اختفاء السيدة فرانسيس كارفاكس
تساءل هولمز وهو ينظر بثباتٍ إلى حذائي الطويل: «لكن لماذا التركي؟» كُنتُ مُضطجِعًا على كرسيٍّ ذي ظَهرٍ من الخَيزرانِ في هذه اللحظة، وجَذَبَت قدماي البارزتان انتباهه المُتَّقِد دومًا.
أجبته باندهاش: «إنه حذاءٌ إنجليزيٌّ اشتريتُه من مَتجَر لاتيمر في شارع أكسفورد.»
ابتسم هولمز بتعبيرٍ ينِم عن السأَم وفقدان الصبر.
قال: «أقصد الحمَّام! الحمَّام! لماذا تُفضِّل الحَمَّام التركي المُرخي للأعصاب ذي التكلفة الباهظة على الحمَّام المُنعش المنزلي؟»
«لأنني في الأيام الأخيرة شعرتُ ببعض الآلام الروماتيزمية والهَرَم؛ والحَمَّام التركي هو ما نُطلِق عليه الطب البديل؛ إنه يعطيك بدايةً مُنعِشة كما أنه مُنظِّف للجسم.»
ثم أَردَفتُ: «بالمناسبة يا هولمز، لا شك عندي في أن ثَمَّةَ علاقةً واضحةً تمامًا بين حذائي الطويل والحمام التركي من حيث التفكير المنطقي، ومع ذلك سأكون مُمتنًّا لك إن أَوضَحتَها لي.»
قال هولمز ببريقٍ خبيثٍ في عينَيه: «إن أسلوبي في التفكير المنطقي ليس غامضًا إلى هذه الدرجة يا واطسون؛ فهو ينتمي إلى أسلوب الاستدلال الأساسي نفسه الذي سيتحتم عليَّ شرحه إن سألتُك مَن ركب معك السيارة الأُجرة التي رَكِبتَها هذا الصباح.»
رددتُ عليه ببعض الغلظة: «لا أرى في تقديم مثالٍ توضيحيٍّ جديدٍ أيَّ تفسير.»
«أَحسَنتَ يا واطسون! هذا احتجاجٌ مُحترمٌ ومنطقيٌّ للغاية. دعني أرَ، ماذا كانت النقاط؟ لِننظرْ في آخرِ نقطةٍ أولًا؛ السيارة الأجرة. لعلك تلاحظ وجود بُقعٍ من رذاذٍ على كُم معطفك الأيسر وكتفه. لو كنت تجلس في منتصف العربة، فعلى الأرجح لم تكن هذه البقع ستنالك، ولو كان هذا ما حدث، كانت بالتأكيد ستصبح متناسقة. إذن من الواضح أنك جَلَستَ على الجانب. ومن ثَمَّ يتضح أيضًا أنك لم تكن وحدك.»
«هذا واضح تمامًا.»
«بديهي جدًّا، أليس كذلك؟»
«لكن ماذا عن الحذاء الطويل والحمام؟»
«بالبساطة نفسها؛ فمن عادتك أن ترتدي حِذاءَك الطويل بأسلوبٍ مُعيَّن، وأراه هذه المرة مربوطًا بعقدةٍ ثنائيةٍ محكمة، تختلف عن طريقتك المعهودة في ربطه؛ هذا يعني إذن أنك قد خَلَعتَه. ولكن مَن ربطه لك؟ إما إسكافي، أو الفتى الذي يعمل في الحمَّام. ومن غير المحتمل أن يكون الإسكافي؛ نظرًا لأن حذاءك جديدٌ تقريبًا. حسنًا، ماذا يبقى لدينا؟ الحمَّام. الأمر بسيط، أليس كذلك؟ لكن بصرف النظر عن كل هذا، فقد استفدنا من هذا الحمَّام التركي.»
«في أي شيء؟»
«تقول إنك حَصَلتَ عليه؛ لأنك بحاجة إلى تغيير. دعني أقترح عليك تغييرًا. ماذا عن لوزان، يا عزيزي واطسون، تذكرتان على الدرجة الأولى وجميع النفقات مدفوعة على نحوٍ سَخي؟»
«رائع! لكن لماذا؟»
اتكأ هولمز للخلف في مقعده الوثير وأخرج دفتر ملاحظاته من جيبه.
