المخاوف التسعة
قال «جين أوين»: «لمَ يُساورك الهم والقلق؟ إنه لمن الطبيعي جدًّا أن يشغل بالَك «همٌّ» واحد على الأقل.»
منذ أمدٍ غير بعيد كنت أستمع إلى طبيبٍ نفساني مشهور وهو يُلقي أسئلته على نيِّف ومائة رجل وامرأة، ولم يكن هؤلاء «مرضى»، بل كانوا أناسًا موفوري الذكاء صِحاح العقول والأبدان، تبرَّعوا بالإجابة على أسئلة الطبيب لمُساعدته في دراسته الخاصة. ومن الغريب أن كل واحد من هؤلاء الناس أشار في غمرة الحديث دون وعي منه إلى خوفٍ خفيٍّ دفينٍ دائم الانتفاض في مكمنه، وعندما جمعت هذه المخاوف ألفيتها لا تعدو تسعة أنواع.
- (١)
الخوف من المرض أو الألم: أثناء اشتغالي بالتمريض كنت أشاهد ذلك النوع من الخوف يقوِّض سعادة مئات من الناس، ويهزُّ ثبات جأشهم ومشاعرهم. وبعض المرضى من مُختلِّي الأعصاب كانوا يتصوَّرون أنفسهم على الدوام فريسة مرض غامض مُبهَم، وغيرهم كانوا يطوون بين جنبَيهم خوفًا مُروعًا من السرطان أو الزهري أو السكر أو الشلل أو اضطراب القلب. وإني لا زِلت أذكُر امرأة كان يُظلِم حياتَها بأسْرها يقينٌ أكيد بأنه مقضيٌّ عليها أن تموت بالسرطان، وكانت تكفي مجرد الإشارة إلى اسم المرض، أو الإحساس بأي ألم حقيقي أو وهمي، أو السماع عن إنسان لم يعد مقدَّرًا له في الحياة أكثر من عامٍ واحد، كانت تكفي هذه الأشياء لتُصيبها بنوبة من الذعر والهلع، وقد ظلَّت طيلة أعوام عدة ترفض عرض نفسها للفحص الطبي، بحجة أنها لا تُطيق سماع الطبيب يلفظ حكمه عليها بالقضاء، وعندما استطاع بناتها حملها على عرض نفسها على الطبيب لم تكفَّ عن القول طيلة الشهور التالية بأنهن أخفين عنها قرار الطبيب الحقيقي في شأنها.
فلو أنها أجبرت نفسها على أن يفحصها طبيب بين الفينة والفينة لكانت حياتها أكثر اتزانًا، ولما حُرِم زوجها وبناتها من الطمأنينة والسعادة المنزلية، ولكانوا الآن يستعيدون ذكرى امرأة باشَّة سعيدة، لا ذكرى امرأة مُنزعجة مُختلة الأعصاب، قضت نحبها منذ بضعة أشهر في سن الرابعة والثمانين.
إذا ألفيت نفسك نهبة الخوف سيطر عليك من المرض، فلا تتردَّد في عرض نفسك على طبيب، وكُن على يقين أن الأقاصيص التي تدور عن أناس «لم يعد مقدَّرًا لهم في الحياة أكثر من عامٍ واحد» يدخل فيها الكثير من المُغالاة والتهويل، وكذلك الأقاصيص التي تقول «بإخفاء الحقيقة على المريض» لا تعدو أن تكون وهمًا واختلاقًا، وإن كنت لا تُصدق قول الطبيب.
ويمكنك هزيمة «الخوف» من الألم أيضًا إذا استطعت أن تتملَّك زمام نفسك. ضَعْ قائمة بأبغض سنة من الأشياء التي وقعت لك، والتي لا تُطيق أن تمرَّ بتجربتها مرةً أخرى، وإذا كنت على غرار الغالبية العظمى من الناس فستجد أن أشقَّ الأشياء في حياتك لا علاقة له البتة بالألم الجثماني، وأنت لو جعلت هذه الحقيقة نُصْب عينَيك لما بدا لك «الألم» في صورة ذلك الغول البشع.
