الهوى العذري
وفي ذات يوم من أيام مارس كان الطقس دافئًا جدًّا، والأمير غائبًا عن مصر، فذهبت وإيفون وفانتين والخادم إلى القناطر الخيرية؛ لنقضي نهارًا بين الأزهار والخضرة والماء.
شعرت أن إيفون قد أفعمت حبًّا في ذلك الخلاء، وكأن كل ذرة من ذرات جسمها تنعطف نحوي، تأملتها وهي متكئة عند جذع الشجرة بثوبها البنفسجي والزهور منثورة أمامها، فوجدتها تحفة الخالق للطبيعة، تصورت حينئذٍ ذلك الكيان بلا إيفون ناقصًا، وأنه لو ذهبت منه لبقي مكانها من جمال الطبيعة فارغًا إلى ما شاء الله.
لم أتمثل إيفون حينئذٍ إلا غمامة عواطف أرق من الهواء، بل ألطف من الأثير وقد تقلصت تلك الغمامة حتى صارت كتلة يحويها ذلك الثوب المادي.
كانت كل الوقت باسمة متهللة، فكنت أتخيل أن مياه سعادتي تجري في أخدود بين شفتيها، وكل ابتسامة شعاعة من نور حياتي، وكنت أحس أن كل نسمة من أنفاسها غذاء لروحي.
جرَّدنا الحب حينئذٍ عن كل مادة، فكنت أرانا روحين تتمازجان في فضاء الخيال، فما أوردت إيفون معنى إلا شعرت أنه حلقة في سلسلة تصوراتي، ولا لفظت لفظة إلا كانت نقرة على وتر من أفكاري.
كنت أرى بعين ذهني أشباح معانيها السامية، وأسمع بأذن ضميري حفيف أفكارها اللطيف، ما أهنأ تلك الساعات بل تلك الأيام التي قضيتها إلى جنب إيفون!
لا تقدر يا عزيزي بوشه أن تتصور كيف قضينا ذلك النهار في صفاء روحاني، فكانت ملائكة السماء تحف حولنا لتتلقن حديث الهوى البشري، وتنشره في عالم الأرواح لتطلع سكان السماء على سفر الحب السامي.
قلت لإيفون: بقيت لي أمنية واحدة.
– ماذا؟
– أن تنقضي حياتي بانقضاء هذه السعادة.
– تنقضي حياتنا يا موريس وسعادتنا لا تنقضي، بل تتم إذ نتجرد من أثقال هذه الحياة.
– بل تنقضي بانقضاء هذا النهار.
فحملقت بي مضطربة وقالت: لماذا تتشاءم! لا أعتقد أن السعادة تنقضي إلا بانقضاء الحب، لقد روعتني.
– لم أحسن التعبير يا إيفون، لا تنقضي وإنما تنثلم إذ يمازجها كدر.
– لا أفهم ماذا تقول.
– إننا سنفترق عند المساء.
– ولكن تبقى روحانا متحدتين، فهل نفترق إلا مفكرين فكرًا واحدًا إلى أن نلتقي ثانية؟
– ولكن الأمير يشغل قسمًا من أفكارك.
فابتسمت قائلة: أتغار يا موريس!
– كيف أحب إذن!
– الأمير بعيد عن قلبي.
إني أحرص على كل ذرة منكِ يا إيفون، أبخل بهدب ثوبك على الأمير، أضن بلمسة كفك، أقتر بنسمة أنفاسك، أريد أن تكوني لي كلك كما أني لكِ بجملتي.
– أراك يا موريس موشكًا أن تفسد حبنا.
– لأني أحرص على كل جزء منكِ!
– بل لأنك تمزج حياتنا الروحية بالحياة الجسدية؛ أحببتني لأنك اعتقدت أن روحي طاهرة، وتجاوزت عن حياتي البشرية، وأنا أحببتك وحدك لأجل هذا الاعتقاد، فحياتي الروحية لك وأما حياتي الجسدية فدعها لي.
– لا أطيق يا إيفون، لا أطيق أن أرى الأمير إلى جنبك، إني أحبك وأضع قلبي تحت قدميك، فلماذا يدوسه شخص آخر معك؟
– إن الأمير سند حياتي الجسدية يا موريس فدعني أتكل عليه.
– بل اتكلي عليَّ، كل مالي فهو لكِ فلماذا لا نقضي بقية العمر متمتعين تمام التمتع يا إيفون إذا لم يكن ما يحول دون ذلك؟
– أتريد أن أحبك حبي للأمير؟ يعزُّ عليَّ أن تحل محله؛ لأنك أرفع من هذا المحل، أرأيت أنك أخذت تفسد حبنا وتغير ظني فيك؟
– كوني زوجةً لي كما أنك حبيبة لقلبي.
فتنهدت من أعماق رئتيها وطفر الدمع من عينيها، وقالت: ليتني أصلح لك زوجة بل خادمة!
– أي زوجة أجد مثلك يا إيفون؟
– كلا، لا تشطُّ عن الصواب يا موريس، أنا والناس خصوم إن التصقت بك انفصل الناس عنك وأهلك في مقدمة المنفصلين، فابقَ مبتعدًا عني إذ لا غنى لك عن الناس، وأنا أحرص عليك في قلبي.
