آثار الغدة الدرقية في النفس الإنسانية
نقول أحيانًا إن هذا الرجل يبدو شابًّا. والحق أننا لا نصف وجه الرجل، وإنما نصف روحه الوثَّابة الفتيَّة التي تُضفِي على صاحبه صفة الشباب. وإذا كنت في عمر ذلك الرجل، وشعرت بأنك أشيب منه؛ فلا بد من أن هناك علاجًا لهذا الفرق يُميِّز بينك وبينه، وأنت وحدك هو الذي يمكنك علاج نفسك.
وتراني ما دام الأمر كذلك مضطرًّا إلى أن أتحدَّث في هذا الموضوع عن السبب في عدم التيقظ أو الانتباه، والحقيقة أنهما يرجعان أولًا وآخرًا إلى قطعةٍ صغيرة بداخل رقبة الإنسان وفي مقدَّم العنق، ويُطلِقون عليها لفظة «الغدة الدرقية».
وقد تكون هذه الغدة سببًا في تنغيص حياة الإنسان، فتصبح لا فرق بينها وبين الموت، كما أن كثيرين يشيبون قبل أوانهم لعدم توفُّر نشاط هذه الغدة. ولا أظن أن أحدًا من القُراء يعرف عنها شيئًا، أو قُل إن أحدًا لم يهتم بها أي اهتمام؛ لصِغرها من ناحية، ولغموضها من ناحيةٍ أخرى.
تذبل زهرة حياة الإنسان، وينحلُّ نشاطه، وتنهار قُواه، فيلجأ إلى المُقويات في الفيتامينات لعلها تُعيد إليه نشاطه، وتردُّ إليه قُواه، ولكن دون جدوى، فيظل على حاله مُتعَبًا منهوكًا غبيًّا كسولًا نوَّامًا، وينحدر نشاطه عن مستوى نشاط الإنسان العادي. أما السبب في كل هذه الآفات فيرجع إلى غدته الدرقية، رغم أنه لم يُحس بها، ولم يشعر بوجودها، ولم يفكر يومًا في أنه في وُسْعها أن تضرَّ به هذا الضرر. وكثيرٌ من الناس يتألمون ويتوجَّعون، ويصبرون على ذلك الألم، ويتحمَّلون هذه الأوجاع بصبر وأناة، ولا يعرفون أن مجرد اضطراب هذه «البلبوعة» الصغيرة هو الذي يحُول بينهم وبين الصحة والعافية.
يعرف كل إنسان أن «المُصْران الأعور» يُسبِّب آلامًا في البطن، وأن السعال المُزمِن وبصق الدم قد يدلَّان على تدرُّن في الرئة، وأن قِصر التنفس وتورُّم الكاحل علامتان من علامات هبوط القلب. هذا ما يعرفه كل إنسان في كل مكان، ولكن كم من الناس يعرفون أعراض اضطراب الغدة الدرقية؟ أظنهم لا يزيدون على واحد في المائة.
وبالرغم من أن اضطراب الغدة الدرقية غير فتَّاك وليس بمُميت، ولا يضطر الإنسان إلى مُلازمة الفراش، إلا أن الآلام التي تُسبِّبها كثيرة، بل وأكثر ممَّا يتصورها أي إنسان. تنهار قُوى الإنسان بمجرد ضعف هذه الغدة، فيتلوَّى من الألم وهو صابر على تحمُّله كل الصبر، كل ذلك من غير مبرِّر بأن يكون تشخيص الطبيب في غير محله، أو قُل لأنه، أي الطبيب، لم يعرف أثر هذه الغدة، فغضَّ النظر عنها.
أعرف فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، وصفها أهلها بالماليخوليا، وهي حالة من حالات الجنون، ونعتها أصدقاؤها بالنورستانيا، وهي حالةٌ أخرى من حالات الجنون، وحكم عليها رؤساؤها بعدم النفع. فلم تأبه لهذه الصفات جميعًا، ولم تُشعر انتقاداتهم أي اهتمام. وسارت على هذا المنوال حتى تفاقمت حالها، وظهرت عليها أعراضٌ كثيرة؛ كانت منهوكة القُوى باستمرار، ولم تكن تقدر أن تبقى مُتيقظة مُتنبهة فترةً طويلة من الزمن، ولم تقوَ عيناها على البقاء مفتوحتَين وقتًا طويلًا.
