سلسبيل حديث
يممت ذلك المقام السامي خافق الفؤاد. ما بالك تضحك يا عزيزي بوشه من تخوفي هذا؟ لم أكن أخاف من إيفون ولا من الأمير، وإنما كنت أخاف أن آتي أمرًا تستنكره إيفون فتستثقلني فكنت أبذل جهدي أن أظهر لها خفيف الروح رقيق المزاج.
أرسلت مع البواب بطاقتي، وبقيت في المركبة، وبعد بضع دقائق عاد يقول: «تفضل»، فأوجست من تأخره وقلت: لا بد أنها ترددت، استقبلتني فانتين بطلعة باشة وفتحت لي القاعة، فوجدتها على غاية من الترتيب والنظام.
كنت أظن أن إيفون تستقبلني بثوب المنزل؛ لأني كذا أعهد رصيفاتها في منازلهن، ولكنها وافت إليَّ بعد عشر دقائق بثوب أنيق كأنها تستقبل زائرًا نبيلًا، وبعد التحية قالت باشة: كنت أنتظر زيارتك قبل الآن يا مسيو كاسيه.
– ليتني عرفت أني حاصل على هذه النعمة يا سيدتي.
فابتسمت قائلة: أما خطر لك لأول تعارفنا أن تزورني.
– نعم تمنيت ذلك بيد أني لم أعلم في أي الأحوال تجوز زيارتي.
– ولكن كيف علمت الآن؟
فتوقفت هنيهة ثم قلت: أتيت الآن مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى؛ خيفة أن تزعجك زيارتي.
– أراك حذورًا جدًّا يا مسيو كاسيه.
– لأني أعلم أن بعض الزائرين يلجئن السيدات أمثالك أحيانًا إلى أن يبتسمن لهم في وجوههم، ويضحكن عليهم في أقفيتهم وهم يعلمون ذلك ولا يبالون.
– ولكنك لست من أولئك الزائرين.
– وأنتِ تجلين عن أولئك السيدات فأحمد الله على ذلك.
وكان البشر حينئذٍ يسطع عن محياها، وشعرت أن كل نغمة من نغمات كلامها اللطيف جذبة لي نحو فؤادها حتى صرت أتخيلها أخيرًا منطرحة على ذراعي، أو متكئة على صدري، وكل ما كنت أراه من خيلائها وتيهها في الماضي أصبح حينئذاك وداعة ورقة، وكل ما توقعته من تدللها وإعراضها وجدته لطفًا ورضًى وتعطفًا؛ ولذلك انقلب تخوُّفي السابق إلى جرأة، وتحول ترددي إلى دالة ويأسي إلى أمل، وبعد سكوت هنيهة قالت بلهجة رقيقة جدًّا وبثغر باسم، وقد لاحظت أن ظليلًا من الحمرة غشي وجهها: ما الذي حملك يا مسيو موريس على زيارتي الآن؟
– ألعلكِ لا تستقبلين الزوار الآن؟
فتململت قليلًا وقالت: لست أعني أن زيارتك لي أمر محظور في حين من الأحيان، وإنما أستفهم عن الداعي الذي ساقك إليَّ.
وكان ثغرها يتدفق ابتسامًا ووجهها بشاشة، وشعرت أن وجهي يتلهب والدم يتدفع في عروقي، فقلت: لا أظن يا سيدتي أن داعي زيارتي أمر خفي، ظننت نفسي أحد أصدقائك فرأيت أنه من الواجب عليَّ أن أزورك، وما أراني أسأت الظن.
– بل أحسنته، مرحبًا بك.
ثم أدارت نظرها في القاعة إلى أن انتهى عند البيانو فقالت: لا بد أنك تحب الموسيقى؟
– جدًّا.
– فتودُّ أن تسمع الآن لحنًا؟
– إنه لطف عظيم جدًّا يا مدموازيل.