- (٢)
الخوف من فقدان الوظيفة أو التذبذب المالي: إذا كان العَرق يتساقط باردًا على جبينك كلما دعاك مخدومك إلى مكتبه، فإن بك «حُمَّى فقدان وظيفة»، من المحتمل أنها تتسبَّب فعلًا في إثباط همتك ونقصان كفاءتك. وهذا النوع من المرض يُصيب — في الغالب — أولئك الذين يُحاولون أن يجعلوا وظائفهم تشغل حياتهم الروحية والعاطفية، وخير علاج له هو أن تنكبَّ على العمل في ساعات العمل، وتطرح عن ذهنك كل فكرة عنه في ساعات الفراغ.
وقد كانت الآنسة «م» فتاةً يانعة الصِّبا ذات كفاءة ومقدرة، استطاعت أن تتدرَّج من وظيفة ساعية بسيطة إلى سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة في شركةٍ كبيرة، وقد صرفت كل همها إلى الاحتفاظ بمنصبها الذي يحسدها عليه الكثيرون، إلى درجة أنها فقدت كل اهتمام بما يدور حوالَيها في العالم الخارجي، فانصرفت عن فصول الرياضة البدنية التي كانت تُمارسها، ورفضت قبول الدعوات، وعدلت عن محاضرات الثقافة والموسيقى التي كانت تنوي الانضمام إليها، وضربت صفحًا عن المُساهمة في نشاط الجمعيات الخيرية.
أصبحت حياتها بأسْرها مُتركزة حول وظيفتها، إلى درجة أنه كان يكفي أن ينسى مخدومها أن يُقرئها تحية الصباح ليحلَّ بها عذاب النذير الوهمي، وأخذ التافه من الأشياء يُثير قلبها وانزعاجها حتى بدت منها علائم الإهمال، ولم يكن هناك بدٌّ من أن تفقد وظيفتها لو لم يشتمَّ مخدومها سبب قلقها.
كُن على يقين أن الموظف الكفء الحي الضمير الذي يمكن الاعتماد عليله يندر تعطله عن العمل. اسعَ إلى أن تكون من ذلك النوع، وكُفَّ عن القلق.
- (٣)
الخوف من الوحدة: تلقَّيت في الأسبوع الماضي مُخاطبةً تليفونية من أرملة من معارفي أشرفت على الستين لتُعلِمني باضطرابها النفسي الفظيع؛ لأنها وقعت في حب رجل يبلغ من العمر نصف سنها! وقد تبيَّن لها أن الهوَّة السحيقة بين عُمرَيها تقف عائقًا لا يمكن اجتيازه في سبيل سعادتها الزوجية، فأُسقطَ في يدها ولم تدرِ أي سبيل تسلك.
لم تكن لها هواية أو مَشغلة معيَّنة تصرف نشاطها إليها، وهي لم تُحسَّ في حياتها بالحاجة إلى إنماء صداقة مع مخلوقٍ ما؛ نظرًا لأن شهرة زوجها كانت تعمل على جذب الناس إلى بيتها، فلم يكن يخلو من الأصدقاء والمعارف، أما وقد ترمَّلت فقد أحاطها الخوف من الوحدة بسياجٍ عاطفيٍّ شائك، لم تعد تعرف السبيل إلى التخلص من قبضته.
لا تُلقِ اللوم على «الظروف» إذا ألفيت نفسك سائرًا إلى طريق الوحدة؛ فالدنيا مليئة بالناس الأوفياء والأشياء المُمتعة، وما عليك إلا أن تمدَّ ذراعَيك وتفتح صدرك.
أعِدَّ لنفسك «صندوق توفير» من الأصدقاء والهوايات والمشاغل، ولا تكترثْ بعد ذلك أي اكتراث للخوف من الوحدة، وعندئذٍ لن تضطرَّ إلى أن تُعلِّق كل آمالك على شيءٍ واحد أو شخصٍ واحد لا تضمنه كما حدث لصديقتي الأرملة.
