الولادة الثانية
في ١٢ مايو
مرَّ عليَّ أربعة أيام لم أكتب فيها شيئًا من كتابي؛ لأنني لهوت بمجالسة زائر تردد علي مرارًا أرتاح لعشرته؛ لأني وجدته أديبًا، والظاهر أنه هو أيضًا ارتاح إلى عشرتي؛ لأنها تختلف عن عشرة زميلاتي.
لم أزل إلى الآن أرتجف من عملك أمس، إذ أتيت ثانية مع ميراي وروشل وصديقك الذي أظن أنه صنيعتك، خرجت من المنزل حرصًا على عواطفي؛ لأني لا أطيق أن أرى ميراي إلى جنبك يا موريس، يقشعر بدني إذ أراك تقبلها، يا لله أنى لك هذه القساوة البربرية؟ إني أسامحك من أعماق قلبي؛ لأنك معذور؟
عدت في آخر السهرة وعرفت أنك لم تمكث طويلًا، فتأكدت أنك تفعل ذلك لنكايتي لا حبًّا لميراي، فهدأ روعي، ولكني كنت في الليل أتململ من الحزن فلم أنم فنهضت أكتب لك.
قلت لك: إن أمي أخذت طفلتي وبرحت بها مع أخي، فبقيت في مصر وحدي بلا أهل احترق قلبي حزنًا على فراق ابنتي، وذبت غمًّا إذ نعيت إليَّ ولكني بعد برهة سلوتها؛ لأنها صغيرة.
صادفت تلك الخياطة التي كانت تنعم عليَّ ببعض أكسية لأخيطها، وتحملت بكل صبر صلفها وشموخها عليَّ وسخطها؛ لكي أتعلم منها التفصيل والخياطة المتقنة، وأحيانًا كنت أخدمها في منزلها لكيلا تضن عليَّ بفائدة.
ذقت المرَّ حينئذٍ يا موريس فكنت أعود في المساء إلى بيتي تعبة لا قوة لي، فأضطجع في سريري وأطلق لعبراتي العنان لأجل هذا العناء الذي أعانيه في مقابل لذة قصيرة، وجزاء زلة وحيدة دفعني إليها ماكر نذل كنت كلما افتكرت بهذا الأمر أكاد أتفتت، وأهم أن أمزق لحافي عني، بعد أشهر صرت أثق بمعرفتي فاستقللت عن معلمتي، وثبت في منزلي أخيط ملابس بعض السيدات اللواتي عرفنني بواسطتها، وكنت أشتغل لهن بأرخص منها لكي أجتذبهن وصديقاتهن إليَّ، وفي برهة قصيرة اعتدلت أشغالي فصرت أكسب في شهري نحو ٦ جنيهات فانتعشت قليلًا.
عند ذلك صرت أجتهد في أن أتقرب إلى الناس بقدر ما يتيسر لي، فكنت أزور بعض «زبائني» وأجاملهن وأدعوهن إلى زيارتي، فبعضهن كن يحتفين بي ويلبين دعوتي، وبعضهن قلما كن يكترثن بي، بل كنت أشعر أنهن لا يرضين عن زيارتي لهن فأقتصر عنهن، وأكتفي بصداقة اللواتي يبادلنني مجاملتي فقط.
ولما درست جيدًا تلك البيئة التي كنت أتحرك فيها، وعرفت حقيقة صديقاتي اللواتي يؤنسنني وجدت أن معظمهن، بل كلهن من فئة قليلة القيمة في الهيئة الاجتماعية ومن طبقة غير راقية، فأدركت أني لم أخط خطوة كبرى إلى الأمام كما كنت أتوهم، وقررت أن أرقي نفسي إلى طبقة أرقى شأنًا ومقامًا وأدبًا.
طفقت أتقرب إلى الأسرات المعروفة بالأدب والفضيلة غير ناظرة إلى مقامها في الجاه والثروة؛ لأني وضعت نصب عيني أن أسترد مكانتي الأدبية قبل جاهي، فتعبت كثيرًا في التودد والتلطف والإكرام، وبالغت في التأدب والحشمة ومع ذلك لم أجتذب إليَّ من تلك الفئة إلا النزر القليل، وكنت ألاحظ أن بعض الأسرات تستنكف أن تعرف أنها ذات علاقة معي.