فلم يطمئنَّ بالها، ولم يستقرَّ حالها، ولجأت إلى المُقويات من جديد لتهدِّئ أعصابها، ولكن من غير جدوى. امتلأت خِزانتها بالأدوية من كل نوع ولون، فكان بينها سوائل حمراء، وأقراصٌ صفراء، وبلابيع بيضاء، ولكن هذه جميعًا رغم ألوانها الزاهية الجميلة لم تُجدِ ولم تنفع، بل ازدادت حالتها سوءًا على سوء، فأضحت ضعيفةً مهزولةً كسولة، فعوَّل أبوها على استشارة طبيب في أمرها. وبعد البحث والفحص توصَّل الطبيب إلى معرفة أن غدَّتها الدرقية هي موطن الداء، فوصف لها الدواء، ولم تمضِ بضعة شهور حتى ثاب إليها نشاطها، وعاد إليها تيقُّظها.
وأعرف سيدة في الخامسة والستين من عمرها، وكانت منكودةً مجهودة على الدوام، وكانت ابنتها تسخر منها لتكاسُلها، فتُنغِّصها هذه السخرية أكثر من تنغيص الألم. ولما استدعت طبيبًا وجدت أن السبب في كل هذا النكد والجهد يرجع إلى هذه الغدة الدرقية. عمل الطبيب على علاجها حتى أبلَّت من مرضها، وأُعفيت من سخرية ابنتها اللازعة.
وأعرف سيدةً أخرى تزوَّجت منذ ثمانية أعوام، ولكنها لم تحمل طول هذه المدة. عرضها زوجها على أطباء كثيرين، فقرَّروا أنها سليمةٌ مُعافاة، ولكنها رغم كل هذا لم تُنجِب طفلًا واحدًا. وأخيرًا جدًّا وبعد فوات هذه الأعوام الثمانية، توصَّل نطاسي إلى أن غدتها الدرقية مُضطربة، وبعد علاجها أخذت تُنجِب الطفل في أثر الطفل!
وسيدةً ثالثة في الخمسين من عمرها، وكانت مُتعَبة باستمرار، وكانت تقول بين حين وحين: «إنني أشعر بتعبٍ شديد عندما أستيقظ في الصباح، وعندما آوي إلى مضجعي في الليل.» وكانت عديمة النفع لنفسها وللآخرين أيضًا، ولم تكن تشعر بأية لذة في الحياة. وبعد مُداواة غدتها الدرقية زاد وزنها ٣٥ كيلوجرامًا في بحر ستة شهور، وعادت إلى سيرتها الطبيعية.
هذه أمثالٌ واقعية أوردتها على سبيل المثال والنصح في نفس الوقت، لم يعرف هؤلاء المرضى في أول أمرهم السر في تنغيص حياتهم، وقطعوا الأمل والرجاء في الشفاء حتى أتاهم الطبيب البارع، وشخَّص داءهم الصحيح، ووصف لهم الدواء الناجع. والحق أن معظم أطباء العصر الحديث يفوتهم تشخيص الغدة الدرقية، ويلجئون إلى تشخيصاتٍ أخرى لا صلة بينها وبين الداء الحقيقي.
أما السبب في ذلك فيرجع إلى أن أعراض هذه الغدة ليست واضحةً كل الوضوح، كما أن اضطرابها ليس له دلالاتٌ معيَّنة. ومن هذا ترى أن الطبيب يعزو تعب المريض وتبرُّمه الدائم ونومه الكثير إلى مجهوده العنيف الذي يبذله في عمله لا أكثر ولا أقل، كما يعزو مرض الرجل المتوسط في عمره أو الشيخ إلى تقدُّم عمره.
فهذا رجل أعمال يفشل في أعماله، وذاك طفل لا يمرح مع بقية الأطفال، وزوجةٌ مُتعَبة على الدوام، وفتاةٌ عصبية جدًّا، لا شك عندي في أن سبب هذه الحالات جميعًا هي الغدة الدرقية، ورغم هذا فمن السهل جدًّا أن نعزو فشل الرجل في أعماله إلى كسله، وتأخُّر التلميذ في مدرسته وعدم انتباهه إلى غبائه، وهمَّ الزوجة وحزنها الدائم إلى غلاء أسباب المعيشة، وعصبية الفتاة ونقصان وزنها إلى هيامها بألوان الحب، ولكنني أُفضِّل كثيرًا قبل هذه الادعاءات أن نكشف عن غددهم الدرقية لنتأكد إذا كانت صحيحة أم عليلة.