– أنتِ كل الناس لي يا إيفون، أكتفي بكِ عن كل شيء، وأستغني بحبك عن كل مقام ومجد، أنتِ مجدي وغناي بل حياتي، فلماذا لا تتحدين بي فنقضي العمر كله منفصلين عن العالم، وماذا أبتغي من العالم إذا كنتُ إلى جنبك؟
– تعلم منزلتي يا موريس، إذا حاولت أن ترفعني حاول العالم أن يحطنا معًا، فلماذا تنحط بي؟ ارعوِ، إني أحبك فلا أضحي بك، فابق لأهلك ولزوجتك المنتظرة، ولذويك ولمقامك السني المجيد، أنت في عنفوان الشباب وأمامك مستقبل زاهر فلا تنبذه لأجلي، لست أدوم لك، إني أكاد أسبقك سنًّا وقد استنفدت معظم حياتي فيما مضى من أيامي القصيرة، ولا بد أن تذبل زهرة جمالي بعد قليل فأمضي تاركة لك شوهة في جبين حياتك.
– لا أعدُّ نفسي حيًّا بعدك يا إيفون، ولا أحسب من عمري إلا الأيام التي أقضيها معكِ، فلماذا لا تريدين أن تتمي سعادتي؟
فتأففت وكفكفت دموعها قائلة: إن نفسي تكاد تلتهمك حبًّا يا موريس وأوشك أن ألبِّي شهوتها، فلا تطمعها بما ليست لائقة له، لا تغرني؛ لأصبح لك زوجة.
– لا حياة لي إلا بأن تكوني لي، زوجة أو غير زوجة لا فرق عندي، أتحمل عدوان العالم لأجل حبك يا إيفون، إني غني عن كل الناس، فلماذا نضحي بسعادتنا ولذتنا لأجل التقاليد البشرية الفاسدة؟
– أراك تضطرني أن أعود إلى حياتي السابقة، تضطرني أن أجدد الحانة وأفتح منزلي لكل غر، وأتكلف الابتسام لكل أحمق جاهل وأتحمل ثقالة الثقلاء، وفظاظة الهمج وأصبر على سفاهة الأراذل، بربك لا تدفعني إلى هذا العذاب يا موريس، لم يعد لي جلد ولا طاقة على تكلف المجاملة ومعاشرة مَنْ أستثقلهم.
– ما الموجب لذلك يا إيفون؟ إنكِ عديمة الثقة بي.
– بل إني غيورة عليك، أضن بمالك كما أضن بشرفك، إني لك إلى أمد قصير يا موريس، فأودُّ أن يبقى شرفك لك ولذويك ومالك لبنيك.
– ليس لي بعدك أهل يا إيفون، فلأنفق ثروتي على حبنا ولنعش هنيئين.
– إنك غبي يا موريس بل متهوِّر، ولكن حبي لك يقيك من السقوط، إني مسرفة والأمير غني يستطيع أن يلقم فم إسرافي ما دمت حية، فدع حياتي الجسدية تعيش على سخائه.
– كلا لا أطيق لا أطيق.
إذن تضطرني إما أن أعيش بالتقتير أو أفتح الحانة ثانية، وكلا الأمرين فوق طاقتي.
– بل تعيشين معي كما أعيش.
– أعيش لك ولكن لن أعيش معك، حسبك ما أبنت لك من جهلك لمصيرك، إني أحبك جدًّا يا موريس فأشفق عليك.
وجعل الدمع ينهمر من مقلتيها، وقد اتكأت على ذراعي وطوقت عنقي بذراعها، فشعرت أن ملاكي الحارس ينعطف عليَّ، فمزجت دمعي بدمعها وقلت: آه يا إيفون، إني أرضى أن أتحد بك وأتطعم بشرفك الروحي، وعارك الجسدي وأترك هذا العالم بما فيه من الفساد ودعوى المدنية والفضيلة، ولكن أنتِ لا تريدين أن تتممي سعادتي فماذا أفعل؟
– لست تعلم ماذا تقول يا موريس، فكفى أن تجرح فؤادي، بقدر ما يكون القلب مضطرمًا بالحب تكون النفس مولعة بالمجد، فأنا أتوقع لك مجدًا باهرًا جدًّا فيه لذة فائقة لك، والحب بلا المجد كالمصباح المطفأ، فابقَ في العالم لينير فيه بهاؤك، وإلا فإذا تركت العالم والتصفت بي كنت بلا بهاء، إني أحبك يا موريس فأشتهي أن أرى مجدك متألقًا، حبيبي موريس، لا تطرح نفسك في ظلمتي.
– أبقى في العالم يا إيفون وأكون معكِ في الخفاء كما يفعل الأمير.
ففكرت هنيهة متحيرة، ثم قالت: إذن أبيع رياش منزلي وبعض حلاي، وأنفق ثمنها فيما بقي من حياتي، وأعيش عيشة بسيطة.
– إنك تجرحين فؤادي بهذا الكلام يا إيفون، مهما كان الأمير أغنى مني، فإني أقدر أن أقدم لكِ ما يقدمه.
– اطو هذا الحديث فإن الخوض فيه يسوءني، إذا انفصلت عن الأمير لا أحمل أحدًا ثقلًا من أثقالي، كن مطمئنًّا يا حبيبي موريس إني لك بجملتي.
وعند ذلك لم أتمالك أن ضممتها إلى صدري، وقبلتها قبلة حارة، وقبل أن تأذن الشمس بالمغيب قمنا نتمشى إلى المحطة، فكنا كالولدين الصغيرين بسيطي القلب لا نعرف كدرًا من أكدار هذه الحياة.