الانفعالات النفسانية عند الحيوانات
لبعض الحيوانات أدوار في حياتها، تعصف فيها بأدمغتها عاصفاتٌ انفعالية تفُوق عاصفات البشر النفسانية، وقد تخرج بعض الحيوانات عن طبائعها المُعتادة بسببٍ طارئٍ غير عادي على حياتها، فتثور أو تحنَق أو تُغِير أو تحرَد أو تحقد، إلى غير ذلك من الطباع التي لا نظنها في غير البشر.
في حديقة الحيوانات في جامعة كاليفورنيا قردٌ يُدعى «كيوبد»، ألِفَ قِرْدة تُدعى «سيك»، فعاشا بضع سنين في قفصٍ واحد زوجَين، وظهر عليهما أنهما سعيدان جدًّا. بعد حين نقل ناظر الحديقة القردة إلى قفصٍ آخر بعيد عن قفصها، وجيء بقردةٍ أخرى بدلها تُدعى «توبسي» إلى قفص القرد كيوبد. ففي بادئ الأمر نفر كيوبد منها، وبقي مُجافيها مدة، ثم جعل يألفها فيُغازلها ويُؤالفها. وفي ذات يوم قِيدَ كيوبد وتوبسي من منزلهما إلى منزلٍ آخر، ومرَّا أمام منزل سيك رفيقة كيوبد السابقة، فما إن وقع نظر كيوبد عليها حتى هاج وسخط وصرخ، ثم التفت إلى صديقته الثانية توبسي، ثم عاد ينظر إلى الأولى سيك، وشرع يعضُّ ساقه عضًّا شديدًا حتى جرَّحها تجريحًا، وأسال الدم منها غزيرًا، فأخذوه إلى مستشفى الحيوانات حالًا حيث ضمَّدوا جِراحه، ثم أعادوه إلى منزله، وأعادوا إليه رفيقته الأولى سيك، فكانت تؤاسيه، وتُهدئ ثورة أعصابه، وتسكِّن روعه، حتى اطمأنَّ تمام الطمأنينة كلها، وعادت إليه وداعته الأولى. ويقول مُدير الحديقة الذي برع بمعالجة سكان الحديقة: «إنه لولا إعادة رفيقته إليه لقتل نفسه عضًّا وتجريحًا.»
إذا حُبِس بعض الحيوانات الداجنة مُنعزلًا أُصيب بالألم العصبي، والشاهد على هذا أن أحد دارسي طبائع هذه الحيوانات عزل بعض الفراخ التي نفقت عن بيوضها حديثًا «كتاكيت»، ووضع كل فرخ في قفص على حِدَة، ووضع له الحَب أو الغذاء، ووجَّه إليه النور حسب الاقتضاء، ولم يدَعْه يرى أحدًا من إخوانه، حتى ولا الأستاذ المُختبِر نفسه. في الأسبوع الأول كانت هذه الفراخ المُنفردة كثيرة التصويت، وفي الأسبوع التالي صار كلٌّ منها كثير الحركة، يفرُّ من زاوية إلى زاوية في القفص، ثم يُطارد الذباب، ويُبعثر طعامه من الحَب والخليط في الصِّحاف، ويثب كأنه يطير من جنب إلى جنب. مثل هذه الحركات لم يحدث من الفراخ الأخرى التي لم تنعزل عن أخواتها. ولما وُضِعت هذه الفراخ المُنفردة التي صارت عصبية المزاج مع أخواتها الأليفة أجفلت وجزعت، وكانت تبتغي الفرار من بينها، فكان القفص الذي يجمع الفريقَين في اضطرابٍ مريع.
ورُبِّيت ببَّغاء في قفص مع كُرةٍ مصنوعة من نسيجٍ أبيض وأزرق، ولم تكن لتهدأ إلا إلى جنب الكرة المعلَّقة المُتأرجحة، فكانت تُداعبها كأنها طيرٌ ذو ريش وزغب، ثم تضع رأسها وضعًا بحيث تصدمه الكرة في خلال تأرجُحها. كانت تُعامل الكرة كأنها رأس ذَكر أليف، وتُجامله وتُعاطفه كأنه حبيبها الذي أُغرمت به، وكانت تودُّ أن تكون الكرة معلَّقة دائمًا بحيث تكون على مستوى رأسها، حتى إذا كانت أوطأ من رأسها كانت تضطرب جدًّا، وإذا رُميت الكرة إلى أرض القفص صمتت هي، وعكفت إلى إحدى الزوايا حزينة كأن أحد رفاقها مات، وكذا تفعل الببغاوات حين تموت واحدة منهنَّ، وقد يطول المأتم عندهن يومًا ويومَين.
