الغيرة
قال أحمد أمين بك في مجلة الثقافة: «أول ما يخطر على البال في الغيرة، غيرة النساء على الرجال، والرجال على النساء. وللناس الحق في ذلك؛ فمظهر الغيرة في هذا أروع مظهر وأشده وأقساه، حتى ليبلغ الأمر بالغيرة إلى حد القتل كما في كثير من حوادث الصعيد. وكثير من العائلات يشيع فيها الشقاء والتعاسة وقلق البال بسبب حية تسعى في البيت اسمها الغيرة. يتأخَّر الرجل عن موعده بعض الزمن لعمل له أو سمر مع أصدقائه، فيلعب الفأر في عب الزوجة، وتظن بزوجها الظنون: لعله تزوَّج، أو على الأقل صادَق، أو وقع في غرامٍ جديد. حتى إذا حضر، فالعتاب الحار، ومط البوز، وليُّ الوجه، والخصام أسبوعًا أو أسبوعَين. ومهما أقسم لها بأغلظ الأيمان فلا تُصدق، وتفتِّش منديله وتشم رائحة ثيابه لعلها تقع من ذلك على دليل الجريمة. ورحم الله صديقنا عاكف بك الشاعر التركي المشهور؛ فقد كان تجاوز سن السبعين، فإذا جاءت الساعة العاشرة استأذن منَّا في الانصراف؛ لأنه إن غاب عن ذاك قليلًا تأكَّدت السيدة زوجته التي تبلغ مثل هذه السن أيضًا أنه تزوَّج. والسيدة العصرية إذا خرجت مع زوجها إلى السينما أو التمثيل حاسبته على كل لفتة ونظرة، وإذا أطال نظرته إلى جهةٍ ما اتهمته بالمُغازلة، ولو كانت الجهة التي ينظر إليها خالية من كل جمال. وويلٌ له إن وجد سيدة في الطريق فسلَّم عليها وسلَّمت عليه؛ فهناك الداهية الدهياء، وهناك الأسئلة التي لا تنتهي: من أين لك هذا؟ ومن هذه؟ وكيف عرفتها؟ ولمَ لم تُخاصمها بعد زواجك؟ وهناك الحساب العسير على كل تصرُّف من تصرفاته في البيت، فإذا كلَّم خادمته بأدبٍ دبَّت الغيرة، وإذا جلست القطة بجانبه دبَّت الغيرة، وإذا تأنَّق في ملبسه دبَّت الغيرة، وإذا دق التليفون لعبت الظنون. والحياة عذاب في عذاب.
وقد تكون الغيرة من جانب الرجل كذلك، فلا يسمح لزوجته بالخروج إلا ورِجله مع رِجلها، ولا تشتري شيئًا إلا إذا اختاره لها، ولا تزور إلا بإذنه. ومن حين لآخر يدقُّ التليفون يسأل عنها ويتأكد من وجودها، وإذا تأخَّرت في الطريق عشر دقائق أكثر من المعتاد حاسبها حسابًا عسيرًا، وإذا وقفت في الشباك تشكَّك، وإذا بالغت في الزينة توسوس. والحياة عذاب في عذاب أيضًا.
