الضحية العظمى
١٦ أبريل
كدت يا موريس أندم على مجافاتي لك في حين أني أحبك فوق العبادة؛ لأني ذبت غيرة أمس إذ رأيتك إلى يسار ميراي في مركبة، رأيتكما ولكن أحمد الله أنكما لم ترياني، ولو رأيتماني لتضاعف غمي، ومع ذلك أتيت إلى البيت واسترسلت في البكاء، ثم انطرحت في سريري أشكو ألمًا بين ضلوعي، ولكي تزيد نكايتي أتيت أنت وميراي وروشل وصاحبك أمس؛ لكي تمثلوا المأساة التي مثلتموها منذ مدة، ولا بد أنك تذكر دخولك عليَّ وتجلدي في مجافاتك، وخروجك حاقدًا.
خرجت من عندي يا موريس حينئذٍ خاطفًا راحتي وروحي؛ لأنه على أثر خروجك عرتني نوبة لا أعلم اسمها، ضاق نفسي جدًّا حتى خافت عليَّ فانتين، فاستدعت الطبيب حالًا، والطبيب أنذرها بالخطر المحدق بي فهمت من الطبيب أن علتي قلبية، وأن منيتي على الأبواب فلم آسف لها بقدر أسفي على تعلقك بميراي؟
أصبحت اليوم أحسن حالًا، فتناولت القلم لكي أناجيك وأنمَّ لك سيرة حياتي.
بلغتُ فيما كتبته لك إلى النقطة التي يبتدئ منها علمك عني، فقد عرفت أني بعد أن لازمتُ الحانة، أو بالأحرى المنتدى الذي أعددته للغواة الأغنياء، عرفت الأمير، وأحبني وأحببته دون سواه، واقترح عليَّ أن أترك الحانة وأعيش مختصة به، ففعلت.
بعد ذلك عرفتك وقد ذكرت لك السبب الذي حداني إلى أن أحبك حبًّا لم أحب سواك مثله، وهو أنك أنت الوحيد الذي نظر إلى شخصيتي الروحية، وأغضى عن شخصيتي الجسدية والشخص الوحيد الذي «لم يرمني بحجر.»
أحببتك حينئذٍ يا موريس؛ لأنك أحببتني معتقدًا أني أستحق هذا الحب كما تستحقه المحصنة من زوجها، والخطيبة من خطيبها.
أحببتك منتهى ما يستطيعه القلب البشري من الحب؛ لأنك أحببتني لأجل نفسي لا كما أحبني أولئك الفريسيون لأجل أنفسهم، كانوا يبجلونني في منزلي ويتمنون أن يقبلوا يديَّ في قاعتي، ولكنهم كانوا ينكرونني في الخارج أمام الناس؛ ليتبرءوا من دنسي وما هم أبرَّ مني.
أما أنت فقد ناقضت أولئك المرائين، وأكرمتني واحترمتني في العلانية كما في السرِّ، وشهدت بشرف نفسي وعرفتني بخطيبتك في نيوبار، ولم تقل حينئذٍ: إنها خطيبتك لكيلا تثير غيرتي.
لم أبتذل لك يا موريس؛ لأني كنت واعدة أن أبقى أمينة للأمير ما دمت أعيش بماله، ولم أشأ أن أنزلك منزلته؛ لأني أنزلتك مقامًا أرفع من مقامه، وأشفقت أن «أستنفقك» فرنكًا واحدًا عليَّ؛ لأني أحبك حبًّا حقيقيًّا.
ولكن الأمير لم يجهل مقدار حبي لك، فغار منك عليَّ كما غرت أنت منه، ولما رأيت أني لا أقدر أن أرضيكما معًا أبلغت الأمير أني مستقلة عنه، وصممت أن أعود إلى الحانة لأسترزق منها، وأعيش لك وحدك.
كنت حينئذٍ غائبًا في الإسكندرية يا موريس، وقد كتبت لك ولم أخبرك شيئًا من ذلك؛ لكيلا تسرع إليَّ قبل إنجاز شغلك وتمنعني عن فتح الحانة، فانتهزت فرصة غيابك وبحثت عن منزل لائق.
في اليوم التالي لسفرك أي: في الصباح الذي انفصل فيه الأمير عني، وصممت فيه على ما صممت حدث الحادث المهم غير المنتظر الذي حملني على مجافاتك بالرغم مني، وحمَّلني كل هذا العذاب الذي أعانيه في بعدك.
في ذلك الصباح إذ كنت أفكر في ماذا أفعل وفانتين خرجت لتفتش عن منزل، وأنا لم أزل في غرفتي بثوب النوم قرع الخادم على بابي، ودخل يقول: «إن فتاة في القاعة تلتمس مقابلتك يا مولاتي»، فقلت: «من هي؟» فقال: «لم تقل لي عن اسمها»، فقلت: «قل لها أن تنتظر ريثما ألبس ثوبي.»