بعد ما ضربت على البيانو عدة ألحان هممت أن أمضي، فأمسكتني قائلة: لست تذهب، بل تبقى إلى أن نتناول الشاي، فإني منتظرة صديقين قد دعيا نفسيهما لتناوله عندي.
– أشكر لطفك جدًّا.
ثم جلسنا نتحدث فكنت أراني حينئذٍ في بحر من السرور عميق القرار، وما دنت الساعة الرابعة حتى وافى إلينا صديقاها المنتظران: المسيو أوكتاف بوشار، والمسيو فكتور تينارديه، وهما شابان في عنفوان الشباب، فعرفتهما بي، أما المسيو تينارديه فخفيف الحركة جدًّا، ولكنه كان ثقيل الظل على قلبي؛ لأنه منذ دخل لم يهدأ له ثائر، فكان تارة يجلس إلى البيانو فيلعب عليه، ثم يجلس إلى جنب إيفون فيمازحها، ثم إلى جنب فانتين فيداعبها، وأما إيفون فكانت تضحك منه كثيرًا؛ ولهذا غرت منه وخفت أنها لا تستلطف الأصدقاء إلا إذا كانوا مهاذير كالمسيو تينارديه وما أنا كذلك، أما المسيو بوشار فكان أقل خفة من فكتور وأقل رزانة مني.
وبينما كان فيكتور يداعب فانتين جذبها إليه، وهم أن يلثم ثغرها فنفرت منه نفور الظبي من الذئب، فانتهرته إيفون غاضبة قائلة: إنك لوقح.
فضحك قائلًا: وماذا يكون لو فعلت؟
– قلة أدب.
فاكفهر وجهه؛ لأنه رأى انفعال إيفون شديدًا وقال: كلا بل هو الأدب بعينه.
– بل هو التسفل بعينه.
فضحك ضحك الساخر قائلًا: لسنا في كنيسة.
– الأدب واجب في كل مكان فالزمه أو فامضِ.
– إني أعلم في أي منزل أنا.
وعند ذلك كانت إيفون تنتفض من الغضب، وفكتور يقدح شرر الغيظ من عينيه فقالت له: ماذا تعني؟
– أعلم أني في منزل يجوز فيه كل شيء، فهل تريدين أن توهمي يا إيفون أن منزلك دار للملائكة.
– متى رأيت فيه مثل ما فعلت.
وحينئذٍ كان بركان غيظي قد انفجر، فنهضت من مكاني إليه كأني أهم أن أضربه وقلت له: نعم إنه منزل الأطهار وأنت تدنسه، فاسترد كل أقوالك.
فوقف قائلًا لي: ما شأنك أنت؟
– إنك تدنس هذا المقام وَمَنْ فيه.
وحينئذٍ اعترض المسيو بوشار بيننا، وتينادريه أجاب: ليس في هذا المكان نقتتل، عَيِّن مكانًا للمبارزة وشهودك.
– بل الآن أو ترجع عن قولك.
وعند ذلك غشي الاكفهرار وجه إيفون، واستلقت على المقعد مغمى عليها، فتركت فكتور ودنوت منها وجعلت أعالجها ووافى البقية يساعدونني، وبعد هنيهة أفاقت فأخذناها إلى سريرها، أما فكتور فاعتذر وتأسف على ما جرى، ثم مضى هو ورفيقه بوشار، وبقيت جالسًا إلى سرير إيفون صامتًا وهي مضطجعة لا تطيق التكلم، وفانتين جالسة عند قدميها تنتظر إشارة منها بأمر، وبعد برهة أمرتها أن تعدَّ لها بعض اللبن، ثم التفتت إليَّ وقالت: موريس!
فخفق فؤادي لهذا النداء الذي رنَّ فيه رنة القيثار السماوي، فأجبت: مولاتي.
– إنك الرجل الوحيد الذي يحبني، كما أن فانتين المرأة الوحيدة التي تحبني كنفسها.
– فانتين تحبك كنفسها، وأنا كم تظنين أني أحبك؟
– أعلم أنك تحبني كثيرًا يا موريس، تحبني أكثر من جميع الرجال الذين عرفتهم.