ومن شواهد ذلك مما عرفته بنفسي أن رجلًا أبى على ابنته أن تأتي إلى بيتي؛ لكي تقيس فسطانها عليها، وطلب أن أمضي أنا إلى منزل جارتي؛ لأنها صديقة أسرته فألتقي بابنته هناك وأقيس فسطانها، حتم بذلك وإلا فلا يأذن أن أخيط ملابس أسرته.
وسمعت مرة أن رجلًا سخط على زوجته؛ لأنها كلفتني أن أخيط ثوبها، وكانت تتردد عليَّ لكي تقيسه عندي، وحرم عليها إعادة هذا الذنب.
ومرة كنتُ في بيت إحدى «زبائني» في يوم زيارتها، وإذ وفدت عليها زائرة فعرفتها بجميع زائراتها ما عداي، فشق عليَّ ذلك وما عتمت أن خرجت مقسمة ألا أعود إليها، وكنت أنتظر أنها تعلم سبب خروجي العاجل، وتعتذر لي أو تسترضيني بمجاملة فلم ترني وجهها.
ومرة صادفتُ إحداهن في منتزه مع أسرتها، وبعض أصدقائها فأعرضت عني كأنها لم تعرفني قط.
وقيل لي مرة: إن فلانًا عدل عن خطبة فلانة؛ لأنه عرف أن بيني وبين أمها تزاورًا.
وأنكى من كل هذا أن شقيقة ذلك الذي خانني صادفتني مرة في السبيل، فأعرضت عني مقطبة كأني قاتلة أبيها.
وأما معارفي القدماء الذين عرفتهم قبل سقطتي، فقل منهم من كان يجاملني بعض المجاملة إذا صادفني، وأكثرهم كانوا يعرضون عني، وما من آنسة أو سيدة من صواحبي القديمات سألت عني أو زارتني.
أما الشبان فلم يتودد إليَّ أحد منهم إلا ظهرت أخيرًا غاية تودده دنيئة، مع أني كنت أبذل جهدي أن أظهر محتشمة أديبة، ما رأيت رجلًا يتقرب إليَّ باحترام لشخصيتي كأنهم لم يثقوا بما كانوا يرونه من حسن أخلاقي، ولا صدقوا ما ظهر لهم من احتشامي وأدبي، ومهما تودد إليَّ بعضهم كنت أكتشف مداهنته، فلا ينطلي عليَّ رثاؤه.
صبرت مدة طويلة على هذا الحال، واحتملت كثيرًا من استخفاف الناس بي وغضهم من مقامي على أمل أن يُمحى عاري شيئًا فشيئًا فلم أفز بأمنيتي، نعم إني اجتذبت إليَّ بعض الصديقات الفاضلات، وأقنعتهن بحسن خصالي واستقامة مبادئي، ووفرة آدابي ولكنهن بقين يذكرن عاري، فإذا مال إليَّ شاب يجهل سيرة حياتي أخبرنه عنها، وأغفلن ذكر محامدي فيضرب صفحًا عني.
أخيرًا اقتنعت أن عاري وشم في معصم حياتي لا يمحى مهما فعلتُ من المبرات، وأتيت من الحسنات وتقلدت من الفضائل.
فكرت طويلًا بطريقة لخلع ذلك الثوب الدنس، فلم أجد من وسيلة نافعة إلا أن أولد ثانية أو تتقمص روحي بجسم آخر غير جسمي، أي: يجب أن أستبدل شخصيتي.
قررت في ذات يوم أن أفعل كذلك، فأعلنت لجميع معارفي أني راحلة إلى باريس رحيلًا أبديًّا، ولكني سافرت إلى الإسكندرية وأبدلت اسمًا آخر باسمي الحقيقي، وادعيت أني أرملة لا أهل لي في القطر المصري، ولا بد أنك تتوق يا موريس أن تعرف اسمي الحقيقي فأسره إليك؛ لأنك أنت أقرب الناس إليَّ وإنما أرجو منك أن تكتمه عن سواك؛ لكيلا يتجدد في ضمائر الناس أن لأخي أختًا مبتذلة بعد ما تنوسي ذلك، اسمي الحقيقي جوزفين وأخي جوزف ماتون، وقد علمت أنه عاد من باريس مع أسرته منذ مدة، بيد أني بقيت متنكرة عنه حرصًا على سمعة أهل بيته.