بعد بضع دقائق دخلتُ إلى القاعة، فوجدت فتاة تراءت لي ملاكًا ارتدى الجسد البشري لكي يتجلى لي؛ لأني رأيت لأول وهلة في وجهها الصبوح كل أمائر الكمال، وشعرت بانعطاف قلبي إليها، ولاحظت اضطرابها شديدًا فتوقعت أن مهمتها عظيمة، فبادأتها بعد التحية قائلة: أذكر أني رأيت هذا الوجه يا مدموازيل قبل الآن، فهل تشرفينني بمعرفتك؟
– لست مخطئة يا سيدتي، فقد قدمني إليك المسيو موريس كاسيه في نيوبار مرة.
فكان كلامها هذا سهمًا ناريًّا عبر في صمامات قلبي، فكتمت ألمي وقلت: نعم، نعم، ذكرت الآن، اعذريني قد نسيت الاسم يا عزيزتي بل إن موريس لم يفصح في التعريف يومئذٍ، أو أني لم أنتبه حينذاك للأسماء.
– ماري مارتال.
– لي الشرف، هل أقدر أن أخدمك خدمة يا سيدتي؟
– أتؤذنين يا مولاتي أن أقفل الباب؛ لأن حديثي معك سري؟
فضغطت على زر جرس الاستدعاء؛ لكي يأتي الخادم فيقفله، فنهضت في الحال وأقفلته ثم عادت إلى جنبي وقالت: إن المعروف الذي ألتمسه منك يا سيدتي عظيم جدًّا، لا أظن أحدًا التمسه قبلي.
– عسى أن أستطيعه فأسر أن أخدمك به.
– إنه صعب جدًّا يا سيدتي؛ ولهذا أعده عظيمًا حتى إذا استطعته صنعت أعجوبة في عالم الإنسانية، ولقد لجأت إليك؛ لأني قرأت في سمائك يوم تعرفت بك في نيوبار أنك كريمة الأخلاق جدًّا، فطمعت في كرم أخلاقك.
فأنهض هذا القول نفسي وجسَّم فيَّ كل مبدأ شريف، ونبه كل عاطفة، ولكني كنت أسمع حينئذٍ نبضات قلبي السريعة كأن كلام الفتاة كان نذيرًا بشقائي فتجلدت وقلت: قولي يا عزيزتي ماذا تريدين فأفعله إذا كنت أستطيعه.
– إني يا سيدتي يتيمة الأبوين، وقد ربيت في بيت خالي وخالي عُني بتربيتي جيدًا كولد له، وفي العام الماضي خطبني المسيو موريس كاسيه …
فقلت مبغوتة: أخطيبك موريس.
– نعم يا سيدتي خطبني منذ عام تقريبًا.
– عجيب! لم يقل لي.
– إنه يحبك ويعلم أنك تحبينه، فكيف يذكر لك ذلك؟ إنه يداري إحساساتك.
فبهتُّ عند ذلك وشعرت أن بدر سعادتي قد أظلم في الحال، لم أدر لماذا أو كيف توقعت شقاء هائلًا، وبعد سكوت هنيهة استأنفت حديثها قائلة: لطالما ذكر موريس أمام أصدقائنا، ومعارفنا أنك امرأة شريفة النفس جدًّا طيبة القلب قويمة المبادئ، وقد ذكر ذلك مرة أمامي فكنت إذا سمعت هذا القول أتذكر ملامحك، فيتراءى لي أنه غير مغرور، والآن أتمثلك أمامي بهذه الصفات.
عند ذلك بدأ الدمع ينبض من مقلتي قليلًا لتأثري من كلام الفتاة؛ لأنه كان يصدر بملء الثقة وبحرارة، ثم قالت: قلت لك يا مولاتي: إن موريس خطبني منذ عام، ومنذ عرفك قلَّ تردده علينا، والآن لا يزورنا في الأسبوع سوى مرة قصيرة أو مرتين، وقد عرف أهلي أنه مشغول بك، وأن شغله هذا يفضي به أخيرًا إلى تركي، فهموا غير مرة أن يردوا له علامة الخطبة، فكنت أمانعهم وألتمس أن يمهلوه لعله يعود لي.