ولكن ليس هذا كل ميدان الغيرة؛ فهناك ميادين أخرى تصُول فيها الغيرة وتجُول؛ فقد عزَّ على الشيطان أن تشقى العائلات وتهدأ المصالح الحكومية، فاخترع لعبةً تُشبِه الضرائر في البيوت، وسمَّاها «كادر الموظفين»، ونشرها في كل مصلحة وفي كل غرفة في المصلحة، فوقع في غرامها عشرات الآلاف من الموظفين، وشغلتهم عن كل ما يُسمَّى «إنجاز عمل» أو «تحقيق مصلحة للجمهور»، وأصبحت هذه اللعبة شُغْلهم الشاغل وحديثهم الذي لا يُمَل، ولم ينجُ منها أحد من ساعٍ في المصلحة إلى وكيل الوزارة. «فلانٌ أخذ درجة ولم آخذ، وفلانٌ نال علاوة ولم أنَل، وفلانٌ أخذ درجتَين في سنتَين ولم آخذ درجة في سبع سنين، وفلانٌ محسوب فلان ومُتزوج بنت فلان، أما أنا فلست محسوب أحد ومُتزوج بنت عمي. هل هو أكفأ مني، أو أذكى مني، أو أغْيَر على العمل مني، أو يحضر في المواعيد مثلي؟ أبدًا. وفلانٌ كل كفايته أن يتملق لرؤسائه وأنا رجلٌ صريح، وفلانٌ خدم الرئيس في مسألةٍ شخصية فرقَّاه، وأنا رجلٌ عزيز النفس لا أعرف غير عملي.» وهذا حديثه ليلًا ونهارًا، سرًّا وإعلانًا، في بيته إذا تحدَّث، وفي الترام إذا ركب، وفي السمر إذا سمر، وعلى الشراب إذا شرب، وفي الأحلام إذا حلم، ولم يسلَم من ذلك حتى من رُقِّي استثناءً؛ ﻓ «فلان رُقِّي استثناءً مرتَين، وأنا رُقِّيت استثناءً مرة، ولمَ لا أكون رئيس المصلحة وأنا أكفأ منه؟ ولمَ لا أكون وكيل وزارة وبعض وكلاء الوزارة من تلاميذي؟»
وهكذا لعب الشيطان لعبته، فخلق عشرات الآلاف من الضرائر، وحرَّك الغيرة في الوظائف، فكانت أكبر من مصيبة الغيرة في البيوت. وإذا كان في البيوت من يموت من سم الغيرة، فمئات من الموظفين يموتون حسرة على الدرجة، وكلهم يموت وفي نفسه شيء من الدرجة أو العلاوة.
ولكن لا ننسى أن الغيرة من ناحيةٍ أخرى نعمة على الإنسانية؛ فلولاها ما تسابق الطلبة في العلم ليكونوا الأوائل، ولا التجار في تجارتهم ليكسبوا الزبائن، ولا الأمم في ميادين العلم والصناعة والمدنية ليبلغوا أعز مكان، بل إن المرأة تغار على زوجها فتُحبه، وتعمل على ألا يفرَّ من يدها، والرجل الذي يغار على زوجته يُحبها ويجتهد في إرضائها، والموظف الذي يغار قد يجدُّ في عمله حتى لا تتكرَّر مأساته؛ فالغيرة ككل شيء في هذا الوجود نعمةٌ ونقمة.
أساس الغيرة حب التملك عند وجود المُزاحمة، فإذا ازدحم قوم على شراء شيء — كما في المزاد — دبَّت الغيرة عند الشارين، ودفعتهم الغيرة على التسابق والتزايد، ومن رسا عليه المزاد زالت غيرته لأنه تملَّك، ومن لم يرسُ عليه غار، وامتزجت غيرته بالغضب، ومنشأ الغضب العقبات التي صادفته في طريقه.
والأمر في المعنويات كالأمر في الماديات؛ فالزوجة تُريد أن تملك قلب زوجها فتغار، فإذا أحسَّت أن امرأةً أخرى تريد أن تملك قلبه — ولو كانت أمه — زادت غيرتها. وهذا هو السر في النزاع المستمر بين الزوجة والحماة، فقلب الرجل وُضع في المزاد، فإن نجحت الزوجة في اكتساب قلبه رضيت، وإلا ثارت وغضبت. والموظفون يغارون لتسابُقهم في حب تملك الدرجة، فمن أخذها هدأ، ومن لم يأخذها ثار وغضب. والطلبة يتسابقون في ملك الأولية، والتجار يتسابقون الأولوية، والأمم تتسابق لملك الصيت وحسن السمعة. وزعماء الأحزاب تدبُّ بينهم الغيرة؛ لأن كلًّا يريد أن يتملَّك قلب الأمة، ثم هم يتنازعون كما تتنازع الزوجة والحماة؛ يشترط هذا أن يكون رئيسًا وذاك أن يكون رئيسًا، ويزعم هذا أنه وكيل الأمة وذاك أنه وكيل الأمة. والقانون في جميع الحالات واحد، وهو أن أساس الغيرة حب الملك، فمن فاز هدأت غيرته، ومن خاب طارت ثروته.»