كذبت على الناس باسمي وبترملي، ولكنني لا أشعر أني أذيت أحدًا بهذا الكذب، بل بالأحرى أرى أني سترت عاري وعار أهلي، ولا شك عندي أن الله رحيم يغفر لي هذه الكذبة.
أقمت في الإسكندرية في مكان منفرد وأعلنت نفسي خياطة، وقللت من التجوال بل امتنعت عنه تقريبًا، بذلت كل جهدي في أن أظهر لزبائني مثال الفضيلة والعفاف والاستقامة، فكنت أتبرم إذا سمعت من إحداهن كلمة بذيئة أو نميمة أو اغتيابًا لأحد، وكنت أذهب إلى الكنيسة كل صباح بعد آخر، وبالفعل كنت أرتاح إلى العبادة جدًّا وأشعر بلذة الصلاة، وفي أثناء مجالسة السيدات، ولا سيما الفتيات كنت أجتهد أن أبث فيهن المبادئ القويمة، وكنت أهادي الجمعيات الخيرية نقودًا وملابس للفقراء. وبالاختصار لم أغفل عن صلاح استطعته، ولا جفوت محمدة ممكنة.
ما مر عليَّ ثلاثة أعوام وأنا في شخصيتي الجديدة «أي: فلانة الأرمة» إلا التف حولي عدد عديد من الصديقات، وكلهن يحتفين بي ويسعين إلى ودادي، وقد وفرت أرباحي جدًّا وصرت ذات ثروة صغيرة، ورأيتني في مكانة معتبرة بين معارف عديدين يجلونني من رجال ونساء.
وكان رهط من الشبان يحفُّون حولي، بعضهم موسرون وبعضهم متوسطو الحال، وقد حاولوا أن يتنازعوا فؤادي فلم يظفروا بطائل، فالأديب منهم كان يزداد إكرامًا لي واللئيم يجفوني كالًّا.
وكان بينهم شاب مهذب خياط حسن الحال أعجب بي، وأحبني وتوسم مني ميلًا إليه، فطلب يدي وخطبني وجعل يتردد علي تردد الخطيب على خطيبته بلا حرج، فيزداد إعجابًا بي، وسولت له نفسه يومًا أن يداعبني مداعبة غير لائقة، فزجرته بلطف باسمة، فخجل واعتذر لي وتاب عن نيته؛ ولذلك ازداد ولوعًا بي، كنت فرحة به ومعللة نفسي بأمنيتي العظمى، وهي أن أعود إلى مقام سيدة معتبرة بين السيدات.
بيد أن ضميري كان ينذرني، ويحذرني من مخادعة ذلك الفتى الذي أخلص الحب لي؛ لأني زورت شخصية غير شخصيتي الحقيقية، وزيفت ذاتيتي وكذبت عليه في أمري.
وقد رام غير مرة أن يتحقق نسبي بأسلوب لطيف، فكنت أزيغ من سبيل تحقيقه؛ لأني لم أعرف كيف ألفق خبر أهلي وذوي قرباي بأسلوب مقنع.
ولعل الريبة في شأني خامرته في حين من الأحيان، ولكن حبه العميق كان يغالطه في ظنونه، ويبدد غيهب شكوكه فيَّ وربما كان يؤوِّل غوامض أمري تأويلًا حسنًا.
وبالرغم من استسلامه لهواه وحسن ظنه بي، وثقته بصلاحي كان ضميري يؤنبني حتى جسم في نفسي مظنة غشي لذلك الفتى الطيب القلب، ولم أعد أطيق السكوت على هذا الخداع.
وأخيرًا قلت في نفسي: إني الآن امرأة صادقة الطوية صالحة القلب طاهرة النفس، والتي لا تشوبه ريبة في كوني هكذا، فإذا اعترفت له بزلة فاتت لم يعد يدري بها أحد بعد أن أبدلت اسمي وضللتُ معارفي عني، وأقنعته أنها زلة طيش في الحداثة، وقد كفرت عنها وتبت إلى الله، فلا بد أن يغتفرها، ويمتدح صدقي في شكوى نفسي إليه.
ففي ذات يوم غنمت فرصة ابتهاجه بمجلسي واغتباطه بحبي، وتصريحه بشدة ثقته بي وقلت له: يا فلان لي سر مكتوم إلَّا عن الله تعالى، فلا يليق بي أن يبقى مكتومًا عنك وأنت ستكون أقرب الناس إليَّ، بل أصبحت أقربهم إلى نفسي، وليس لأحد سواك صلة بقلبي.
