لقاء فيه الداء
جاء فصل الشتاء وفتحت الأوبرا الخديوية قلبها للمغرمين بالتمثيل، قصدت إليها لأول ليلة في ذلك العام، وكان كرسي في وسط الجانب الأيمن من الدرجة الأولى، جعلت أجيل نظري في جهات الملعب؛ لأنظر القادمين لا لأترقب إيفون؛ لأني كنت قد يئست من لقائها، ومع ذلك خطرت على بالي ليلتئذٍ، خاطر عارٍ من الرجاء.
بعد بضع دقائق بدا في مقصورة (بنوار) على يميني شاب جميل الطلعة جدًّا أنيق المظهر عليه النعماء يلبس طربوشًا، ومعه سيدة تزري بالملكات في جمالها وبهائها، ونفاسة زيها فشككت في أنها إيفون؛ لأن مظهرها كان يختلف عن المظهر الذي رأيتها فيه لأول مرة.
لا تعجب من ذلك يا دكتور بوشه، فإن التبرج يغير منظر المرأة كل التغيير، فقد ترى أختك في الأوبرا فلا تعرفها.
كنت أختلس النظرات منها كل هنيهة، وهل أستطيع أن أكف نظري عنها؟ بعد حين لاحظتني أخالسها النظر، فعادت ترمقني بألحاظ غير حادة كأنها مصوبة إليَّ عفوًا لغير معنى؛ ولهذا لم أتأكد أنها هي نفسها، على أنها أصبحت شاغلًا لبالي.
ولما انتهى الفصل رجعت عن مطل المقصورة، وجعلت تحادث الشاب الذي كان معها وفي خلال حديثهما دخل عليهما فتى إيطالي أعرفه جيدًا يُدعى أوغستو سلا فأنعش دخوله عليهما فؤادي، بقي معهما حتى نهاية الفصل الثاني وحينئذٍ لم أختلس منها إلا نظرتين أو ثلاثًا، وصممت على أن أراقب أوغستوجين يخرج وأقابله وأسائله عنهما.
ومن حسن حظي أنه خرج عند نهاية الفصل الثاني، فالتقيت به في فناء الملعب فحييته تحية الصديق الحميم مع أنه لم يكن قبلًا من جملة أصدقائي الأخصاء، فأجابني بتحية ودودة، وما تكلمنا جملتين حتى استدرجته إلى الموضوع الذي أنويه، فقال: إن المدموازيل مونار أعجبت بهذا الجوق الجديد.
– ما شأن هذه المدموازيل؟ وَمَنْ هذا الذي معها؟
فقال متعجبًا: أَلَا تعرف المدموازيل إيفون مونار؟
– كلا.
– عجيب جدًّا أنك لا تعرفها، وكثيرون يعرفونها لشهرتها في الجمال واللطف والأدب.
– لسوء حظي لا أعرفها، ولعلي رأيتها قبل الآن، مَنْ هذا الشاب الذي معها؟
– الأمير ص. ك. وهي محظيته الآن.
– كذا.
– نعم، وهو على علم وأدب.
– أظنه أتى بها من أوروبا؟
– كلا بل كانت مقيمة في منزل كبير في حي الإسماعيلية، وقد جعلت بيتها شبه حانة خاصة بالكبراء المتأدبين، وفيه تعرف بها الأمير، ثم وافقته على ترك الحانة والإقامة في منزل خاص بها وهو ينفق عليها سرًّا.
– إذن لا يزورها الآن غيره.
– بل يزورها أي مَنْ شاء من معارفها في أوقات الزيارة.
– هل يعلم الأمير بذلك؟
– من غير بد؛ لأنها لا تتظاهر محظية له؛ ولذلك تعيش على هواها غير أنها محافظة على عهودها معه وأمينة له أمانة الزوجة للزوج، وهو مهذب يُقَدِّر الأشخاص قدرهم؛ ولهذا وثق بها ولم يشأ بل لم يجسر أن يقيدها بقيد.
