عملية التفكير. أما معظم دوافع التفكير البشري، وأهم الأسس التي تتحكَّم في سلوك المرء وتصرفاته، فمردُّه إلى «اللاشعور»؛ تلك الخِزانة الهائلة التي يحتفظ الإنسان فيها على وعي منه بكل غرائزه وذكرياته وتجاريبه؛ ممَّا دعا «فرويد» — واضع علم النفس الحديث — إلى القول بأن «العقل الباطن» هو أصل كل نزوع نفسي؛ أي إنه هو الذي يُوجِّه الإنسان في تصرفاته، وإن بواعثه هي التي تتحكَّم في سلوكه.
ذلك أن شواغل النفس التي لا يقوى الإنسان على مُواجهتها جِهارًا يُنحِّيها من طريقه جانبًا، فيتشاغل عنها ويتناساها هربًا منها، ويتخيَّل أنه بذلك قد تخلَّص من هذه الشواغل؛ غير أنها تظل قابعةً ساكنة في قرارة «عقله الباطن»، تتحيَّن الفرص للإعراب عن نفسها؛ وذلك بالهتاف هتافًا خفيًّا مُتواصلًا في أذن صاحبها بأن يأتي من الأعمال ما فيه راحتها وإشباعها، وأن يكفَّ عن الأعمال التي لا تُوائمها ولا تجد راحة فيها. وعلى ضوء هذه الحقيقة العلمية، أمكننا تفسير كثير من تصرفاتنا التي تصدُر في الظاهر على غير وعي منَّا أو بغير إرادتنا؛ فإن هذه التصرفات ليست في الواقع إلا صدًى واضحًا لتلك الأصوات الحبيسة التي نكتمها في أعماق نفوسنا، نُحاول دفنها هناك والتخلص من سماع نباحها المُزعِج!
انظر مثلًا إلى ذلك الرجل المهذَّب الذي جلس إلى مائدة الطعام في وليمةٍ جامعة، فجلس تجاهه زميلٌ له كان هو لا يُطيق في قرارة نفسه أن يراه أو يُجالسه؛ لأنه يكرهه بسببِ إهانةٍ بالغة لحقته منه، ولكن للمجتمع آدابه وتقاليده، وللحياة أوضاعها وضروراتها؛ فهو لذلك يرى في زميله هذا صورة العدو الذي قال عنه الشاعر إنه «ما من صداقته بد»، فيُجالسه ويُطاعمه ويُحادثه ويُسائله ويستجيب له، وهو في كل ذلك يتتبع نداء «العقل الواعي» الذي يدعوه إلى نسيان إساءات زميله إليه والتغاضي عنها، وصرف النظر عن الثأر لنفسه منه؛ إما لأنه لا يقوى على ذلك، أو لأنه يخشى عاقبة مثل هذا التصرف على نفسه، كل ذلك نتيجة تدبير «العقل الواعي» وتفكيره. أما «العقل الباطن» فإنه لا يفهم هذا المنطق، ولا يعرف عن العداوة إلا أنها شعورٌ ينبغي الإفصاح عنه فورًا بالعمل على تحطيم العدو، وإزالته جملة واحدة من الطريق. ويُلاحظ الإنسان أن هذا هو أسلوب التفكير البدائي الهمجي الذي لم تصقله الحياة الاجتماعية الراقية باصطناع المُلاينة والمُجاملة والمُداراة؛ حتى تستقيم بين الناس طرائق المعيشة، وحتى يدوم بينهم ذلك التعاون اللازم للحياة المستقرة، ولكن انظر بعد ذلك إلى هذا الزميل وهو يطلب إلى صاحبنا في أدب وابتسام أن يتفضَّل بمُناولته ملعقة مثلًا ممَّا أمامه، واعجبْ من أن صاحبنا يُسرع في أدبٍ جم وابتسامةٍ عريضة إلى أقرب سكين، فيتناولها ويُقدِّمها على غير وعي منه إلى زميله، وهو لا يحسُّ بأن «عقله الباطن» قد خانه، وكشف عن مكنونات نفسه حين دفعه دفعًا إلى تقديم هذه السكين بدلًا من الملعقة المطلوبة. والتفسير واضحٌ ظاهر؛ فإنه مهما يكن من يقظة العقل الواعي، ومهما تكن قوة تماسُكه، ومهما يكن مبلغ تأثُّره بآداب المجتمع وأوضاعه؛ فإن من ورائه تلك القوة الطاغية الأخرى؛ قوة «اللاشعور» أو العقل الباطن؛ تلك القوة الجبَّارة المُتربصة الحبيسة التي لا تفتأ تدور في مجاهل النفس حول نفسها، تتحسَّس مَنفذًا تنفُذ منه إلى ظاهر الحياة، حتى إذا سنحت سانحة لم تتردَّد في إثبات وجودها والتنفيس عن مكنوناتها. وصاحبنا الذي ننظر إليه في هذا المثال يُسرُّ العداوة لزميله الذي جمعت بينه وبينه هذه المأدبة، ويودُّ فيما بينه وبين نفسه لو استطاع أن يتخلَّص منه ويقضي عليه، ولكن هذه الخاطرة ليست ممَّا يُسيغه المجتمع المُتحضر، ولا هي من أساليب الحياة الراقية، تمقُتها التقاليد ويُعاقِب عليها القانون، ويخجل منها المُواطن الصالح؛ ولكل ذلك إذ ينفر من هذا الخاطر، ويُشيح بوجهه عنه، ويذوده عن عقله الواعي بيدَيه، ولكن نظرًا لأن الإنسان لا يتخلَّص من رغباته وميوله وغرائزه بمثل هذه السهولة، فإن هذا الخاطر يرسب في قرارة «اللاشعور»، ويقع في ذلك الجُب الذي يعجُّ بكل مخوف مرهوب من نوازع النفس وميولها، أو بكل ممقوت مرذول من خوالجها، فإذا حان الحين وأُتيحت الفرصة برَز من مَكمنه، ووثب من كهفه المُظلم على غير وعي من صاحبه، فوضع السكين في يده بدلًا من الملعقة، كأنما يريد أن يقول له: «إن هذه السكين هي ما يجب أن تُقدِّمه لهذا الزميل المكروه المرذول، فأجهِزْ بها عليه بدلًا من أن تضع نفسك في خدمته فتُقدِّم له ما يريد.»
ذلك أثر من آثار «اللاشعور» في عمل «الشعور». وقد رأينا في هذا المثال أن التعبير الذي اصطفيناه «اللاشعور» كان تعبيرًا ماديًّا واضحًا اعتاد الناس أن يُسمُّوه — تأدُّبًا منهم أو جهلًا بحقيقته — «سهوًا» أو «خطأً غير مقصود»، في حين أنه في الواقع هو عين المقصود وجوهره. على أن النكبة الحقيقية تأتي عندما تنزوي إحدى الرغبات المكظومة في غياهب النفس تحت ضغط شديد من وعي صاحبها؛ فإن التنفيس عن مثل تلك الرغبات يُلطِّف حدَّتها ويذهب بقسوتها. أما كَبْتها والتشدُّد في إخفائها، فإنه يُكسِبها عنفًا وضراوة لا قِبل للإنسان باحتمالها، فتبقى تلك الرغبات الحبيسة في باطن النفس؛ لتُرسِل جمعها من حين إلى حين عن طريق سلوك الإنسان وتصرفاته الظاهرة، أو لتتَّخذ للتعبير عن وجودها صيغةً رمزية قد تتشكَّل في شكل علة من العِلل، تستطيع تلك الرغبات بواسطتها أن تُحقِّق شيئًا من أغراضها. وعندما تتعقَّد حالة الإنسان على هذه الصورة يُقال عنه إنه قد انعقدت في نفسه «عقدة»، وإنه أصبح لا بد لحل هذه «العقدة» من الوصول إلى منطقة «اللاشعور»، والتنقيب في مكنوناتها وبين محتوياتها عن تلك الرغبة الحبيسة التي تطوَّرت إلى «عقدة»، ثم الخروج بها إلى منطقة الشعور لكشفها أمام «العقل الواعي»؛ كيما ينفضح سرُّها ويبطل سِحرها. وتُسمَّى هذه العملية في علم النفس الحديث بعملية «التحليل النفسي».