حينئذٍ بدأ دمع ماري يتفجر وهي تتكلم مجهشةً: إني أحب موريس يا سيدتي منتهى الحب، وأتصور أنه مؤملي الوحيد؛ ولا سيما لأني يتيمة وخالي لا يدوم لي، والحب يقوي الأمل؛ ولهذا منعتهم أن يجافوه مهما جافى، ورجوتهم أن يتسامحوا له، ويصبروا عليه كصبري مهما نأى وصد، وأخيرًا خطر لي خاطر لو ذكرته لسواك لضحك مني، ولكني أقدمت عليه وأنا واثقة أنك تجلينه؛ لأني أعتقد فيك ما يعتقده موريس، خطر لي يا سيدتي أن آتي إليك، وألتمس منك قلب موريس.
– ويلاه، إنك يا هذه تطلبين حياتي مجانًا.
وعند ذلك استرسلت في البكاء، ولم أستطع أن أكف دموعي أو أفوه بكلمة، فاستردت ماري قوتها وعادت تقول: سبق وعد موريس لي قبل أن عرفك وعرفته، وأحبني قبل أن أحبك وأحببته، ومع ذلك ما أتيت إليك يا سيدتي العزيزة؛ لكي أنازعك حقًّا لي، بل لكي أرجو منك أن تتفضلي به عليَّ إذا كان في وسعك، أسلم أن ما أطلبه منك فضل عظيم لا يقابل بفضل، وإن تنازلك عنه صعب جدًّا، ولكنك تقدرين عليه إذا شئت.
إني يا مدموازيل إيفون فتاة، والفتاة كالزهرة في حديقة حافلة بالزهر تنتظر قاطفها، فإذا لم يتيسر لها قاطف في مدة زهوها القصيرة؛ ليجعلها زينة لصدره فهيهات أن توفق إلى قاطف يعرف قيمتها قبل أن تذوي وينتثر ورقها على الأرض.
إذا تركني موريس فهيهات أن يطلب يدي فتًى آخر أحبه حبي لموريس، وإذا مالت نفسي بعده إلى سواه، فكيف أضمن أن أستميله إليَّ، ليس لي يا سيدتي إلا موريس أما أنت فإذا تركته فلك من تشائين من الشبان، الكل يتمنون رضاك، أما أنا فندر الذين يعرفون بوجودي.
أنت تقدرين أن تتسلي عن موريس، وتسليه بمن يحفل بك من الظرفاء، وبما يحف حولك من مسرات الحياة وأمجادها، أما أنا فأبقى سجينة في منزل خالي خاضعة لزوجته وأولاده، وبعد خالي لا أدري ماذا يكون مصيري.
سكتت ماري هنيهة فلم أجبها بغير البكاء، ثم قالت: إنك يا سيدتي بتضحية حبٍّ مستفاض تفتدين سعادة فتاة لا ترى نورًا للسعادة إلا في محيا خطيبها، فإذا غاب عنها ذلك المحيا خيَّم البؤس على قلبها كل عمرها، فإذا ضحيت هذه التضحية أحرزت مجدًا لم يسبقك أحد إليه، فحسبك أن يقال: إن المدموازيل إيفون مونار قهرت قلبها؛ لكي تنصف فتاة منه إذ اغتصب منها حبيبها.
سكتت هنيهة وأنا أخبئ وجهي بكفي وأكفكف دموعي، ثم سألتني: هل تحبين موريس يا سيدتي لكي تتزوجيه؟
فأجبت على الفور مجهشة: كلا، ولو طلب بإلحاح؛ لأن الناس لا يعدونني صالحة له.
– إذن ما دام يحبك فهو مقيد بك شارد عن الصواب، فقد يصرف عهد الشبيبة بل معظم العمر سدًى، فإذا أغفلته خدمته الخدمة الكبرى النافعة، وبذلك تبرهنين له على حبك الحقيقي، لا أنكر أنك تغالبين حب نفسك وتضحين بأنانيتك إلى حين، ولكنك تولين اثنين معروفًا عظيمًا، وحسبك فخرًا أن تكوني أول من ضحى بأنانيته لأجل من يحب؛ لأنه ما من محب حتى الآن حبس نفسه عن حبيبه بغية خيره، فكوني أنت فريدة بين المحبين بهذه المروءة الغريبة، وأضيفي هذه المحمدة إلى محامدك الوفيرة، إني أجلك جدًّا يا سيدتي؛ ولذلك أتيت أتوسل إليك.
ماذا كان تأثير هذا الكلام عليَّ يا موريس! إني أحببت خطيبتك كما أحببتك رفعت نظري إليها، فتصورتها حملًا وديعًا يضرع إلى ذابحه، فتقطع قلبي شفقة عليها.
لم أستطع أن أجيبها بكلمة، بل بقيت مسترسلة في نحيبي كالولد الصغير فدنت مني وطوَّقت عنقي بذراعها، وقبلتني في خدي قبلة حارة وقالت: إنك تفتتين فؤادي بهذا البكاء يا حبيبتي إيفون، فإن كان ملتمسي عزيزًا عليك، فإني أغالب قلبي وأقهره لأدع نصيبي لك، لا مناص من التضحية، فعلى واحدة منَّا أن تضحي بأنانيتها.