– أظنك عرفتها لعهد حانتها الخاصة.
– نعم؛ لأن لي صلة شغل بالأمير، فكنت أتردد معه إلى منتداها قبل أن احتظاها، والآن أزورها كثيرًا مع الأمير ووحدي.
– هل ترى التعرف بها عزيزًا الآن؟
– أتريد التعرف بها؟
فزممت شفتي كأن الأمر لا يهمني، فقال: إنها لفي منتهى اللطف يا مسيو كاسيه، وكل معارفها عشاقها لطيب عشرتها، فإذا شئت أعرفك بها فهلم.
– والأمير؟
– أعرفك به أيضًا.
– لا ليس الآن.
– أظن أن الأمير يمضي قبل نهاية التمثيل، فإن شئت أقدمك إليها وهي وحدها.
– بأي صفة؟
– عجيب! ألعل التعريف عقدة سياسية؟
– لا لست أحسبه عقدة، ولكني أودُّ أن تقول لها في ذلك أولًا، فلعلها تأبى استقبالي مراعاة لخاطر الأمير، فأعود كاسف البال.
– قلت لك: إن الأمير لا يحظر عليها ذلك، على أني أستأذنها من أجلك.
– لا تدعها تفهم أن الأمر كان بإيعازي، وإنما كان باستحسانك لِمَا بيننا من الصداقة.
إذن أشير إليك من المقصورة أن تأتي.
– كلا كلا، بل أرجو منك تأتي إليَّ وتأخذني إليها؛ لكي تجعل قيمة لصديقك الذي تقدمه لها.
– حسن.
عدت إلى مقري فنظرت الأمير يودع إيفون وأوغستو، فطفر قلبي فرحًا في صدري، وإذ كنت أرى أوغستو يسامرها جعلت نفسي تحدثني أنها قد تكون دون ما أنا أتوهمها، فلماذا أمثلها في نفسي شيئًا عظيمًا؟ ولكني لم أكن أرمقها بنظرة حتى أرى من جلالها ما يوهمني أنها أرفع من أن تطولها عزة نفسي.
اجتهدت أن أرد نظري عن مقصورتها مدة الفصل الثالث حرصًا على عزة نفسي وتجاهلًا لمعرفتها، لماذا؟ لا أدري، ولما انتهى الفصل خرجت إلى رحبة الملعب الخارجية أنتظر أوغستو، لم يأتِ إلا بعد دقيقة تراءت لي ربع ساعة فسألته: ماذا قالت؟
فضحك قائلًا: «مرحبًا به.»
– ماذا قلت لها؟
– «أودُّ أن أقدم لكِ أحد أصدقائي، وهو شاب ظريف مهذب يُدعى المسيو موريس كاسيه.»
– هل دللتها عليَّ؟
– لم تسألني ذلك.
– إني لممتن لك جدًّا يا مسيو سلا.
صعدنا في الدرج المؤدي إلى رواق المقاصير، وأنا أكاد أتعثر بالدرجات، وأتوهم أن الأرض مرنة جدًّا تحت قدمي فلم أعلم كيف أمشي، ولما دخلنا شعرت أن لهيبًا يتوهج من وجهي، فاستقبلتني إيفون بابتسامة كانت نسمة حياة لقلبي، لا أنسى تلك الابتسامة السماوية ولكني لاحظت أنها بوغتت بمقابلتي، كأنها لم تكن تنتظر أن أكون أنا الْمُقَدَّم لها، قَدَّمني أوغستو لها فمدَّت إليَّ يدها مصافحة، ثم قعدت على الكرسي المقابل لها، شعرت حينئذٍ أني لدى ملكة جليلة، وما أمهلتني أن أخاطبها بموضوع الرواية حسب عادة المتخاطبين في مثل ذلك المقام فبادأتني سائلة: أظن حضرتك الذي رأيته في حانة الجيزة منذ مدة.
– ربما.