فاعتدل في مجلسه وسدد نظره إليَّ، وقال: ولا ريب أني أحرص الناس على سرك وأكتمهم له.
– لا أشكُ في ذلك، وهذا ما يجرئني على أن أكشف لك سري، وأنا واثقة أنه مهما كان سرًّا مسيئًا لا يدع أثرًا سيئًا في نفسك، إذ ليس فيه أذى لك.
فحملق بي كأنه يريد أن يتفهم الخبر عاجلًا، وقال: ما هو؟
فقالت: أنت تعرف أني أرملة.
– نعم.
– وأنه كانت لي ابنة وماتت.
– نعم كذا قلت لي.
– لم أكذب عليك إلا في أمر واحد لا أريد أن تبقى جاهله؛ لئلا أكون خادعة لك، بل أريد أن أطلعك عليه حتى تكون على بينة من أمري، وأنا واثقة أنك لا تحاسبني ولا تدينني.
– أرجو أن تختصري التوطئة وتأتي رأسًا إلى السر؛ لأني أفهمك جيدًا ومقتنع بحسن طويتك، فما هو الأمر.
– إن أبا ابنتي لم يكن زوجي الشرعي.
فاختلج قليلًا ولكن وجهه تورد ولم يخف عليَّ اضطراب نفسه، وقال: كيف ذلك؟
– أشكر لك حلمك وما بدر إلى ظنك من أن لذلك سببًا قاهرًا، وتود أن تطلع على تفاصيل هذا السبب القاهر حتى ينجلي لك عذري.
– يسرني جدًّا أن أقتنع بعذرك.
– ويسرني جدًّا استعدادك لإعذاري متى ثبت لك أنه غدر بي، وأن طهارتي اقتنصت اقتناصًا، فإليك حكايتي أرويها بالأمانة والصدق، من غير تحريف أو تمويه أو تضليل، وأرجو أن تثق بصدقها؛ لأني لو كنت أود أن أخدعك أو أكذب عليك في الرواية ما كنت أعترف لك بزلتي.
فأجاب وهو يكظم قلقه: إني لواثق في صدقك.
– شكرًا لك، وإنما أرجو منك ألا تسألني عن أسماء أشخاص حكايتي؛ لأنها حكاية مضت، وشخصيتي الأثيمة قد انقضت وأنا الآن غير تلك الآثمة التي لم يعد أحد يعرف عنها ما آل إليه أمرها، والناس لا يعرفونني الآن إلا كما تعرفني أنت، مرأة متصوِّنة حريصة على عفافها وفضائلها، فلا أريد أن أكدر صفاء مودتنا بتذكار أشخاص تنوسي أمرهم، وجل بغيتي من قص حكايتي أن أعترف لك بزلتي حتى تغفرها لي، ولا أدخل في باب بيتك إلا شخصًا ممحصًا طاهرًا.
– إني ممتنٌّ لحسن قصدك.
وهنا رويت له الحكاية بالتفصيل كما رويتها لك يا موريس، ولم أتمالك نفسي عن البكاء وذرف الدموع حتى كان ذلك الفتى يشاركني فيهما متأثرًا شديد التأثر، وأحيانًا كان يستشيط ويسخط على ذلك الوغد حتى إنه لو كان يظفر به لأنشب أظفاره في عنقه وخنقه، وكان يتخلل تأثره هذا رثاؤه لي وإشفاقه عليَّ.
وما فرغت من حكايتي حتى كان أشدَّ الناس تألمًا من ظلم الهيئة الاجتماعية لي، وقد ثبت لي من تأثره وكلامه أنه لم يرتب بصدق كلمة من حكايتي، وأخيرًا جعل يطيب خاطري ويواسيني، ويرجو مني أن أنسى ذلك الماضي وأعتبره كأنه لم يكن.
فشكرت عواطفه الرقيقة وقلت: إذن أنت لا تدينني.
– لستِ في يقيني آثمة، بل أعتقد أن الله لا يدينك، فالبشر الذين يدينونك يتطاولون على رحمة الله.
– إنك تنتشل نفسي من هاوية اليأس يا عزيزي، فهل ترى أني أستحق أن أكون زوجة لك.