وقال عضو الأكاديمية الفرنسية: «الغيرة أنواعٌ مُتباينة كباقةٍ من الزهور المختلفة.» أي إن طُرُق الإحساس بالغيرة كثيرةٌ مُتنوعة. ولو أن المرأة عندما تقول «فلانٌ غيور» لا تُميِّز مُطلَقًا بين الزوج أو الخليل أو الصديق. فلو أن شابًّا اتخذ امرأةً مُتزوجةً خليلة له، ثم علم أن لها عشيقًا آخر غيره؛ لبدأت الغيرة تستولي عليه وتحزُّ في قلبه.
أما ذلك الشاب الذي يحب امرأةً شريفةً عسيرة المنال، ويُتيَّم بها لدرجة العبادة، لو حدث يومًا وعلم أن حبيبته اتخذت لها رفيقًا تُبادله الحب الشريف الأفلاطوني، لأصبح غيورًا إلى أقصى حد رغم اعتقاده بطهارة فتاة أحلامه، ورغم أنه يعلم تمام العلم أنه لا يملك محاسبتها على أعمالها، وليس له حق التصرف في عواطفها؛ لأنها ليست ملكًا له.
ويوم تلمس الحبيبة غيرة صاحبها تعرض عليه أن تُضحي بالآخر في سبيل إرضائه، ولكن كبرياءه تمنعه من قبول هذا العرض؛ لأنه كريم حتى في عواطفه. وهذا النوع هو الذي يُطلَق عليه «الغيرة القلبية».
وهاك مثلًا ثالثًا للغيرة؛ رجلٌ مُتزوج يحب زوجته حبًّا شديدًا كأيام شهر العسل، رغم مُضي خمس سنوات على زواجهما، يخرج الزوجان لحضور حفلة ساهرة راقصة، وفي أثناء الطريق تهمس الزوجة في أذن زوجها: «كم أودُّ أن أكون أجمل امرأة في الوجود لأُشرِّفك وأُسعدك يا عزيزي!» وتنتهي الحفلة بعد أن تنال الزوجة فعلًا إعجاب الجميع، وبالرغم من ذلك تجد الزوج في أثناء عودته إلى المنزل واجمًا كئيبًا، أتعرف ما سبب ذلك؟ إنه كان مُتألمًا أن يتأمل الناس عنق زوجته العاري، وأن يتمتَّعوا بجمالها، ويتمنَّوا لو ظفروا بها.
إن مجرد الإحساس، رغم وفاء الزوجة الأكيد، بعث في الزوج الغيرة المادية.
وتحضرنا في الغيرة الجنسية قصة الكاتب الهولندي اليهودي «باروخ اسبينوزا» الذي قام بعمل تجارب بواسطة العنكبوت، أثبت بمُقتضاها أن الغيرة ظاهرةٌ حسيةٌ كامنة حتى في الحشرات. ويُضيف أن الرجل الذي يتبيَّن خيانة خليلته له تضطرب نفسه، ويحزن قلبه ويتنازعه حبُّها في آنٍ واحد.
وبديهيٌّ أنه يوجد فرق من حيث قوة الغيرة وضعفها إذا كانت علاقتنا بالمرأة الباعثة على الغيرة علاقةً بريئة، ففي هذه الحال يستولي علينا شعور الاشمئزاز، وربما انتهى الأمر بنا إلى كرهها، وتنعدم الرغبة في الظفر بها.
أما إذا ظفرنا بها فعلًا فإن مُلاطفتها لمُنافسنا تذكِّرنا بما كانت تخصُّنا به من لطف ورقة ومُداعبة، ومجرد هذه الذكريات تزيد من تمسُّكنا بالمرأة. ولهذا تلجأ المرأة عادةً إلى هذه الوسيلة لاستعادة حبيب هجرها؛ لأنها بهذا تُثير عاطفته لدرجةٍ تدفعه إلى التصميم على انتزاع حبيبته من يد خصمه ومُنافسه، كما نُلاحظ ذلك في القصة التي يرويها ريموند كاسال.