وحينئذٍ اتضح لون الحياء في وجهي فتفرست فيَّ وقالت: لا أظنني غلطانة، أما أنت الذي أنَّب يومئذٍ ذلك البذيء لمضاحكته أولئك السكارى؟
– أتأسف لِمَا حصل يا سيدتي.
– إني أشكر مروءتك جدًّا يا مسيو كاسيه، وأعترف أني قصرت عن أداء الشكر لك إذ لم يتسنَ لي في حينه.
فقال أوغستو: ما المسألة؟
فراوغت من سبيل سؤاله قائلًا: ليس الأمر ذا أهمية. كيف رأيتِ الرواية يا مدموازيل مونار؟
– استحسنتها جدًّا؛ لأنها كلها عواطف، كدت أبكي في هذا الفصل، فابتسمت قائلًا: إذن تميلين إلى الروايات الإحساسية.
– جدًّا، وأنت؟
– لا أقرأ سواها تقريبًا.
– تفعل حسنًا؛ لأن الروايات التي اقتصر فيها على ذكر الحيل والدسائس تعجب القارئ إعجابًا فقط لأنها تدل على قدرة واضعها في اختلاق حوادثها الغريبة، ولكنها لا تفيده فائدة أدبية، وأما الروايات الإحساسية فتؤثر على نفسه التأثير المقصود منها، فإن كان مغزاها أدبيًّا مفيدًا هَذَّبت خلقه ودمثت طبعه، وأنا أشعر أن أخلاقي ربيبة الروايات.
– ولكن مزاجك يا سيدتي لا توافقه مطالعة الروايات الإحساسية؛ لأن حوادثها المؤثرة تفعل في نفسك ما يؤثر على صحتك أحيانًا.
فنظرت إليَّ نظرة حادة كأنها لم تعهد قبلًا مثل هذا الإحساس نحوها من أحد معارفها وقالت: نعم أعلم ذلك، ولكني أشعر بلذة فائقة حتى حين أبكي متأثرة.
وعند ذلك التفتت إلى جهات الملعب وتناولت منظارها، وقدمته لي باسمة فتقبلته شاكرًا، ونظرت فيه نظرة قصيرة ورددته إليها، أما هي فكانت ناظرة إلى صحن الملعب من غير اكتراث، أجلت نظري في المقاصير المقابلة لمقصورتها، فوجدت بضعة عشر منظارًا متجهة إلينا، ولاحظت بعد ذلك أنه ما من منظار في الملعب إلا صُوِّب إليها مرارًا، أما هي فندر أنها نظرت في منظارها، بقينا بعد ذلك هنيهة ساكتين فاغتنمت فرصة استرسال نظرها في فضاء الملعب، وتأملت ذلك الجمال السماوي.
لو اجتمع مهرة المصورين وصانعي التماثيل، وأفرغوا كل جهدهم في أن يجمعوا في تمثال واحد صفوة المحاسن، وخلاصة الجمال نقلًا عن مخيلاتهم لكان ما يصطنعونه تمثال إيفون بعينه.
هيكل متناسب الأعضاء كأنه صُبَّ في قالبٍ مصوغ من الأذواق السليمة، لم أقدر حينئذٍ أن أتمثل قامتها؛ لأنها كانت جالسة، على أني ذكرت إذ رأيتها في الجيزة أنها أميل إلى الطول بالنسبة إلى جسمها، ولكنها معتدلة بالنسبة إلى سائر النساء؛ ذلك لأنها كانت أرق جسمًا من معدل الأجسام النسائية، ومع رقة جسمها لم تتراء لي نحيلة فكان وجهها ممتلئًا، ونظرت إلى كفها العارية من القفاز (الجوانتي) فوجدتها مكسوة السطوح كالبطحاء لا منخفضات فيها ولا مرتفعات، وأناملها مستطيلة قليلًا تكاد تظهر منتفخة عند عقدها الأولى، وهذا من دلائل عصبية مزاجها، وأظافرها لا تتميز عن اللؤلؤ النقي الشفاف إلا بكونها ضاربة إلى الحمرة الوردية قليلًا.