– أحبك أكثر من نفسي …
– لا تتسرع يا موريس لئلا تندم.
– بل أعبدك.
– لا تبالغ فتكذب.
– آه يا إيفون لو تعلمين متى أحببتك، وكم أحببتك وماذا قاسيت في حبك.
– علمت أنك أحببتني حبًّا حقيقيًّا، ولكن قُلْ لي: هل تعرف حقيقة أمري؟
– أعرف أنكِ محظية الأمير …
– … لا زوجته.
– نعم.
– إذن قد برهنت لي على حبك الصادق ثلاث مرات، والثلاثة عدد كاف للتوكيد، وأما غيرك مِمَّنْ يدَّعون حبي حتى الأمير نفسه، فلم يوردوا برهانًا واحدًا.
– بل إن كل لحظة من حياتي بعد إذ عرفتكِ هي دليل واضح على حبي لكِ يا إيفون، ولسوء حظي لم تطلعي على هذه الأدلة.
– لا، لا تدري أنت أي البراهين أقنعتني بحبك، فاسمع أذكرك منها البرهان الأول في الجيزة …
– لا تذكري تلك الحادثة يا إيفون، فإن المروءة شيمة كل مَنْ يدَّعي الرجولية.
– أصغ، لا تقاطعني، إنك لم تدرك ما عنيت، لا أحسب دفاعك عني برهانًا على حبك لي؛ لأن دفاعًا كهذا شيمة كل ذي مروءة ينبض في عروقه دم شريف كما قلت، ولكن قولك لذلك الوغد: «أرى أنها شريفة النفس»، هو البرهان الذي يقنعني، قد يمكن أن أنسى تلك الحادثة، ولكن هذه العبارة تظل تلوح في ضميري حتى متى صرت في عالم الأرواح؛ لأنها شهادة لنفسي الخالدة لا لجسدي الفاني، والله يشهد أني شريفة الروح. والبرهان الثاني في نيوبار إذ لم تستنكف أن تعرفني بأنسبائك مع علمك أني في عُرف الناس امرأة ساقطة، والبرهان الثالث الآن إذ قلت لفكتور عن منزلي: «إنه منزل الأطهار وإنه يدنسه.»
سمعت ذلك الكلام الشريف مطرقًا فقلت لها: إنك يا إيفون جوهر حياتي فأجدر بأهم جزء في شخصيتي أن يكون شريفًا.
فابتسمت ونظرت إليَّ نظرة جسمت الرجاء في فؤادي، واسترسلت في كلامها: يعدني الناس ساقطة يا موريس …
– إنهم يفترون عليكِ.
– أنت وحدك تعتقد كذلك؛ ولكن جمهورهم على أن المرأة المبتذلة الساقطة دنسة الجسد والنفس، وهب أنها جمعت كل الفضائل فلا يغتفرون لها ذلك الإثم لأجل فضائلها.
إنهم جائرون؛ لأني لا أرى فرقًا بين المبتذلة والمحصنة التي تأثم نفس الإثم فضلًا عن سواه، ومع ذلك يتسامحون لها.
