الطب والعدالة
قال جاك ستنيك في مجلة «فيوتشر» شيكاغو: ذهب ضابط الشرطة في إحدى مدن ولاية ماساشوستس من مقعده حين بدأت امرأة تقصُّ عليه ما رأت وهي في طريقها لزيارة جارٍ لها، فقد تعثَّرت في جثة وهي تسير في ظلام شارع ضيِّق من شوارع البلدة، وكانت المرأة تتحدث إليه في المسرَّة وصوتها يتلعثم رعبًا وفزعًا.
ولما خفَّ العسس إلى مكان الجريمة جمعوا الحقائق الآتية في وقتٍ وجيز:
كانت الرصاصة قد اخترقت قلب الضحية، ولكن لم يكن ثمةَ سلاحٌ قريب منه سوى مسدس في حجرة نومه التي تبعد ستين قدمًا عن جثته.
واعترفت المرأة أنها كانت معه حتى الساعة السادسة، وأنهما افترقا على ميعاد في أمسيةٍ مُقبِلةٍ قريبة، ثم روت قصةً قصيرة عن تعلُّقها بذلك الجار وما بينها وبينه من وشائج غرام، فاحتجزها ضابط الشرطة مُحتاطًا.
ولو أن شرلوك هولمز شهد هذا لأسرَّ إلى ظهيره واطسن بأن الأمر لا يعدو جريمة قتل عادية لا إبهام فيها؛ جثة رجل ليس بجانبها سلاح، ولا يُعقل أن يسير ستين قدمًا وفي قلبه رصاصةٌ اخترمته. وهذا بعينه ما عنَّ للمحقِّق، ولكن كان في الولاية شرلوك جديد لا يركن كلفه إلى الاستنتاج وحده، فهو رجل يتَّشح بأرواب جامعة هارفارد المُزركَشة، يُقيم في الدور الأعلى من بنايةٍ حجرية قد كُتِب على مدخله: «قسم الطب الشرعي». فإن البناية كلها جزء من كلية الطب بجامعة هارفارد، وهذا القسم هو الأول من نوعه في الجامعات الأمريكية، بل في جامعات العالم بأسْره.
ولم يكن سلاح شرلوك الجديد سوى مِبضع الجرَّاح وحشد من أدواته يشقُّ بها ستار الغموض، فيدين هذا ويُبرئ ذاك.
وقد أصرَّ المحقِّقون على إدانة المرأة، وكادت تتردَّى في الوهدة لولا أن أنقذها قرار العلم.
فقد أظهر التشريح ما يعجز شرلوك القديم عن تفسيره حتى بخير مَجاهره؛ إذ إن قلب الرجل كان سليمًا لم يُمَس، ولم يكن في موضعه الطبيعي من الجسم، حتى إن أبرع الرماة يُخطئه كهدف. وباستقصاء مجرى حياة الرجل قُبيل مصرعه ظهر أنه قتل نفسه بالمسدس الذي كان في مخدعه، ثم مشى قرابة الستين قدمًا؛ فإن الرصاص لم يُصِب قلبه الذي ظهر بالتشريح أنه كان في الجانب الأيمن من تجويف صدره.
وقد أعانت طرائق جامعة هارفارد العلمية على إجلاء غوامض أكثر من مئتَين من ألغاز الجرائم. وزعيم هذا القسم في الجامعة هو الدكتور موريتز الذي يلجأ إليه رجال الشرطة إذا وهنت عزائمهم تلقاء تعقُّد الجرائم وغموضها؛ فهو في تقديرهم شرلوك الجديد الذي نفض عنه غبار القيود البالية في بحث الجرائم، ووسَّع ذلك البحث إلى أقصى مدًى مُستطاع.
ومن أطرف الأمثلة على ما يستطيعه العلم إزاء الجريمة ما حدث حين قُبِض على شابٍّ يافع لقتله زميلًا له، فقد ادَّعى الشاب أنه كان يلعب بمسدسه حين انطلق منه الرصاص، ولم يكن القتل يدور بخلده. ولو أن المحقِّقين رأوا ثُقبًا واحدًا في الضحية لهان عليهم الأمر، ولكن كان أمامهم ثُقبان، فما استطاعوا شيئًا سوى دعوة الدكتور موريتز الذي أعلن بعدَ فحصٍ دقيقٍ أنها كانت رصاصةً واحدة حقًّا، ولكنها حين اصطدمت بجبهة الضحية انفلقت شقَّين؛ اخترق أحدهما المخ، وارتدَّ الآخر جانبًا، فأحدث ثُقبًا ثانيًا هو الذي ضلَّل المحقِّقين. وبذا انتشل موريتز وأعوانه رجلًا في ربيع حياته من وهدة السجون.