– إن اطلاعي على سرك هذا زادني اعتبارًا لك ورغبة فيك، فلا تشكي بحبي لك.
– وستجدني أخلص لك من نفسك.
وانتهى اجتماعنا ذاك باغتباط مشترك بيننا لا مثيل له، لعلك تتصور قدر سعادتي وسروري حينئذٍ يا موريس، إنه مضارع لسروري وغبطتي بحبك.
ولكن والوعت أن هذه الغبطة لم تدم طويلًا، فإن ذلك الفتى لم يعد في زياراته التالية الشخص الذي تعودت عشرته، بل كان كثيرًا ما يذهل وهو يفكر، فأدركت أن الوساوس تطرقت إلى يقينه، وخفت سوء المغبة، وحاولت أن ألتمس منه أن يصارحني قصده فكان يتحاشى المصارحة.
سيدتي المحترمة
لا يدور في خلدي أني أفضل منك بمزية قط، ولكن بدت أسباب تحملني بكل تأسف على أن أفك عقد خطبتنا، لا أزال أحترمك وأعتبر خصالك الحميدة، وأتمنى أن أبقى في عداد أصدقائك، لي أمل بأن الأمر لا يسوءك.
سيدي فلان
أظنك تدرك من نفسك عمق الحزن الذي سبَّبه لي كتابك اليوم، فإنه لا يقل عن عمق حبي لك، ومع ذلك لا قبَل لي على مخالفة مشيئتك، إليك هداياك وعلامة العهد بيننا مع الخادمة، ومع أنه لم تبق لي عليك دالة بعد الآن أترجى منك رجاء واحدًا فقط، وهو أن تزورني مرة أخرى لكي أعلم منك السبب الذي أفضى إلى ذلك بعد أن تفاهمنا، وإلَّا فأكون مظلومة بهذا النبذ لغير سبب ظاهر، إنك كريم الأخلاق فلا أظنك تخيب طلبي.
فعادت الخادمة تقول: «يرجو منك إعذاره؛ لأنه لا يقدر أن يزورك»، فازداد تغيظي واشتد حزني وعاد إليَّ يأسي الماضي، ولكن خطر لي في الحال أن أمضي إلى الصديقة التي كانت واسطة الصلة بيننا؛ لكي أرجو منها أن تستطلع أفكاره لعلها تقدر تزيل سبب نقضه العهد، فدخلت عليها وكل عضلة من عضلاتي تختلج اضطرابًا، ودفعت إليها رسالة خطيبي فقرأتها وقالت: إني أدرك مقدار غمك يا حبيبتي وأعتقد أنك مظلومة، ولكن ليس خطيبك الذي ظلمك بل تقاليد البشر وعاداتهم، إني أرثي لك جدًّا.
– إذن تعرفين السبب، فأخبريني.
– أظنك عرفته من نفسك.
فتزلزل فؤادي عند هذا الجواب، وشعرت كأنه وقع من بين جنبي؛ لأني أدركت أن سري انكشف لغير خطيبي أيضًا، فوهت قوتي واستلقيت على المقعد لا أكاد أستطيع كلامًا، وبعد قليل تجلدت وسألتها: أخبريني تفاصيل الحكاية أيتها الصديقة العاذرة.
– يعزُّ عليَّ جدًّا يا حبيبتي أن أنقل إليك ما يسوءك.
– لا تحاذري فقد تخرق هذا القلب من السهام التي أصابته، وكيفما رُمي هذا السهم الجديد يقع في ثقب قديم.
– مسكينة، إنك تعسة يا حبيبتي فالله يأخذ بيدك، علمت أنك فررت من بيت أهلك وساكنت المسيو (…) مدة كخليلة له لا كحليلة، وقد رزقت منه طفلة أخذتها أمك منك إلى باريس إذ رحلت مع أخيك من وجه العار الذي لحق بهما بسببك، إن هذا الكلام يؤلمك يا عزيزتي جدًّا وأنا أشفق عليك.