إن بعض علماء النفس يعزون الظاهرات الشاذة في بعض الحيوانات إلى النبضات الجنسية «النسلية» بناءً على نظرية فرويد، ذاك حين يتعذَّر على الحيوان الوصال الجنسي، فتسوء تصرفاته جدًّا، ويصبح كالمجنون. فمن ذلك أن بَبرًا — وهو نوع من السباع الهندية أبيض مخطَّط — كان سجينًا في قفصه، فكان يقضي لُبانته الجنسية ضامًّا إلى صدره قُرمة شجرة في قفصه، وذلك متى اشتدَّت غُلْمته، وهاج شبقه، حتى يكاد يُجنُّ جنونه.
وإذا حدث ما أهاج شبق بعض الحيوانات بدَت منها أفعالٌ تصرف بها ذلك الهياج، وتُسكن الاضطراب؛ فقد لُوحِظ أن بعض أشباه الإنسان وغيرها من الحيوانات الثدييَّة الضخمة إذا أهاجتها حركات الحيوانات المُجاورة لها — في حديقة الحيوانات — أو إذا كايدها الزُّوار المُتفرجون، تهيج فيها النعرات الجنسية هياجًا يتجاوز حد المألوف.
وكان أحيانًا إذا خابت النعرة الجنسية في هذه الحيوانات، ولم يتيسَّر لها الوصال، كانت تصرف عاطفتها الجنسية بأفعالٍ أخرى غير جنسية، ومن ذلك أنها تُقاتل حيواناتٍ أخرى وإن تكن غير مُعادية لها. وقد لُوحِظ أن بعض ذكور الطيور إذا خابت في حبِّها تصرف شوقها في بناء عشوش لا حاجة بها إليها، أو في المُبالغة بالتباهي بجمالها كالطاوس حين ينصب ذيله ويُفرده.
وفي بعض الأحوال إذا أُهيج الحيوان للقتال ولم يجد ما يُقاتله قاتَل نفسه؛ فالكلب إذا لم يجد ما يُداعبه داعب ذيله. ومن ذلك أن شمبانزيًا كايَده الزائرون جدًّا، فصعد على عمود وجعل يخبط رأسه بشدة في السقف. والجُرْذان إذا خابت مسعًى عضَّت ذيولها. ويُقال إن الأفعى إذا غضبت ولم تجد ما تلدغه عضَّت بطنها. وشُوهِد ضبع مخطط يعضُّ كفه حتى أدماه. وقد شُوهِد قرد في حديقة الحيوانات يعضُّ طرف ذيله حتى قطَّه. تفعل بعض الحيوانات هكذا من جرَّاء كيدها وغيظها، والطفل إذا لم ينل مرغوبه جعل يقضم ظفره، والبالغون يمضغون «اللادن»، أو يُدخنون، أو يعضُّون قلم الرصاص؛ تصريفًا لغمِّهم وهمِّهم وغيظهم.
وأطفال الشمبانزي ترضع أصابعها كما تفعل أطفال البشر.
إذا حدثت مُشاجرة بين العصافير في أثناء بناء العشش ارتدَّت إلى المُغازلة والتودد، وإذا لم تنَل العصفورة العروس وطرَها من حبيبها في أول حبها ذهبت إلى أمها مُتغيظة، كأنها تشكو الحبيب، أو تستفتيها في أمر حبها.
إذا حدث حادثٌ مريع لبعض الحيوانات جعل طباعها دمسة بعد الحادث. روى بافلوف مربِّي الكلاب في لينين غراد، قال: كانت كلابه تختصم كثيرًا فيما بينها، وهو يُعاني في مُصالحتها. وحدث في ليننغراد طوفانٌ غير عادي، حتى كادت الكلاب تغرق في حجراتها، فأطلقها لكي تسبح إلى مكانٍ أمين مسافةَ ربع ميل، وكان البرق اللامع يُخفيها، والرعد القاصف يُروِّعها، والمطر الهاطل يُزعزع أفئدتها. ولما وصلت إلى المكان الأمين سكنت ثوراتها، وبقيت أشهُرًا في دعة وطمأنينة وسلام، ولا خصام بينها خلافًا لعادتها، وكان الكلب الواحد إذا رأى قطرات الماء تكِفُ من خصاص الباب أو من تحته ينذعر مُهتاج الأعصاب؛ إذ يتذكَّر يوم الطوفان وهطل الأمطار، بقي أثر هذه الصدمة العصبية عند الكلاب مدةً طويلة ترتعد كلما حدث ما يُذكِّرها بها.
وكثيرًا ما تُحدِث الصدمة النفسانية نوعًا آخر من الداء العصبي الذي يصاب به البشر، فبينما كانت دجاجة تنقد حَبها جيء بخنزير ووُضِع أمامها، فصدَّت عن الأكل حالًا، ولم تعد تأكل حتى بعد أن أخذ الخنزير من قبالتها، بل بقيت مُضطربةً مُنزعجة. ولم يمكن تمليقها وحملها على الأكل إلا حين وُضِع لها طعامها في مكانٍ آخر غير ذلك المكان، فأكلت. فكأن المكان الأول في نظرها مَسكن الجن.