- (٤)
الخوف من سلوك شريكة حياتك أو أطفالك أو أقاربك: يحسُن بك قبل أن تقضي على نفسك بالهموم أن تتحقَّق مما إذا كانت المشكلة التي تُثير قلقك مشكلتك أو مشكلة أحد غيرك.
إذا كنت حقًّا قد حاولت أن تكون مثالًا يُحتذى للزوج (أو للزوجة)، فلا مدعاة البتة لما يُساورك من قلق بشأن «ذلك الرجل» (أو تلك المرأة) ممَّن لا وجود له في الواقع إلا في مُخيِّلتك، أو في الإشاعات العابثة لأحد مروِّجي المتاعب. كُن على يقين أنه ما من امرأة في تمام وعيها تُخالف زوجًا مُخلِصًا رضيًّا دمث الطباع، وكُوني على يقين أنه ما من رجل يهجر بيتًا وديعًا مُفرحًا وزوجةً كيِّسة دون سبب.
وأما الأطفال فسرعان ما يستأنسون وتنصلح سيرتهم بعد أن يتخبَّطوا في عدد من الأخطاء. ثِق أنه ما من أبٍ يستطيع أن يحلَّ إرادته محل التجربة والاختبار، فلا تتبرَّمْ إذن إذا رأيت أولادك يتنكَّبون طريق الصواب، فسرعان ما تردُّهم إليه التجارب.
وإذا ألفيت التفكير القائم في شئون أسرتك يُحتم عليك دائمًا، فيبدو أنك من هذا النوع من الناس الذي يلتذُّ ويستمتع خفيةً وفي دخيلة نفسه إذا شعر أنه شهيد معذَّب، فعليك أن تُغيِّر موقفك.
لقد قال فيلسوفٌ حكيم مرة إنه: «ما من مشكلةٍ تنجم عن علاقات البشر بعضهم بالبعض ويستعصي حلها على الزمن والصبر والحب والدعاء.»
- (٥)
الخوف من الرأي العام: حدَّثتني صديقة لي تشتغل بالتدريس في الأرياف بقصةٍ ظريفة (ومُؤثِّرة في الوقت نفسه) عن جارتَين في منطقتها، لم تكفَّا منذ أعوامٍ طويلة عن شنِّ حربٍ أسبوعيةٍ كلٌّ منهما على الأخرى بسبب «غسيل» يوم الإثنين، ولم يكن الجو العاصف أو المرض ليحُول بينهما وبين النهوض من الفراش قُبَيل الفجر لتتأكد كلٌّ منهما أنها تستطيع كسب المعركة بتعليق غسيلها قبل الأخرى.
ولا يقلُّ عن ذلك مدعاةً للأسى ما نراه من المخاوف من بعض الناس الذي يُغرِقون أنفسهم في الديون «للظهور بمظهرٍ لائق»، أو الذين يصلون الليل بالنهار في الكدِّ والإرهاق المُضني بما ليس في طوقهم ليبلغوا مكانةً معيَّنة يغيظون بها الآخرين.
كُفَّ عن تعذيب نفسك بظنون الناس وآرائهم! وكُن على يقين من أنك مهما بذلت من جهد للظهور أمام الناس بمظهر الأُبهة والعظمة فلن تترك أثرًا كبيرًا؛ لأن الناس بوصفهم آدميين سيظل اهتمامهم وشغفهم بأنفسهم أضعاف أضعاف اهتمامهم أو شغفهم بك.
- (٦)
الخوف من الشيخوخة: لن يتردَّد شخصٌ بلغ نهاية العمر بعد حياة ناجحة في أن يؤكد لك أن لكل مرحلة من مراحل الحياة مسرَّاتها ومباهجها، وأنه في مقدور المرء أن يجعل الخاتمة لا تقل بهجة وسعادة عن البداية إذا تعلَّم أن يعيش كل يوم عيشة شبع وامتلاء.