أحب كاسال هذا امرأةً مُتزوجةً رائعة الجمال تنتمي إلى أسرةٍ كبيرة، وكان نوع عمل زوجها لا يسمح لها بمعرفة أوقات غيابه عن المنزل مقوَّمًا بالضبط؛ ولهذا كان كاسال مُضطرًّا إلى البقاء في داره يوميًّا من الساعة الثانية إلى السادسة بعد الظهر، ثم في المساء بالنادي حتى العاشرة، كل ذلك انتظارًا لرسالة من خليلة له تُحدِّد له فيها موعدًا للقائه، وكثيرًا ما كان ينتظر بدون جدوى؟ وكان الحبيبان يلتقيان نهارًا في أماكن مُتنوعة وغير مطروقة، أما في المساء فكان كاسال يُفضِّل لقاءها والاختلاء بها في منزل أحد أصدقائه، ويُدعى «روبير». مضت على هذه العلاقة ثمانية شهور طوال كانت كفيلة أن تملأه مللًا وضجرًا، لدرجةٍ جعلته يشعر بالزهد في هذه المرأة؛ نظرًا للقيود التي كانت تُلازم لقاءهما، فضلًا عن خلوِّ حبهما من العاطفة الصادقة اكتفاءً بالشهوة البهيمية. فكَّر كاسال في قطع علاقته بخليلته، ولكنه لم يهتدِ إلى الطريقة المثلى التي تتفق وآداب اللياقة نحو امرأة لم تتعمَّد الخطأ في حقه، ولم تُسئ إليه قط. وذات مساء بينما كان يتأهَّب للذهاب للقاء خليلته إذا بها تُنبئه بتأجيل الموعد إلى اليوم التالي؛ ممَّا أثار سخطه وغضبه، وضاعف رغبته في الهجر. لاحظ صديقه روبير عليه الحزن والأسى، فسأله عما إذا كان حقًّا يحبُّ هذه المرأة، فأجاب كاسال بالنفي.
ولما وثق روبير من ذلك صارح صديقه بأنه ذات مساء خسر كثيرًا في لعب القمار، واضطرَّ أن يهرع إلى المنزل لإحضار نقود، فرأى فراءً ومروحة على المائدة في حجرة الاستقبال، ودفعه الفضول إلى أن يُمتِّع ناظره برؤية هذه المرأة الجميلة التي طالما سمع امتداح حسنها وبهائها. واستطاع أن ينعم من خلال ثقب الباب برؤيتها عارية، فبهره جمالها وقوامها، ومنذ تلك اللحظة أحبها وتعلَّق قلبه بها.
لم يُحدِث اعتراف روبير الخطير أثرًا يُذكَر في نفس كاسال الذي رضي أن يذهب صديقه بدلًا منه في الميعاد المحدَّد في اليوم التالي؛ وبهذا يتخلَّص من حبيبته.
وفي أثناء الليل أخذ كاسال يستعرض أمامه ما قد يحدث من مفاجآتٍ غير مُنتظَرة في خطته هذه؛ إذ ربما تخونه الشجاعة، فلا يستطيع القيام بتمثيل دور الغيور كما يجب. ومن ناحيةٍ أخرى، ماذا يكون الحل إذا طردت خليلته روبير شر طردة؟
لم يُطِق كاسال صبرًا، فذهب إلى وكر غرامه بعد الميعاد بقليل، ولما وجد الباب مُحكَم الإغلاق نادى صديقه روبير، ولما لم يرد عليه صديقه كسر الباب عنوةً، فوجد خليلته في أحضان روبير، فصُعِق لهذا المنظر، وكأن الدنيا زُلزلت تحت قدمَيه، واعتراه ذهولٌ غريب. وعقب هذا الحادث عاوده حبه لخليلته وهيامه بها أكثر من ذي قبل، لدرجة أنه قطع صلته بصديقه القديم روبير من أجل هذه المرأة التي ظلَّت خليلة له طوال ثلاث سنوات.
هذه القصة الواقعية أكبر دليل على أننا نجهل اتجاه عواطفنا، وأنه من الخطأ أن نُنكِر سلطان المرأة علينا.