زعموا أن أديبًا كبيرًا من كبار أدبائنا وشعرائنا كان إذا حلَّ عليه المساء وغاب نور الشمس، أدركه انقباضٌ شديد تضيق له نفسه ولا تهدأ حتى يقوم فيسير في الطرقات هائمًا على وجهه ساعة أو بعض ساعة، ثم يعود إليه هدوءه رويدًا رويدًا حتى تستقرَّ حاله ويملك زمام نفسه من جديد، فيُجالس أصحابه ويُحادثهم ويسمر معهم، ويُداعب ويتفكَّه كما لو لم يكن به شيء منذ ساعة من الزمان. وكان لا يعرف هو لذلك تعليلًا، ولا يستطيع أن يفهم له سببًا معقولًا. وبقي على حاله هذه حتى أدركته الشيخوخة، ثم حدث أن جلس يومًا فتذاكَر مع بعض إخوان الطفولة أنه كان وهو صبيٌّ صغير قد خرج معهم في عصر أحد الأيام يلعب ويرتع، وأنهم ذهبوا به بعيدًا عن منزله، ثم لما فرغوا من لهوهم انصرف كل واحد منهم إلى أهله، وتركوه وحده ليعود كذلك إلى منزله، ولكنه لم يستطع أن يعود وحده لعدم معرفته الطريق، ولبُعدِ المكان الذي كانوا فيه عن المنزل الذي كان يسكنه، وأنه أدركه الغروب وهو في حيرته تلك، وشمل المدينةَ الظلامُ وهو لا يزال يضرب في طُرقاتها على غير هدًى، فجزعت نفسه وداخَله الوهم، وأحسَّ بأن شياطين الإنسان والجن تريد أن تتخطَّفه، واعتقد أنه ضائع لا محالة، وأنه لا سبيل له إلى لقاء أهله في ذلك اليوم أو إلى الأبد. واقترنت هذه المخاوف كلها في نفسه بساعة الغروب وغياب الشمس. وعلى الرغم من أن الله أدركه برحمته بعد ذلك بقليل، فألقى في طريقه من يعرفه ويعود به سالمًا إلى داره، إلا أنه ظل بقية عمره لا تنزل به هذه الساعة من النهار حتى يُصيبه مسٌّ من ذلك الضيق الذي ملأ نفسه في ذلك المساء الأغبر الملعون!
وكان تفسير هذه الظاهرة عند من عرفوها أن عاطفتَين اعتركتا في نفس هذا الأديب: العاطفة الأولى هي عاطفة الخوف الذي اعتراه في ذلك المساء بسبب بقائه وحيدًا في الطريق، وعدم قدرته على العودة وحده إلى داره؛ والعاطفة الثانية هي إحساسه بأن هذا الخوف لم يكن له ما يُبرِّره، وأن المجتمع ينظر إلى صاحبه نظرة زراية واستخفاف. وقد رأى صاحبنا بعقله الواعي أن يتجاهل ذلك الخوف ويتناساه؛ حتى لا يُعرِّض نفسه لزراية الناس واستخفافهم. وانقطعت الصلة بعد ذلك بين عقله الواعي وبين ذلك الحادث، وحسب أنه تخلَّص إلى الأبد من ذِكراه، في حين أن «اللاشعور»، الذي لا تفلت من قبضته صغيرة ولا كبيرة ممَّا يلقاه الإنسان في هذه الحياة، ظل مُتشبِّثًا بتلك الذكرى يُطلِقها عليه في حينها عندما يأتي المساء كل يوم، كما تنطق الأشعة السينية الخفية عن قطعة من الراديوم!
وفي مرةٍ أخرى أُصيبَ موظفٌ صغيرٌ حديث السن بشلل في ذراعه أعيا الأطباء أن يقفوا له على سبب، أو أن يُوفَّقوا إلى طريقة لعلاجه، وظل هذا الموقف التعِس على حاله تلك إلى أن تهيَّأت له الأسباب للاتصال بمن كان على علمٍ صحيح بأصول «التحليل النفسي»، فعرف من مناقشته والتحدث معه أنه في اليوم الذي نزلت به تلك الكارثة كان قد اختلف مع رئيسه في العمل خلافًا شديدًا، وأن هذا الرئيس كان قد استغلَّ مكانته في ذلك الحادث، فأطلق لسانه بالكلام القارص الجارح الذي لم يملك الموظف أن يردَّ عليه بمثله، وأنه في سَورة غضبه حدَّثته نفسه بأن يرفع يده ليلطم بها وجه رئيسه، ولكن منعه من ذلك ما كان يخشاه على نفسه وعلى مستقبله من أعقاب تلك اللطمة، فعاد إلى منزله مغمومًا كئيبًا، ونام ليلته حزينًا تعسًا، ثم استيقظ في اليوم التالي وذراعه مفلوجة بهذا الشلل الذي أصابه. وكان التفسير النفسي لهذا الحادث أنه حين وقع الصراع في نفس هذا الموظف بين الرغبة في الانتقام لكرامته من رئيسه الذي ألحق به تلك الإهانات البالغة، وبين إحساسه بالخطر الشديد الذي يتهدَّد مستقبله إذا هو ردَّ تلك الإهانات بمثلها؛ لم يرَ بدًّا من تغليب سلامة مستقبله على رغبته في الانتقام، ولكن هذا التقدير إن كان يُريح «العقل الواعي»، فهو لا يتَّفق مع مذهب «العقل الباطن» الذي يأبى إلا أن يأخذ الأمور بنواصيها، وإلا أن يأتيها من وجهها لا يُداورها ولا يُحاورها. فلمَّا آثر صاحبه السلامة على الانتقام، انزوت عاطفة الانتقام في حناياه، وتكوَّنت منها تلك «العقدة» التي رمز لها «اللاشعور» بذلك الشلل؛ ليدلَّ به على أن صاحبه أراد أمرًا لم يقوَ على تنفيذه. ومن عجائب «التحليل النفسي» أن ذلك الموظف لم يكَد يقف على هذا التفسير حتى انفرجت أزمته، وأخذت حاله تتحسَّن إلى أن ذهبت عنه نهائيًّا آثار ذلك الفالج المُبكر!