وقد حدَّثتني امرأةٌ ضئيلة بلغت من العمر ثمانين ربيعًا، فقالت وعيناها تتلألآن إنها ما زالت تأمل في الاستمتاع بموارد الحياة حينما «تطعن في السن»! وبمثل هذه الفلسفة المُتفائلة لن يُحسَّ المرء بالذعر كلما حلَّ عليه عيد ميلاد جديد.
- (٧)
الخوف من الأماكن المُغلقة أو القطط أو الظلام … إلخ: أصبح الأطباء النفسانيون الآن في موقفٍ يؤهِّلهم لإدراك كُنْه مئات من المخاوف المُتأصلة، ومعالجتها علاجًا حاسمًا، وأغلب هذه المخاوف يمكن اقتلاعها من جذورها في بضع دقائق. ومن حسن الحظ أن الناس قد أخذوا ينظرون الآن إلى الأمراض العصبية نظرةً عادية، وأصبح التردد على الأطباء النفسانيين لمُعالجة الهزَّات العصبية والارتباكات النفسية من الأمور المألوفة التي لا خزي فيها تمامًا كالتردد على أطباء الأسنان!
- (٨)
الخوف من الجنون: لعلك سمعت مرارًا بالقول القائل إن الناس الذين يظنُّون أنهم سائرون إلى فقدان عقلهم لا أساس من الصحة. لعلك سمعت بهذا القول أكثر من مرة حتى أصبح لا يعني شيئًا بالنسبة إليك، ولكنه الحقيقة التي لا حقيقة بعدها.
كلٌّ منَّا يُصاب في بعض الأحيان بشرود الذهن، أو بعدم المقدرة على التركيز وحصر التفكير في شيء بالذات، أو ببعض المشاعر المُلتوية أو المُنعكسة، أو يُداخله إحساسٌ مُبهَم بقرب وقوع كارثة. فإذا ألفيت نفسك نهبةً لأحد هذه الأعراض فتستطيع أن تُبشِر خيرًا؛ لأنك إنسانٌ عادي كبقية الناس، وأما إذا ظلَّت مُتغلغلة في قرارة نفسك تأبى التزحزح، فاقصد طبيبك الخاص وهو يشفيك منها.
- (٩)
الخوف من الموت: لعل أكثر المخاوف ذيوعًا في العالم وأشدها تأصُّلًا هو ذلك الذعر الماحق من الموت، وبعض الناس يأتيهم ذلك الخوف في أوقاتٍ مُتباعدة يُصاحبه إحساس بالشيخوخة في جوف المعدة، والبعض الآخر، حتى من كان لديهم أصلٌ دينيٌّ راسخ، ينزل عليهم ذلك الخوف كأنه ظلامٌ أسود قاتم يتربَّص بهم، ولا يستطيعون منه فكاكًا.
إذا كان الخوف من الموت ينشر عليك جناحَيه القاتمين، ويحرمك من الاستمتاع بالحياة؛ فاكشف للطبيب عما يُساورك ويُثقِل صدرك، وهو لن يتردَّد في أن يؤكد لك أن الجسم البشري والحالة العاطفية ما يكادان يبلغان نقطةً معيَّنة حتى تُرحب بالموت في بساطة واستسلام، ويشهد كثيرٌ ممَّن أشرفوا مرة على الموت بأن «الانتقال» ما كان يزيدهم إلا سرورًا. وقد أخبرني واعظٌ عاد من ميادين القتال أن الجنود لم يكونوا يشعرون أمام الموت بشيءٍ غير الهدوء والسلام العميق.
لا تشغلْ بالك بفكرة الموت، فأمامك الحياة بأسْرها قبل أن يحلَّ الموت، وما أمتع الحياة!
تخلَّصْ من ذلك الخوف الدفين أيًّا كان نوعه، ولا تدَعْه يغترف حياتك ويُفسِدها عليك.
ولا تنسَ أبدًا قول بنيامين فراتكلين: «لقد كانت حياتي مليئة بالهواجس المُقبضة، وأغلب هذه الهواجس لم يكن لها مبرِّر؛ إذ لم يصدُق حَدْسها.»