أكذوبة العقل الباطن
إجماع علماء النفس قد انعقد أو كاد ينعقد على أن للإنسان عقلَين مُتباينين؛ أحدهما هذا العقل الظاهر البارز الذي به نُصرِّف شئوننا اليومية، ونسأل ونجيب ونسعى إلى غاياتنا ونتحدَّث عنها؛ أما ثانيهما فهو عقلٌ خفي مُستتر «باطن»، ليس مرئيًّا ولا بارزًا ولا ملحوظًا. وهذا «العقل الباطن» هو مخزن خواطرنا وأفكارنا وتقاليدنا ومُستودَع آلامنا وأعمالنا السابقة، وهو نائم لا يستيقظ إلا في الليل كالأحلام، أو في فترات الكسل والدعة. فإذا أصابنا حادثٌ ما في طفولتنا مثلًا، حين نكون عاجزين عن الإدراك أو تصوير الإدراك وتصوُّره؛ كان «العقل الباطن» بمثابة المرآة تعكس في أعماق مادتها هذا الحادث وتحفظه، وتُضيف إليه الحوادث التالية.
وعندنا أن نظرية «العقل الباطن» أكذوبة؛ ذلك أن لنا نفسًا واحدة وعقلًا واحدًا وجسمًا واحدًا وشخصيةً واحدة، ولكن الذي يحدث هو تلك الطوارئ والألوان التي تجعل نفوسنا وعقولنا وأجسامنا وشخصياتنا كأنها مُتغيرة مُتجددة. فإذا رأيت منزلًا ذا لون أصفر، ثم بعد عام رأيته ذا لون أخضر؛ فإن البناء هو هو، والتغيير قد حدث في الطلاء، فلن يكون — والأمر كما أوضحنا — المنزل منزلَين أحدهما يُغاير الآخر.
الواقع أن للإنسان حالتَين؛ حالة العمل اليومي في طعامه وشرابه وكتابته وحديثه وسعيه وعمله وحركته، وحالة النوم والسكون والهدوء، أو التحرير من العمل اليومي المُضني المُشغِل المُنهِك المُلهي عن الحوادث الماضية. وقد يحدث في أثناء هذا العمل اليومي أن يمرَّ أمام الإنسان أشخاصٌ يُحيُّونه ويُجيبهم عن تحيتهم جوابًا آليًّا، ولا يذكُر بعدئذٍ أنهم حضروا إليه، وأنهم حيَّوه، وأنه استجاب إلى تحيتهم.
أما حين يهدأ الإنسان من عمله، خاصة على سرير المرض وفي سكون الليل وفي النوم؛ فليس ثَمةَ ما يشغله عن الأشياء الأخرى؛ فهو عندئذٍ مُتمعِّن في لون الحجرة ونوع الأثاث وقوة الضوء وحركة الأنفاس، مُستيقظ للمس والهمس، مُستذكر الحوادث السابقة يعرضها كشريطٍ سينمائي، ويربط بين حوادثها برباط لم يكن مألوفًا لديه.
ولقد اختبرت هذا حين مرضت وحين نزلتْ بي بعض المُلمَّات والأزمات؛ فاستذكرت حوادث سابقة، وعرضتها مُتسلسلةً مُتلاحقةً مُتناسقةً منطقية، كما يعرض المُؤرِّخ الحوادث في شريطٍ واحد، فتبدو النتائج كأنها ثمرةٌ منطقية للمقدمات. ومن هنا يقول الكاتب أو الشاعر أو المهندس أو العالم: «قمت في الليل أو كنت في الحمام أو في مكان التطهير، فخطرت ببالي فكرة المقال أو القصيدة أو المشروع أو الاختراع.» فيعدُّ هذا وحيًا وإلهامًا، في حين أنه ثمرة تسلسُل مراحل الحياة الشخصية ذاتها تمَّت مع نموِّ الأعضاء، وأفادت من كل ما قرأت وطالعت وشاهدت. وبما أنها قد نسيت ما مضى، فقد اعتقدت أن الذي طرأ من الحل والمشروع والاختراع هو وحي أو إلهام، هبط من السماء واستوى خلقًا جديدًا.
ومن أجل هذا نقول إن «نظرية العقل الباطن» أكذوبة ينبغي العدول عنها، وإن الأصحَّ أن يُقال إن للعقل حالتَين؛ الحالة العادية والحالة غير العادية؛ أعني حالة الفراغ والتحرر من الأعمال اليومية التي تكون آلية.
هذا ما نُنادي به مُخالفِين علماء النفس، مُعتقدين أن كثرتهم قد آثرت ابتكار نظرية العقل الباطن تقريبًا للمعاني وتفسيرًا للأحلام والعُقَد النفسية، وعلاجًا للأوهام والأمراض العصبية، وتبسيطًا للمُعمَّيات، وتوضيحًا للمُبهَمات، وفوق كل ذي علم عليم.