والخلاصة أن جوارح الإنسان الظاهرة لا تعدل شيئًا إذا قِيست بقُواه الخفية، وأن من ضمن تلك القُوى الخفية «العقل الباطن أو اللاشعور»، وهو ذلك المُستودَع الهائل الذي تتجمَّع فيه الرغبات المكظومة، والغرائز الحيوانية الضارَّة التي لا يرتضيها المجتمع، والمخاوف الكثيرة التي يُحاول الإنسان الهروب منها فتَبِين، وفي صور السهو والخطأ غير المقصود والأحلام، وإذا اشتهرت أصبحت عقدة داخل «اللاشعور». وممَّا يذكُره «فرويد» أن فتاةً ألمانيةً هستيريةً مُربيةً خائفة، اعترفت له بعد جلسات عديدة من مُحادثتهما في ماضيها، أنها كانت لها مُربيةٌ قاسية تناولت منها ماءً كانت الفتاة رأت الكلب يشرب منه، فتقزَّزت ومرضت بأعصابها، ولكنها شُفِيت بظهور هذا السبب.
ملخَّص العقدة النفسية
وعلى هذا تُلخَّص العقدة النفسية عند جلَّة علماء النفس، أن هناك عقدةً نفسية متى كان هناك مُشكِل داخل النفس يُحيِّرها ويُربكها ويُقلقها، يرجع سببه إلى حادثٍ نزل بالإنسان أو واجهه في طفولته أو شبابه أو كهولته أو شيخوخته، فترك أثرًا مؤلمًا أو مُخيفًا تبدو ذِكراه ما بين الفينة والفينة، أو حين يوجد ما يدعو إلى التذكُّر، كطُروء حادث مُماثل للحادث الأول المؤلم.
ويبدو أن في البيئات الجاهلة والبدائية والقديمة ذات التقاليد والسواق، وفي الأمم التي يفشو الحكام أو الوالدان والرؤساء؛ تتجلَّى العُقَد النفسانية.
أما الأذكياء وأما المشغولون والطماحون، فقلَّما تجد العُقَد سبيلًا إلى نفوسهم، وقلَّما يرجع الزعماء والعظماء والقادة إلى الخلف، بل هم إلى الأمام؛ ومن أجل هذا ليس لديهم الوقت لاستذكار الحوادث الأليمة واستظهار الآلام القديمة.
يقول ستيفان زفايج في كتابه «بلزاك»: «إن سبب شهرة هذا الكاتب الفرنسي الكبير الذي عُقِد له لواء القصة في القرن التاسع عشر، يرجع إلى «عقدةٍ نفسية» أثَّرت في شخصيته وتفكيره، ودفعته إلى كتابة تلك القصص التي خلَّدها التاريخ.»
فقد نشأت عقدته النفسية من المُغالاة في حب العظمة والتقرُّب من العظماء ومُجالستهم، وتملَّكت هذه العقدة «بلزاك»، وجعلته ينكبُّ على الكتابة، ويعمل ١٢ ساعة في اليوم الواحد، فأخرج قصصه التي لقيت نجاحًا جعل الناشرين يتسابقون في الحصول على الاستئثار بإذاعتها، فكانوا يدفعون له ثمن القصة قبل أن يكتبها.
وقد قال إيليا أرنبورج — الكاتب السوفياتي المعروف — على أثر زيارته لأمريكا في الشتاء منذ أعوام، قال بعد أن انتقد النظام الرأسمالي وعدَّد عيوبه: «إن ميزة الأمريكي العادي هي أنه لا يشكو من أية «عقدة نفسية»؛ فهو يشعر بأنه ينتمي إلى أمةٍ فتيَّة تحرَّرت من العادات والتقاليد، بل لم يكن لها عادات أو تقاليد تردُّها دائمًا إلى الوراء، وتعُوق تقدُّمها في هذا العصر الحديث.»