ويُحدِّثك هذا الرجل الوثَّاب عن قيمة جهود الطب في مُكافحة الإجرام، فيقول: «إن حالةً واحدة من خمس حالات للوفاة في الولايات المتحدة سببها القسوة والعنف، أو لها أسبابٌ أخرى لا يمكن إيضاحها. وفي كثير من الأحيان لا تستطيع العدالة أن تضع يدها على الحقيقة إلا أن يُعاونها طبيبٌ وراءه معملٌ كامل الأُهبة للأبحاث. وهل يستطيع غير الطبيب المجرِّب أن يحدِّد لك أسباب الوفاة، ويتعرَّف على شخصية الضحية حتى من بقايا تافهة؟ وهل غير الطبيب يستطيع أن يذكُر لك نوع السلاح الذي استُخدم في جريمةٍ ما وظروف الجريمة وأوصاف المُجرم، وهي أمورٌ ذات بال لم تحظَ بوافر من العناية حتى عهد قريب؟»
ومعمل الدكتور موريتز مكتظٌّ بالمهمات التي تُعينه في أبحاثه العلمية عن الجريمة؛ ففيه نوع من المَجاهر يُعِين على تحديد أنواع المواد الكيميائية مهما تدق كمياتها، وآلة التصوير تُعِين على تكبير المرئي ألفَين ومائتَي مرة، وأخرى تُعِين على التفرقة بين الألوان، وجهاز للأشعة فوق البنفسجية يجلو ما غمض من حالات التزوير، وكلها أجهزةٌ علميةٌ غاية في التعقيد، ولكن ألم يقل موريتز إن نصف الجرائم يمكنك أن تفضَّ أغلاقه بالبحث الطبي؟
وقد بلغ ذلك البحث أقصى دقته مع رجلٍ اتُّهم بذبح ضحيته فأنكر ذلك، ولكن سرعان ما اعترف وهو يجهش بالبكاء حين واجهته نتيجة تحليل أثر تافه من بشرة الضحية علِق بحذائه.
وهناك أيضًا لغز المُحامي نوكسون، وهو قانونيٌّ يُعتدُّ به في الولاية؛ فقد اتُّهم بقتل طفل له مشوَّه الخلقة لا لحزازة في نفسه، بل عن وحي الشفقة والرثاء له، وكانت أداة الجريمة سلك المِذياع المُكهرب، وقام مُحاميه يقول إن الوفاة حدثت بسبب إهمال مُراقبة الطفل. وترك المحقِّقون القول الفصل للدكتور موريتز الذي شرع يُجري تجاربه على الخنازير لشبَهِ طبيعة بشرتها ببشرة الإنسان، فقرَّر أن الحروق التي في جسم الطفل لا يمكن أن يُحدِثها مثل ذلك السلك في زمنٍ يقل عن عشرين دقيقة، وأُدين نوكسون تبعًا لذلك.
وقد يجد العلم قيمةً كبرى لأشياء تبدو لنا تافهة لا يؤبَه لها؛ فقد وجد رجال الشرطة جثة فتاة قد عدا عليها البِلى في غابةٍ كثيفة، وكان جل أنسجة الجسم قد ذهب، ولكن قد بقي عليها بعض الملابس، وحبلٌ حول عنقها يتصل بقيد في يدَيها.
ولما استُخْدِمَت الأشعة السينية في البحث أمكن تحديد قامة الفتاة وعمرها ووزنها، ولما أُعلن عن أوصافها في الصحف جاء أبواها يلهثان بحثًا عن فتاتهما.
ثم ثبت بعد ذلك أن حلقة الحبل حول عنقها كانت ضيِّقة إلى حدٍّ يكفي لخنقها، وظهر ذلك بتجربته على مائة وخمس وعشرين فتاة في نفس طول الضحية ووزنها، ثم أظهر فحص المِجهر نوع الحبل بالدقة، فعرف المصنع الذي أخرجه، وعرف المحقِّقون من أبوَيها أنها بارحت منزلها لثلاثة أشهُر قبل العثور على جثتها، وقرَّر الخبراء الزراعيُّون، بعد تقدير نوع الطقس من حرارة ورطوبة، أن جسد الفتاة ظل مُلقًى قرابة الثلاثة أشهر. وقد اعتصروا تلك الحقيقة من فحص الحشائش المُتعفنة تحت جثة الفتاة، ووضح الدافع إلى كل هذا بعد أن اكتُشفت عظامٌ دقيقة لجنين في أحشائها.