إذا مُنِعت دجاجة عن قيادة فراخها وتغذيتها، وتعليمها كيفية التغذية والشرب بالطريقة المُعتادة؛ تحطَّمت أعصابها، وعانت من الهياج العصبي ما يُعانيه البشر.
أضاف مربِّي الفراخ إلى فراخ دجاجه ٤٠٠ فرخ في بدء حياتها؛ لكي تعولهنَّ مع فراخها، وتُعلمهن النقد، وتُعنى بهنَّ بمُقتضى غريزة الأمومة، ولكن كانت هذه المهمة فوق طاقتها، بل مُستحيلة عليها. فلما تعذَّر عليها الأمر أصبحت مريضة العصب، ولما ضاق ذَرْعها استعفت من المهمة بتاتًا، وهجرت الفراخ جميعًا، وجافتها مُجافاة الحنق، وتركت تلك الفراخ لرحمة القضاء والقدر وهي لا تدري كيف تقتات، فحار المربِّي بأمرها.
الحيوان حتى الإنسان يُربَّى أو يُدرَّب على نوع من السلوك في ظرفٍ خاص بذلك السلوك، ثم يُدرَّب على نوعٍ آخر في ظرفٍ آخر؛ أي لكل نوع من السلوك ظرفه الخاص، ولكن إذا طرأ ظرفٌ متوسط بين الطرفَين، بحيث يتعذَّر على الحيوان أن يُميِّز بين هذا وذاك، كان الإجهاد العصبي صعبًا جدًّا عليه، حتى إنه لا يستطيع أن يفعل أي واحد من الأمرَين.
كان بافلوف الروسي مربِّي الكلاب قد عوَّد بعض كلابه ألا تنتظر طعامًا إلا متى رأت على شاشة ظل دائرةً تامة، وما دامت ترى شكلًا بيضيًّا «إهليلجًا» يجب أن تعلم أنه لا طعام لها، فلا تذهب إلى مائدتها، ثم جعل يُحول الإهليلج إلى شكل دائرة تدريجيًّا، فلما قارب شكل الإهليلج بشكل دائرة غير تامة حارت الكلاب، فلم تعد تستطيع أن تُقرر هل الطعام قد أُعدَّ لها، وهل تُدعى لمائدتها أو لا. فتهيَّج بعضها، وأصبحت كأنها مُصابة بالماليخوليا، وبعضها اضطربت اضطراب الجنون. بعض الحيوانات البليدة البلهاء كالقطط مثلًا قلَّما يؤثِّر في أعصابها هذا التغيير في الظروف.
ولاية نيويورك تربِّي أسرابًا عديدة من القطا المُطوقة «أشباه الحمام» في حظائر كبيرة، ولكنها تخسر نحو ثلث نتاجها لسوء نموها بسبب الانحطاط النفساني — إذا صحَّ هذا الوصف للحيوان — فالذكور التي تخفق في الجهاد لأجل المُزاوجة تعجز عن المُزاوجة الطبيعية بتاتًا، ثم تموت بسبب هذا العجز. وقد عُولِج هؤلاء الذكور ببعض أنواع المواد «هورمونات»، وهي مُفرزات الغُدد الصُّم، فعادت لها قوَّتها النسلية، وصلح حالها.
سمك القاروص المُسمَّى ذئب البحر قليلُ الاجتماعية؛ أي إن أفراده لا تتآلف؛ ولذلك تكمن كباره في البِرك الكبيرة أو البحيرات أو الشواطئ حيث يكثر نبات البحر، حتى متى مرَّت صغاره انقضَّ عليها والتهمها، ولكن إذا أُزيلت تلك النباتات، وأصبح الماء صافيًا، ولم يعد في وُسْع هذه الحيوانات أن تترصد صغارها، ألِفَت بعضها بعضًا، ولم تعُد الكبيرة تلتهم الصغيرة، وأصبحت كلها فرائس للصيادين البشريين فقط.
لبعض الحيوانات غرامٌ وانتقام، بعضها تعشق وتُغير وتحقد وتُقاتل بسبب عشقها، وفي سبيل معشوقاتها، والكلاب أكثر الحيوانات محبةً وولاءً وعشقًا.