بل هناك فرق عظيم وهو أن المحصنة تأثمه مختبئة وراء رجل تشركه بأذى إثمها، ومع ذلك يتعامى الناس عنه، وأما المبتذلة فتأثمه لاجئة إلى حريتها الشخصية، ولا يؤذي بإثمها سواها، ومع ذلك يرجمونها كأنهم بلا خطية، ويعاقبونها كأنها لهم أذنبت، كل أصدقائي يكرمونني ويعظمونني ويبذلون الغالي والرخيص لي ويتمنون رضاي، يفعلون ذلك في منزلي أو في خلوتي معهم، ولكنهم يأبونه عليَّ في مجالسهم الخصوصية، ويستنكفون دخولي إلى منازلهم، يُقَبِّلون الأرض عند قدمي في غرفتي، ولكنهم ينكرونني في السبيل، يأكلون على مائدتي ولكنهم لا يقبلونني في حفلاتهم، وهو ذا الأمير وهو يساكنني استنكف أن يصطحبني إلى المرقص الخديوي، يتوددون إليَّ ويتغزلون بجمالي ويطنبون بمدح لطفي ويغالون في الثناء على دماثة خلقي، ولكنهم كلمة واحدة لا يقولون على طهارة نفسي، بل عند أقل خلاف بيني وبينهم يطعنون فؤادي طعنات نجلاء بنبال التعبير، كما فعل فكتور اليوم، لماذا يفعلون كذلك؟
لأنهم يحتقرون شخصيتي الروحية، ولا يكرمون شخصيتي الحيوانية؛ إِلَّا لأنهم يحبون أنفسهم؛ فلأجل شهوتهم يتوددون إليَّ لا لأجلي، فمتى لا يكونون في حاجة إلى رضاي ينبذوني نبذ النواة، ولو كانوا يحبونني الحب الحقيقي لكانوا يذكرون لي محامدي الكثيرة ويمحون لي هفوة واحدة جرني إليها خداع الرجل، ودفعني إليها ضعف البشرية، ولما كانوا يستنكفون أن يترحبوا بي في منازلهم ويذكروا مآثري في حفلاتهم ومجالسهم.
قُضِيَ عليَّ يا موريس أن أهفو مرة، فكانت تلك الهفوة علة ابتذالي وهواني كل العمر، أعلم يا موريس أني في نظر الآداب الاجتماعية امرأة ساقطة، ولكن ليس كل ما في شخصيتي ساقطًا، لم تزل فيَّ نفس شريفة جدًّا، جاهدت طويلًا في عمل المبرات، وتقلد الفضائل والحرص على العفاف، ففي حين كان الكذب ينقذني من مخالب الشر، أو يغنيني كنت أقول الحقيقة عن نفسي، وحين كنت قوية على هضم حقوق سواي كنت أتنازل عن حقوقي، وقد افتكرت بالفقراء وأنا في قمة عزي ومجدي، وآسيت الحزانى وأنا في نشوة سروري، وقد ضحيت بحياتي — آه حياتي — كلها حرصًا على عرض سواي، فعلت كل ذلك لكي أمحو عاري، فأبى الناس أن ينسوا زلتي ويذكروا لي حسنة من حسناتي.
وكانت حينئذٍ قد بلغت منها الحدة شدتها، فجلست في سريرها وألقت كفها على مخدتها مقومة ذراعها، وكادت عيناها تُلفظان من وجهها، وأما أنا فكنت مبهوتًا من هذا الخطاب، الذي لم أكن أتصوره يلوح في ضمير امرأة يعدونها ساقطة، وقد استرسلت فيه.
– آه يا موريس كفَّرت كثيرًا عن هفوتي الأولى، ولا ريب عندي أن الله قبل كفارتي وغفر خطيئتي، وأما عبيده فلم يزالوا إلى الآن يدينونني ويرجمونني بحجارة التعيير، والتحقير والازدراء، فهم يقتلون ويشهدون زورًا ويسلبون ويغتصبون، ويظلمون ويزنون ونساؤهم تفعل المحرمات كلها ومع ذلك يتساهلون بعضهم لبعض، وينسبون واحدهم للآخر الفضل والشرف والنزاهة، وأما نحن النساء غير المحصنات فمخزيات مهما فعلنا من الصالحات، تعرفت بكثيرين فلم أجد واحدًا يأخذ بيدي ويرفعني إلى مقام نفسي الحقيقي، تردَّد عليَّ كثيرون من المحبين، ولكن كانت غايتهم سافلة، فإذا لم أنلهم إياها تفلوا في وجهي ومضوا، الأمير أفضل وأشرف مَنْ صادقني، ومع ذلك لا أراه يُكرم فيَّ غير الجزء الحيواني، وأما نفسي الشريفة فلم يكترث بها ولم يعرف لها قيمة.