وانطلق رجال الشرطة يبحثون في كل مكان، حتى وضعوا أيديهم على شابٍّ كان للفتاة به صلة، وضاق عليه الخناق حين وُجدت عنده قطعة حبل تُشبِه ذلك الذي خُنِقت به الفتاة، وبهذا الحبل اقتيد الشاب إلى ظلام السجن.
وفي مرةٍ أخرى فتح الدكتور موريتز بتقريره أبواب القفص لزوجٍ آثم وُجدت زوجته طريحة في مطبخها، وقد وشم وجهَها خدشٌ كبير، وقرَّر الجيران أنهم سمعوا مشادَّة بين الزوجَين غداة مصرعها، فاعترف الزوج بكل ذلك، وزاد عليه أنه ضرب زوجته على وجهها ضربةً قوية، ولكن لم تطرحها أرضًا، ولما بارح بيته سمع صياح زوجته ونباحها بشتائم مُقذِعة.
وراح مُحامي الرجل يطرق أبواب موريتز زعيم الطب الشرعي بهارفارد. ولما خفَّ موريتز لفضِّ أغلاله قام بفحصٍ دقيق لجثة الزوجة، ظهر منه أن انفجار وعاء دموي بالمخ نتيجة الهياج الشديد هو الذي فتك بها، ولم يكن الزوج مُخطئًا في شيء.
وقد أثارت أبحاث هارفارد هذه دهشة الكل حين حُلَّت مُعضِلة بنت في الثالثة من عمرها سقطت على الأرض فلم يُصِبها سوء تقريبًا، غير أنها ما لبثت أن وقعت فريسة العلة ثم قضت؛ فقد كشف البحث الدقيق عن حقيقة سبب هلاكها، وكان شيئًا لا يطرأ لإنسان على بال؛ إذ لم يكن سوى طبقةٍ رقيقة من الرصاص اعتاد أطفال البيت اقتلاع رقائق منها تُلوِّث أيديهم بذرَّات المعدن، ثم تأخذ طريقها إلى أجوافهم، فتنفث فيها السم. وكانت سقطة تلك الصغيرة سببًا في إنقاذ بقية أطفال المنزل.
وجلس رجل على مائدة غدائه، وكان مُدمنًا مُفرِطًا في الشراب وأَكُولًا نهمًا، فالتقم قطعة لحم يريد ازدرادها دفعةً واحدة، وما لبث بعدها أن قام يتنفَّس بصعوبة، ثم ألقى نفسه على سرير نومه في الدور العُلوي من منزله. ولما صعدت إليه زوجته ألْفَته هامدًا. وظنَّ رجال الشرطة أن الأمر لا يعدو شرِهًا قتل نفسه بأكلة، ولكن أقبل طواف البريد بعد يومَين يحمل خطابًا: «أمسِكوا بتلابيب الزوجة؛ فقد قتلت بعلها بالسم.» ولم يُقِلها من العثرة إلا قول المعمل؛ فإن قطعة اللحم التي التهمها الزوج سدَّت عليه منافذ الهواء حتى ذهب.
وجاءت زوجةٌ تشكو برودة في عواطف الزوج، وتتهمه بمحاولة التخلص منها بكل وسيلة. وفي ذات يوم وُجدت الزوجة هامدة في فراشها وهي في خير ملابسها، وسرعان ما أطبقت البراثن على عنق زوجها، ولم يُنقذه من الشقاء إلا قرار قسم الطب الشرعي بجامعة هارفارد؛ فقد أعلن أن كمية السم ونوعه لا يدعان شكًّا في أن المرأة قتلت نفسها، فهو بلونه ورائحته سهل الاكتشاف على من لا يودُّ قتل حبلى حياته. وكانت الزوجة تقصد من قتل نفسها إيقاع بعلها في الشرَك بعد أن أبلغت الشرطة عن سوء نيته وشذوذه المزعوم.
هذه الجهود التي بذلها قسم الطب الشرعي بجامعة هارفارد بلغت مبلغًا رائعًا من جزالة الفائدة رغم أن عمره لم يتعدَّ الخمس سنوات.
ويأمل العلَّامة موريتز، زعيم ذلك القسم، أن ينتشر هذا النوع من البحث في جامعات العالم؛ حتى يُتيح العلم للعدالة أسلحةً جديدةً ماضية، تُعِين المجتمعات في كفاحها العنيف ضد الإجرام.