ولولا كثافة شعرها الفاحم لتراءى رأسها صغيرًا بالنظر إلى بدنها؛ لأن وجهها يتراءى كذلك، لم أشهد في حياتي رواء أصفى من رواء وجهها، فكنت أتوهم أن لأهداب جفنيها ظلًّا في أعماق وجنتيها كظل العشب النابت على ضفة النهر في الماء الصافي، ولا رأيت قطُّ نجلًا كنجل عينيها إذا أطرقت ظننت الجفن العلوي يغطي الجفن السفلي، وإذا رفعت نظرها فمهما انفرج جفناها لا تظهر حدقتها كلها، لا ترى لها من المقلة إلا شكل نواة لوزة مستدقة أوسطها حالك السواد وجانباها عاجيَّا البياض، وفوق عينيها حاجبان مقوسان دقيقان، ولكنهما حالكان — يتكاثفان حيثما يتطرفان، ولكنهما لا يتلاقيان، ويستدقان حيثما يتطرفان ولكنهما لا ينطلقان، وبينهما أنف يوناني تتوهمه شفافًا، وتحته شفتان كأنهما ورقتا شقيق ملتفتان حيثما تتماسان، وبينهما قناة منحنية قليلًا متحدرة الضفتين، وقد فرش قرارها مثل اللآلئ كأنها مجرى للابتسام وعذب الكلام.
كل لمحة من ملامحها تدل على عاطفة في داخلها.
إذا تكلمت تصورت قلبها بين شفتيها، ومتى تفرست خلت روحها تطل من عينيها، وإن سكنت توهمت أنك تسمع خطرات أفكارها، أو أنك ترى ضميرها يرتسم على محياها، فكأن روحها وضميرها وذكاءها وكل عواطفها قد تجسمت حتى بدت جسدًا يحوي جسمها، الذي رقَّ ولطف وشفَّ حتى صار خيالًا روحيًّا، رأيتها رزينة جدًّا ولكن البشاشة خلقة في طلعتها، ونور البشر خالد الإشعاع عن وجهها.
ولما أوشك الستار أن ينكشف عن الفصل الرابع استأذنتها وصافحتها، وعدت إلى مكاني، وبعد ذلك لم أعد ألتفت إليها إلا نادرًا، فكرت بكل كلمة قالتها إيفون، أعملت ذهني في أن أستدل من حديثها معي على اكتراثها بي فلم أجد دليلًا مقنعًا، ذبت وجدًا واحترقت غيرة؛ لأنها لم تحفل بي ولا دعتني لزيارتها ولا استبقتني في مقصورتها إلى أن ينتهي الفصل على الأقل، ولا فسحت لي مجالًا لمحادثتها فوهن خيط رجائي.
بعد التمثيل ركبت مركبة، وتبعت مركبتها حتى وقفت أمام منزل باذخ في التوفيقية، وكان أوغستو معها فصعد أمامها إلى المنزل، صرفت مركبتي وبقيت أتمشى منتظرًا رجوع أوغستو فلم يرجع حالًا، ثم انتبهت إلى أنه لا يليق بي أن يعلم أوغستو بلحاقي بهما فانصرفت حالًا.
قضيت ذلك الليل يقظ البال مضطجع الجسم، وطيف إيفون يرفرف فوق سريري واليأس والرجاء يتجاذبانني، يئست لعدم إعبائها بي كما كنت أنتظر. ولكن تيهها عليَّ هو الذي زاد ولوعي بها، ولو لاطفتني كثيرًا لعدت زاهدًا بها ورافضًا نعمة ساقتها الأقدار إليَّ، حدث لي غير مرة أني صادفت فتاة جميلة، فشغلت بالي كما شغلته إيفون حتى إذا اجتمعت بها، وظفرت منها بقبلة عدت زاهدًا بها.
خطر لي أن أتذرع إلى زيارتها بواسطة أوغستو، ولكن لسوء حظي برح في اليوم التالي إلى الإسكندرية لأجل غير مسمى.