لم أجد غيرك يا موريس رجلًا أجلَّ حياتي الروحية، وتجاوز عن حياتي الجسدية فأنت الوحيد الذي أحبني الحب الحقيقي، ورفع نفسي إلى مقامها.
عند ذلك لم أتمالك أن تناولت كف إيفون الرخصة ورفعتها إلى شفتي ودموعي تبلها، بعد هنيهة تلاشت حدتها فنظرت فيَّ باسمة وقالت: إذن تحبني يا موريس.
– إلى حد الجنون منذ رأيتك لأول مرة في الجيزة.
– كيف ذلك وأنت لم تعرفني؟
– عرفتك حينئذٍ، عرفت أن لكِ قلبًا كبيرًا لم يزل خلوًّا من الحب الحقيقي، وروح ملاك طاهر وعواطف امرأة شريفة، أَلَا تكفي هذه المعرفة لأن تضرم نار حبك في قلبي؟
– عجيب! كيف اعتقدت ذلك فيَّ؟
– كان في كل لمحة من ملامحك بيان فصيح لمبادئك وأخلاقك.
– لماذا لم يدرك ذلك سواك؟
– لأن الناس يحكمون عليكن حكمًا واحدًا.
– لماذا لم تسعَ إلى مقابلتي على الإثر؟
– جعلت قهوة الجيزة مزاري كل مساء، أين أتوقع أن أراك إلا هناك؟
– ندر أني ذهبت إلى هناك، ليتني علمت ذلك.
– لم تفتكري بي وإلا لحدثك ضميرك أن تكون تلك القهوة ملتقانا.
– افتكرت أن أراك لكي أشكر معروفك.
– إذن لم يحدثكِ قلبكِ كما حدثني قلبي؟
– كلا.
– ولا خطر لكِ أن تكلميني كلمة إذا صادفتني.
– أنت قاس وإلا فلا تخز ضميري بهذا الكلام.
– رأيتني في عربتك في الجزيرة، فكأنك لم تريني.
– أنا؟
– أنتِ.
– غلطان.
– مؤكد.
– لا أتذكر قطُّ.
– وقع نظرك على نظري كما هو واقع الآن.
– إذن لم أعرفك.
– أرأيت أنكِ نسيتني سريعًا؟
– أتنتظر أن مثلي تذكرك في الحال؟
– ألم يكن هناك داعٍ خاص لتذكيرك؟
– ولكنني لم أعِ طيفك في مخيلتي.
– أنا وعيت.
– لا ريب أنك نظرت إليَّ حينئذٍ كثيرًا؛ لأن أولئك السكارى لفتوا الأنظار إليَّ، أما أنا فلم أرك إلا قدر لمحة إذ وقفت تناقش ذلك البذيء.
– لم تتمهلي حتى تعرفيني جيدًا.
– لم يدع لي روعي مهلة لذلك، أما رأيتني بعد ذلك؟
– لم أركِ بعد مصادفتي إياك في الجزيرة.
عند ذلك فكرتْ هنيهة وقالت: كنت مدة في الإسكندرية.
– رأيتكِ أول ليلة من ليالي التمثيل في الأوبرا …
– رأيتك في كرسيك وأنت تخالسني النظر، فخطر لي أن لهذه الملامح صورة في مخيلتي، ولكني لم أفطن أين رأيتك قبلًا حتى دخلت عليَّ، ولما سألني أوغستو أن يقدمك إليَّ لم يخطر لي أنك أنت المعني.
– لم تعبئي بي وأنا لديك في المقصورة.
– رأيتك رزينًا جدًّا فحاذرت أن أتمادى في مسامرتك.
– لم تطلبي مني ولو من قبيل المجاملة أن أزوركِ.
– لم أعتد أن أطلب ذلك من أحد.
– أما علمتِ أني سعيت إلى التعرف بكِ بواسطة أوغستو؟
– فهمت أن ذلك كان بغية أوغستو لا بغيتك.
– كذا كان الظاهر والحقيقة أني أنا التمست منه ذلك.