والوسيلة الوحيدة للانتصار عليها هي تجنُّبها والابتعاد عنها، كما يقول أكبر علماء النفس في العصر الحديث نابليون بونابرت. ونستطيع أن نؤكد أن المرأة التي تثأر لنفسها فتتخذ خليلًا آخر تنجح في إيلام خليلها الأول على الأقل، وربما نجحت في استعادته. أليست الغيرة الحسية كفيلةً بأن تُسيِّر العاشق كما تريد المرأة وتهوى؟ لأن هذا النوع من الغيرة يبدأ بحدة، ثم يتضاءل شيئًا فشيئًا، وربما تلاشى نهائيًّا؛ فقد شاهدتُ يومًا تمثيلية عُطيل، وعندما دخل البطل عُطيل لقتل ديدمونة انفجر المُتفرجون من الضحك؛ لأن فلسفتهم العميقة في الحب جعلتهم يفكرون أنه من الجائز أن هذا الغيور الغاضب الذي صمَّم على قتل حبيبته الغادرة ربما انتهى به الأمر إلى إيقاظها بحنان ورفق، وطلب الصفح منها.
ويجب التمييز بين الغيرة الحسية والغيرة القلبية؛ ففي الأخيرة يُوطِّد المُحب العزم على تحمُّل ما قد يُصادفه من متاعب بصدرٍ رحب دون ضجر؛ فإن إخلاصه بقلبه في الحب يجعله يستعذب الآلام والمِحن. غير أنه يجمل بنا أن نُصرِّح أن الغيرة القلبية البحتة نادرة جدًّا؛ إذ كثيرًا ما تندمج في الغيرة الحسية، وهاك بعض الأمثلة على الغيرة القلبية:
أحبَّ طالب بمدرسة الهندسة «السنترال» بباريس، يُدعى «روجيه فالنتين»، فتاةً تفُوقه في الجاه والثروة، ولما تخرَّج طلب يدها، فرفض أبواها نظرًا لفقر روجيه وكِبَر سنه عنها. فلم يتألم لذلك، ووطَّد العزم على الكفاح في الحياة حتى يفوز بها، ورحل إلى بونس إيرس. وما كاد يستقر هناك حتى تزوجت الفتاة، ولما بلغت الثلاثين من عمرها مات زوجها، وكانت قد أنجبت منه بنتًا. في ذلك الوقت عاد فالنتين من أمريكا، وطلب يد الأرملة التي قبِلت في الحال دون تردُّد، مُكبِرةً فيه هذا الشعور النبيل؛ فقد ظلَّ وفيًّا مُخلِصًا في حبه رغم مُعاكسة الظروف له في تحقيق سعادته، ولكن الطفلة التي أنجبتها هذه المرأة من زوجها الأول كانت تُنغِّص حياة الزوج الجديد، وتُسبِّب شقاءه، رغم أنه كان يعطف عليها، ويعتبرها كابْنتِه تمامًا، فوجودها يُذكِّره دائمًا بأن شخصًا آخر شاركه حب المرأة التي يُقدِّسها، ولكن روجيه كان يتحمَّل هذا صامتًا دون أن يفوه بكلمة يُفهَم منها أنه مُتألم. هذه هي الغيرة القلبية بأجلى معانيها.
ومن الجائز أن نُصادف عاشقًا تنهش الغيرة قلبه بالنسبة لخليلةٍ ماتت فعلًا، كما حدث لراءول جارنييه الذي سافر إلى أمريكا وعاد بعد وفاة خليلته التي كان يعبدها. ولما علم من صديقة لها أن شخصًا آخر كان يتردَّد عليها أثناء غيابه هاله هذا النبأ، وعنَّف نفسه على تركه باريس بينما كان في إمكانه البقاء بجانب حبيبته وإسعادها، والظفر بها وحده دون غيره. هذا مَثلٌ رائع من أمثلة الغيرة القلبية البحتة التي تُميِّزها الأنانية العاطفية، والتي تشمل الماضي والمستقبل؛ لأن القلب يعيش على الذكريات والأفكار الثابتة، بينما نجد أن الغيرة الحسية منشؤها مناظر وصورٌ ملموسة تُثير أزمات وانفعالاتٍ عارضةً من السهل زوال أثرها، أما الغيرة القلبية فقد تُسبِّب الأسى والحزن العميق الذي قد يُفضِي بدَوره إلى الموت كمدًا.
فبينما العقل يُوصينا «بأن المرأة التي تبعث في نفوسنا الغيرة غير جديرة بالحب؛ إذ لا داعي للغيرة من أجلها»، يُجيب القلب: «بل إن هذا السبب بعينه، وهو أنها غير جديرة بالحب، يجعلني غيورًا.» ثم يُضيف بصوتٍ خافت: «وهذا هو سر حبي لها.»