ولكن ما هو سر هذه الغدة العجيب؟
وأين هي؟ وكيف نقوم بعمل هذه المعجزات؟
أما مهمتها فهي تنظيم نشاط جميع خلايا جسم الإنسان، وهي تتوصل إلى ذلك بإفراز مادةٍ كيميائية من اليود في الدم. أما إذا قلَّت كمية هذه المادة فسوف يتأثَّر جسم الإنسان كله، فيخمد نشاطه، وتقل حيويته. وتزن هذه الغدة أوقيةً واحدة، وصِغر وزنها هذا لا يمنعها من أن تؤثِّر تأثيرًا بالغًا في حياة الإنسان ومستقبله. وهي تُشبه الفراشة في شكلها، وتمدُّ جناحَيها في رقبة الإنسان.
وإذا كانت هذه الغدة طبيعيةً صحيحة فلا يمكن للإنسان أن يراها أو يتحسَّسها، كما أنه إذا ضعف نشاطها فهي تبقى طبيعية في حجمها، فلا يخطرنَّ ببالٍ للقارئ أن يتحسَّس رقبته للبحث عنها، وبعث النشاط فيها بكلتا يدَيه.
والمريض عادةً لا يفكر في استشارة الطبيب إلا بعد أن يستفحل داؤه، وتسوء حاله، وهو يعزو ضعف سمعه إلى وجود مادة شمعية بداخل أذنه، وعصبيته إلى تفكيره الدائم في مشاغله الداخلية والخارجية، ويعزو هذه الأعراض جميعًا إلى تقدُّم عمره.
أما تشخيص مرض الغدة الدرقية فيعتمد كثيرًا على براعة الطبيب، وتيقُّظه إلى حال المريض، وأما علاجها فهو أسهل بكثير من علاج جميع الأعراض الأخرى.
وهذا العلاج سهلٌ لطيف، ولا يشق على المريض تحمُّله، بخلاف القيود الأخرى التي يفرضها على علاج الآفات المختلفة. وبذِكر هذه القيود أقول إنها كثيرةٌ ما في ذلك شك، وتستنفد صبر الإنسان فيضيق بها، لا لشيء إلا لكونه إنسانًا قبل كل شيء!
فبينما ترى أنه واجب على المريض بتدرُّن الرئة وضعف القلب أن يُلازم الفراش، ولا يُغادره لمدة شهور، فيكره ذلك العلاج، وعلى المريض بالسكر أن يلتزم تناول أطعمة خاصة لا ترتاح إليها نفسه، وعلى المريض بفقر الدم أن يُحقن بزيت كبد الحوت فيشمئز منه، وعلى المريض بضغط الدم أن يُحدد من نشاطه، وأن على هؤلاء جميعًا أن يُنفِّذوا أوامر الطبيب بالدقة وإلا ساءت أحوالهم، فيُنفِّذونها كارهين؛ تجد أن المريض بغدته الدرقية ليس عليه إلا أن يبتلع قُرصًا أو قرصَين مرة أو مرتَين في اليوم، وسوف يُشفى بكل تأكيد، وتعود إليه حالة الطبيعة في بضعة شهور! وكلما أسرع المريض بعلاج غدته الدرقية كلما شُفِي من مرضه سريعًا.
ولا تُحاول أن تُعالج نفسك بيدك، أو أن تلعب في رقبتك لتتحسَّس هذه الغدة، وسوف تكون أشبه بمن يلعب بالديناميت. وخليقٌ بك أن تعرف أن كثيرين من الأطباء الهواة قد قضَوا على أرواحهم بمحاولة الكشف على أنفسهم، وتشخيص أمراضهم، أو مُعالجتها بأيديهم.
تتعطَّل ماكيناتٌ كثيرة عن السير في بعض الأحيان، ويكون صوت «الموتور» غير عادي في أحيانٍ أخرى، أما آلتك الشخصية فلا تختلف عن هذه جميعًا، ولا تشذ عنها، ولا بد أن «مسمارًا» معيَّنًا قد انحلَّ، ويحتاج إلى ربط وإحكام. مسألةٌ في غاية البساطة ما في ذلك شك.
ولكن يجب عليك أن تُحدد مكان المسمار أولًا!