وقد روى شخصٌ مثقَّفٌ ثقةٌ أن عنده كلبًا مهذَّبًا، وفي منزل على سطح منزله كلبٌ جسيمٌ شرس، وهناك كلبةٌ جميلةٌ لطيفة تُساكن هذا الكلب الشرس، ولكنها قلَّما تألفه، وكان كلب صاحبنا يصعد أحيانًا إلى السطح، فتُرحِّب به الكلبة، فيُطارده ذلك الكلب المُتوحِّش غيرةً منه، حتى يضطرَّه أن ينزل عن السطح. وما لبثت تلك الكلبة اللطيفة أن نفرت نفورًا شديدًا من رفيقها، وصارت تنزل حينًا بعد آخر وتثب على باب صاحبنا كأنها تدفعه بيدَيها، فلا يلبث كلب الدار أن يُحسَّ بها ويعلم بقدومها، فيُسرِع إلى الباب، ويعوي عواءً خافتًا كأنه يبكي، ويأبى أن يسمعه ذلك الكلب الخصم، حتى إذا فتح الباب اندفع هذا إلى هذه، وهذه إلى هذا، بدعاية شيقة، ثم يفترقان.
وكادت الغيرة تقتل ذلك الكلب الوحشي، فترصَّد غريمه ذات يوم، وعضَّه عضَّةً نجلاء في كتفه، اقتضت أن يُعرَض على الطبيب البيطري. وكاد الجُرح أن يفسد فسادًا مُميتًا، فأخذه الطبيب عنده تحت المُعالجة حتى شُفِي. والعجيب أن تلك الكلبة الوديعة كانت تنزل كل يوم وتهزُّ الباب، فيفتح لها لكي تتفقَّد حبيبها، وإذا لا تجده تعود آسفةً حزينة، وما كان أعظم اغتباطها حين سمعت نباحه بعد عودته من المستشفى مُعافًى، فنزلت والتقى الحبيبان في ساعة فرح لا مزيد عليه، فلم تعد تلك الكلبة تُطيق مُصاحبة ذلك الكلب المُتوحِّش، والغريب أنه احتمل جفاءها على مضض، ولم ينتقم منها.
وكان لصيادٍ كلبُ صيد جيد حسن التربية، ولصديقه كلبة كذلك، ومنزلاهما في بلدةٍ واحدة على بُعْد ربع كيلومتر، فكان الكلبان مُتعاشقَين. ولدت الكلبة، وفي مدة نفاسها كانت تُلازم جراءها، وكان عاشقها يزورها كل يوم مرتَين أو ثلاثًا وبين شدقَيه ملء فمه قسم من طعامه، على الرغم من أنها ليست في حاجة إلى الطعام؛ لأن صاحبها يكفيها طعامًا؛ لذلك صار صاحب الكلب يزيد جراية كلبه حاسبًا حساب عشيقته.
وأُخذت من كلبة جراؤها التي ولدت حديثًا، فانزعجت جدًّا، وهاج غضبها، ومرض عصبها. وفي ذات يوم استفقد أهل المنزل طفلهم، فوجدوه يرضع من ثدي الكلبة وهي مُنطرحة على جنبها تُسهِّل له الرضاعة، فكانت رضاعة الطفل خير علاج لهياج أعصابها.
وأما ولاء الكلاب فحدِّثْ عنه ولا حرج، والكلب أصدق ولاءً من الإنسان، ولولائه قصصٌ كثيرة. كان لرجلٍ كلبٌ موموق جدًّا، ومرض الرجل مرضًا خطرًا جدًّا، فكان الكلب مُلازمًا باب غرفته لا يأكل ولا يشرب، وفيما كان المريض يحتضر كان أهله مُضطربين جدًّا، وكانوا يركعون عند سريره مُصلِّين، وكان الواحد منهم يضع يدَيه على حافة السرير ورأسه بين يدَيه، فكان الكلب يفعل كذلك أيضًا، فيُقعِي لدى السرير، ويضع يدَيه على حافة السرير ورأسه بينهما.
وكان الكلب يُلازم غرفة الميت على هذه الصورة إلى أن أُخِذ الفقيد إلى المدفن، فرافق الكلب الجنازة حتى القبر، ورام أن يبقى مُقعيًا لدى الضريح، فأخذوه عنوة.
والغريب أنه كان يفهم أن أهل الفقيد ينوون أن يزوروا الضريح اليوم مثلًا، فيثور حتى يأخذوه معهم. هذا ولاء ليس مثله ولاء عند البشر إلا بين الأهل الأخصَّاء.
وكان لرجلٍ شغلٌ يومي في مكانٍ بعيد، بحيث لا يصل إليه إلا في القطار الحديدي، فتعوَّد الكلب أن يُودِّع سيده في المحطة، ثم يأتي إلى المحطة في ميعاد وصول القطار فيستقبله فيها.
بعد حينٍ مات الرجل، ولكن الكلب بقي يأتي كل يوم إلى المحطة لكي يستقبل سيده، فيبحث عنه بين الركاب، حتى إذا لم يجده عاد خائبًا حزينًا، وطال عهده في هذه الزيارات الخائبة حتى مات غمًّا وصيامًا.