– تكلمي يا حبيبتي فإني مخلوقة لهذه الآلام؟
– … وإن ذلك الفتى تركك بعد أن كان مصممًا على استرضاء أهله على أن يتزوجك زواجًا شرعيًّا، ولكن أهله أقنعوه أنك فاسدة الطبع سيئة التربية، وأنه لا يمكن أن يثق بأمانتك له في المستقبل، فإذا كنت قد خنت نفسك وأنت عذراء شديدة الحرص على عرضك فلا بدَّ تخونينه وأنت زوجة حين لا يتعذر عليك أن تصلي عشاقك متسترة بزوجيتك؟
عند ذلك شعرت أن دمي الفائر يتدفع في عروقي إلى رأسي وأطرافي، حتى خلته يتفجر من بدني تفجر الماء من الصخرة، فرميت ذراعيَّ على مداهما واستلقيت على المقعد وقلت: ويلي! أين الجبال فتنقلب عليَّ.
– لا تقنطي يا حبيبتي، أعتقد أن حكم الناس عليك قاسٍ.
– أكملي حديثك فإني عجيبة الجلد.
– بلغ ذلك إلى خطيبك فجاهد في تكذيبه؛ لأنه لم يستطع تصديقه لما يعلمه من حسن خصالك، ولكن الدلائل على صحة الوشاية كانت كالصبح، وقد ثبتت بشهود فاقتنع.
ففهمت أن خطيبي لم يبح بسري الذي كشفته له معترفة بزلتي، ولكنه لما عرف أن سري أصبح مفضوحًا تتداوله ألسنة الناس استنكف صلته بي، فقلت جريئة: نعم وأنا أعترف بتهمة الوشاية، أقر أني أثمت إذ استسلمت لذلك المخادع بعد جهاده الطويل في إغوائي، وتمنيتي بالأماني العديدة المغررة، وإغرائي بوعوده المؤيدة بأيامينه العظيمة، حتى إنه لم يخطر في بالي قط أنه يخونني ولو افتدى وفاءه بدمه، ولكنني كنت حديثة السن جاهلة طبائع البشر ضعيفة الإرادة فوقعت في فخه، زللت زلة واحدة، ولما استفقت من غفلتي وصحوت لنفسي وثبت لي غدر ذلك الخئون جمعت قواي، وجاهدت في أن أسترد عرضي المفقود وشرفي الضائع فلم أفلح، فاضطررت أن أتقمص باسم آخر لكي أستر عاري، وأثبت حسن سيرتي ففزت بأمنيتي هذه إذ اتضح لكل معارفي أني آية العفاف ونموذج الحشمة …
– إني أشهد بذلك علانية.
– ولكن الناس الذين عرفوا سري لم يقبلوا توبتي، ولا اغتفروا إثمي بل تفرغوا لمؤاذاتي، ووقفوا قواهم على مكايدتي مجانًا، فماذا يضرهم أن يكتموا عاري، ويعاونوني على إظهار نفسي امرأة جديدة باسم جديد وبثوب أدبي نقي طاهر.
– إن الذين فضحوا سرك هم أعداؤك الغادرون المجَّانيون.
– أيجوز لي أن أسألك من هم؟
– هم أهل ذلك الخائن.
عند ذلك لم أتمالك أن أنشبت أصابعي في صدري، ومزقت ثوبي عنه تغيظًا وحرَّقت الأرم وصرخت: آه، يا لرداءة الإنسان! أيتبعني أذى أولئك الأردياء إلى الأبدية؟
ضاع صوابي وأغمي عليَّ وما صحوت إلا وتلك الصديقة المخلصة تعالجني بالمنبهات، ولما سكن روعي استرسلت في البكاء، فكانت تبكي معي، حارت في كيف تعزيني ولكنها بعد قليل قالت: خففي عنك يا عزيزتي، إن الله يجازي من نفس العمل، ذلك الخائن ينال الآن بعض جزائه.
فالتفت إليها متيقظة لكلامها وسألتها: إلامَ تشيرين؟
– إلى حالة ذلك الرجل الآن مع امرأته.
– أرى أنك تعرفين عنه كثيرًا.
– نعم إني أعرفه وأعرف أهله جيدًا الآن.
– إذن تزوج؟
– نعم، عرفت أسرته في السنة الماضية إذ كنت في مصر، وكان حينئذٍ يبحث عن فتاة ليتزوجها، فما سمع بخبر آنسة إلا سعى وأهله إلى رؤيتها، وبحثوا عن سيرتها جيدًا ودرسوها، طافوا بيوتًا كثيرة وتعرفوا بأسرات عديدة، فلم تعجبهم فتاة ممن رأوا.