تصورتها عند ذلك ملاكًا أرسل من السماء؛ لكي يطهر قلبي ويغسل نفسي بقبلته، أو رسولًا أتى إليَّ؛ لكي يحثني على أن أكفر عن ذنوبي الأخيرة بكفارة عظمى، وهي أن أحبس قلبي عنك؛ لكي تسلم لخطيبتك، حدثتني نفسي أن أنطرح أمامها أقبل قدميها، وأبلهما بدموعي ملتمسة الغفران منها؛ لأني لها أخطأت في حبك، أشفقت أن ألثم ثغرها الطاهر وأنا دنسة الشفتين، وإن كنت طاهرة القلب، نظرت فيها لما قبلتني وقلت: إن موريس أصبح مبدأ حياتي الروحية، فكيف أطيق أن أفارق حياتي؟
– إن حبك الصادق يا سيدتي يطالبك بالحرص على مستقبل موريس، فإن كنت ترين أن مستقبله معك مجيد فاستبقيه، وشرف مبدئك يقضي عليك أن تنصفي قلبي من قلبك، فإن كنت تعتقدين أن قلبك أحق به فاستحوذيه، أنت خصمي وأنت حكمي فاقضي كما تشائين، فإني راضية بقضائك.
اعتدلتُ في مجلسي وكفكفت دموعي بمنديلي، وقد أصبحت عيناي متورَّمتين، وكان سكوت عدة دقائق وأنا أشرق كل لحظة بدموعي وأتنهَّد، وأخيرًا التفت إلى ماري وهي كالولد الصاغر، وكل ذرة منها ضارعة إليَّ وقلت: إن ثقتك بي يا عزيزتي غير ضالة وظنك غير مخطئ، فلطالما ضحَّيت برغائبي لأجل شرفي، فلتكن هذه أعظم الضحايا، أقسم لك يا ماري بشرفي وبنفسي الطاهرة …
فقاطعتني قائلة: لا تقسمي، إنك صادقة؟
– … إني أجفو موريس مغالبة هواي وشوقي إليه وقاهرة قلبي لكي يعود إليك، فأنت خير له مني وأبقى، أضحي بأنانيتي وحب الذات لكي يثبت للناس أن بين جنبي إيفون مونار قلبًا شريفًا، وإن عفافها لم يبذل إلا بحكم العادات الاجتماعية العسوفة.
ثم ملت إلى ماري وقبلتها في وجنتها، فتعلقت بعنقي كالطفل يعانق أمه، وجعلت دموعها الحارة تنهلُّ على صدري فضممتها إلى قلبي وقلت: قرِّي عينًا يا حبيبتي إن موريس لك وحدك منذ الآن، وبعد قليل يبرأ من حبي. فرفعت نظرها إليَّ قائلة: بربك لا تدعي موريس يعلم بزيارتي هذه لك، إن علم تنعكس الآية.
– لن يعلم قط؛ لأني لم أعلم أنه خاطب.
ثم فككنا عناقنا وجلسنا متحاذيتين، والأسى بيننا يعقد قلبينا بعروة حب لا تنحل، لم نتمالك أن نستأنف البكاء صامتين، ولكن ماري اقتضبت ذلك النحيب بأن نهضت إليَّ وقبلتني مرارًا، ومضت من غير أن تنبس ببنت شفة.
أتصدق يا موريس أني قاسيت بمجافاتي لك أكثر منك؟
بقيت وحدي بعد ذلك نحو ساعة أفكر فيك وفي خطيبتك، وأشعر بارتياح إلى تعهدي لها أن أردك إليها، صممت أخيرًا على ذلك وأنا لا أجهل صعوبته، بل أتوقع أن أعاني فيه أعظم عناء، ولكنَّ نفسي الكبيرة كانت تشدد قلبي لاحتمال ذلك العناء.
في ذلك المساء وصلني كتابك من الإسكندرية، ورددت لك جوابه بسيطًا، ولما انتقلت إلى المنزل الجديد تركتُ لك الرسالة المختصرة التي رجوتُ منك فيها الابتعاد عني لأنه خير لك، ولقد لقيت منك بعد ذلك كل ما توقعته من غيرتك ومكايدتك لي، فكنت أتحمله بالصبر آملة أن تصل إلى الغاية التي كنت أبعدك عني إليها، ولكني أتأسف لتعلقك بميراي، وأخاف أن تضلك عن صوابك، إني صابرة إلى النهاية؛ لأني أقسمت لماري خطيبتك أن أتركك بالرغم مني.