– أترى أنك كنت أنوفًا محاذرًا؟
– نعم حاذرت خشية الفشل.
فضحكت قائلة: ولد، لماذا لم تزرني بعد تلك المقابلة؟
– تبعت عربتك إلى منزلك.
– لماذا لم تصعد؟
– كيف أجسر؟
– مجنون.
– اجتمعت بكِ ثانية إذ كان الأمير معك.
– كنت أشد رزانة من قبل.
– خشيت أن أسوء الأمير.
– معذور.
– رأيتني مرة وأنتِ في عربتك.
– أذكر جيدًا أني حييتك بابتسامة.
– لماذا لم تستوقفي العربة؟
– هل كنت تنتظر ذلك؟
– أما كنتِ حينئذٍ قد أحببتني؟
– كنت قد بدأت تشغل قلبي، ولكنك إلى ذلك الحين لم تزرني.
– لما كنت مع أنسبائي في الأوبرا لم تعيريني نظرة واحدة.
– حاذرت أن يعرف أنسباؤك أن لك صلة بي.
– كنت أودُّ أن يعرفوا.
– إذن قصدتم إلينا قصدًا في نيوبار؟
– بل لقيناكم مصادفة.
– لو عرفتَ أننا هناك؟
– لما كنتُ أتردد في أمر الاجتماع بكما إلا لأجل ما لاقيته من إعراضك ليلتئذ.
– عرَّفتهم أني حليلة الأمير لا خليلته.
– أليس ذلك أفضل؟
– أرأيتَ أنك تستنكف أن تُعرَف ذا صلة بمبتذلة؟
– توبخينني؟
– بل أعذرك، بل كنت ألومك لو لم تقل أني زوجة الأمير، إذا كنت أنت لا تستنكف أن يعرفني ذووك كما أنا فهم يستنكفون.
– لم تمكثي حينئذٍ طويلًا.
– للسبب الذي ذكرته لك الآن.
– والآن يا إيفون؟ إني أحبك كل الحب.
– لا شك عندي بحبك.
– أصبح اجتماعي بكِ من ضروريات حياتي.
– تزورني حينًا بعد آخر.
– ألا يمكن أن أراكِ غدًا؟
– في الأوبرا.
– أزورك في مقصورتك؟
– من غير بد، لا تنسَ يا موريس أنك تحبني الحب الحقيقي، وأنك تعتبرني شريفة العواطف.
– لماذا هذا التنبيه؟
– أخاف أن تندم فتستبدل حبك هذا بحب آخر.
– ماذا تعنين؟
– أخاف أن لا تجد سرورك في هذا الحب، فتطلبه من حب فاسد.
– إني راض بما قسمت لي يا إيفون، وهو نعمة لم أطمع بها من قبل.
– عند ذلك قَبَّلت يدها وكانت الشمس على وشك الغياب، فخرجت من عندها وقد أصبحنا حبيبين متعاشقين.
ما صدقت أن وافى موعد التمثيل في الأوبرا حتى ذهبت وزرتها تلك الليلة في مقصورتها بحضور الأمير، وكنت أظن أنه يمتعض مني فأخلف ظني بحسن عشرته، ووفرة بشاشته كأنه كان شديد الاطمئنان من قبلي ووطيد الثقة بإيفون.
وبعد ذلك لم أعد أطيق الصبر عن زيارة إيفون، فصرت كل يوم أتوقع العصر بفروغ صبر؛ لكي أذهب إليها، وهي صارت تعرف موعدي فتنتظرني، وأحيانًا كنت أجد الأمير عندها فيحسب أن التقائي به عندها مصادفة لاعتقاده أن زيارتي لها نادرة، وأخيرًا لم أعد أصطبر إلى العصر فصرت أذهب إليها أحيانًا قبل الظهر بعد إذ أتأكد أن الأمير خرج من عندها، وفي عهد قصير صرت وإيفون عشيقين متلازمين تلازم الظل للشبح.