– أما عرف أهل الفتيات بخيانته لي؟
– كلهم عرفوا.
– وسمحوا له أن يرى بناتهم؟
– كانوا يتنافسون في استرضائه لأنه غني.
– يا لسفالة البشر، إذن لم ينظروا إلى فساد قلبه ولا حسبوا فعله معرَّة.
– ألا تعلمين أن حياة الشباب، ولطخة العار كالزيت والماء لا تمتزجان.
– حيرتني اصطلاحات الناس التي يسمونها آدابًا ونظامات اجتماعية، أنا وذلك الماكر اشتركنا بإثم واحد، وهو السبب الأول فيه؛ لأنه جرني إليه متذرعًا بكل صنوف الخداع، وقد قاومته بكل قوتي ولكنه تغلب عليَّ وأشركني فيه، فلماذا يسامحونه من غير أن يتوب، ويكفر عن جرمه ويعاقبونني غير مكترثين بتوبتي وكفارتي؟
فتأملت تلك الصديقة كلامي وقالت: إن هذا ظلم ثقيل وهو وصمة في محيا الإنسانية، والأنكى أن ذلك النذل كان ينتقد كل فتاة عرفها ويحسب عليها أقل عيب فيها، وكان يقول: «أطلب فتاة لم يمسها النسيم قط»، يا لضياع الإنصاف! دنس يطلب عفيفة طاهرة بل ملاكًا كريمًا، وعذراء وديعة لا تجد إلا خاطبًا أنفق شبابه في الفساد.
– وأخيرًا ماذا كان من أمره؟
– بعد ما اختبر كل الفتيات انتخب فتاة اعتقد أنها مثال العفاف وجبلة الطهارة، وقد دفعها إليه أهلها فرحين وهم يعلمون أنه قازورة رجاسة، وما مضى على قرانهما بضعة أشهر حتى صارت تلك المرأة مُتنازع العاشقين.
– يا لله وماذا فعل بعلها؟
– لم يستطع كبح جماحها، فهو وأهله صابرون على الضيم كاظمون غمهم، يموهون على دنس تلك المرأة الخائنة بالثناء على سيرتها، ويسترون عارهم بامتداح خصالها، والناس لا يزالون يجلون مقامها، ويكرمونها في مجالسهم وحفلاتهم كأنها العذراء، مع أنهم يعرفون حقيقة أمرها؛ ذلك لأنها تفعل منكراتها متوارية وراء بعلها، ومستترة بزوجيتها الشرعية.
•••
أرأيت يا موريس مبلغ فساد الهيئة الاجتماعية الحاضرة؟ لا أظنك تجهل أن بين المحصنات ألوفًا يبذلن أعراضهن لغير أزواجهنَّ حتى لخدمهن، ومع ذلك يغض الناس نظرهم عن دنسهن، ولكنهم يسددون سهام التعيير والازدراء بغير إشفاق إلى نسوة أسقطهن الحدثان، بيد أنهن بقين يتعززن على الأمراء والنبلاء.
كم يد يتناولها المتباهون بالشرف والطهر؛ ليقبلوها تشرفًا بها، وهي أدنس من قدم المومس التي يبصقون في وجهها؟ على أنهم لو تسامحوا مع هذه كما تسامحوا مع تلك، وأخذوا بيدها لرفعوها إلى مقامها الأصلي.
ينسب الناس شقاء الجنس البشري إلى حواء القديمة؛ لأنها أغوت آدم القديم مرة، فلماذا لا ينسبون هذا الشقاء إلى آدم الجديد وهو يغوي حواء الجديدة كل يوم ألف مرة؟
دعا الله على حواء بالآلام والأوجاع؛ لأنها أكلت من شجرة معرفة الخير والشر، وأغوت آدم فأكل وقيل: إن الجنس البشري كله سقط بسبب إغوائها، فهل يدعو الله الآن على الرجل بالويل؛ لأنه يغوي المرأة ويجر على الإنسانية الوبال؟
سبحانك اللهم في خلقك ما أبعد أسرارك عن مدارك البشر!
شقَّ الفجر ستار الظلماء وقلمي يندفع في مجراه كأنه يستلذ هذا الإملاء، ولكني أشعر بوهي جسمي، فأودعك الآن إلى فرصة أخرى، وها أنا جانحة إلى سريري أحاول أن أنام أو أن أرتاح.