وقال: «إن من أخطر الفئات في العالم المرأة المُنساقة العديمة الأصدقاء؛ فهي عادةً ما تكون أقلَّ أنواع البشر ضررًا وأكثرهم نفعًا، ولكنها تكون الباعث الحتمي الذي يدفع الآخرين إلى ارتكاب الجريمة؛ فهي عديمة الحيلة، وتهوى التنقُّل، ولديها ما يكفي من الموارد التي تكفُل لها الانتقال من بلدٍ لآخَر، ومن فندقٍ لآخر؛ فهي ضائعةٌ طَوال الوقت في متاهةٍ من النُّزل «والفنادق» المغمورة. إنها مثل دجاجةٍ ضالةٍ في عالمٍ من الثعالب. وحين تُلتهَم، بالكاد يفتقدها الناس. وأخشى كثيرًا أن تكون السيدة فرانسيس كارفاكس قد أصابها مكروهٌ ما.»
شعرتُ براحة كبيرة من هذا الانتقال المفاجئ من العام إلى الخاص. نظر هولمز إلى ملاحظاته.
ثم واصل حديثه قائلًا: «السيدة فرانسيس هي الفرد الوحيد المُتبقِّي من الأُسرة المباشرة لإيرل رافتون الراحل. ذَهبَت الممتلكات إلى الفرع الذكوري، إن كنت تذكر. أمَّا هي فلم تحصل إلا على أموالٍ محدودةٍ للغاية، ولكنها حصلت أيضًا على مجوهراتٍ إسبانيةٍ مُميَّزة للغاية من الفضَّة والألماس الغريب الأشكال، ارتبطت بها بشغفٍ بالغ، لدرجة أنها رفضت تركها مع صاحب المصرف وظلَّت تحملها معها أينما ذهبت. إن السيدة فرانسيس شخصيةٌ مثيرةٌ للشفقة؛ فهي سيدةٌ جميلةٌ لا تزال في منتصف العمر، ولكن بسبب تغيُّرٍ غريب، أصبحت آخر ما تبقى مما كان قبل عشرين عامًا أسطولًا ضخمًا.»
«إذن ماذا حدث لها؟»
«آه، ماذا حدث للسيدة فرانسيس؟ هل هي على قيد الحياة أم تُوفِّيَت؟ هذه هي قضيتنا؛ فهي سيدةٌ لها عاداتٌ منضبطة، وطَوال أربعِ سنواتٍ اعتادت بانتظام أن تكتبَ مرةً كل أسبوعَين للآنسة دوبني، مُربِّيتها العجوز، التي تقاعَدَت منذ وقتٍ طويلٍ وتعيش في كامبرويل. والآنسة دوبني هي من طَلبَت استشارتي؛ فقد مرَّت خمسة أسابيع تقريبًا دون أن تتلقى منها كلمةً واحدة. آخر خطاب تَلقَّته كان من فندق ناشونال في لوزان، ويبدو أن السيدة فرانسيس تَركَت هذا المكان دون أن تترك أيَّ عُنوانٍ لها. تشعر الأُسرة بقلقٍ بالغٍ عليها، وبما أنها أسرةٌ فاحشة الثراء، فلن يبخلوا بأي مبلغٍ من المال إذا استطعنا استجلاء الأمر وحل هذا اللُّغز.»
«وهل الآنسة دوبني هي المصدر الوحيد للمعلومات؟ بالتأكيد كانت تراسل أشخاصًا آخرين، أليس كذلك؟»
«من المؤكد أنها كانت تراسل جهةً أخرى واحدةً فقط يا واطسون، وهي البنك؛ فالسيدات الوحيدات لا بد أن يعشن أيضًا، ودفاتر حساباتهن هي مُفكِّراتٌ يوميةٌ زاخرةٌ بالمعلومات. إنها تضع أموالها لدى بنك سيلفستر. وقد أَلقَيتُ نظرة على حسابها، فرأيت أن الشيك قبل الأخير دَفعَت به فاتورتها في لوزان، ولكنه كان بمبلغٍ ضخم، وربما تَبقَّت منه أموالٌ نقديةٌ في مُتناوَل يدَيها. ومنذ ذلك الحين لم تصرف إلا شيكًا واحدًا.»
«إلى مَن، وأين؟»
«إلى الآنسة ماري ديفاين. ولم يَرِد أي شيء يُوضِّح مكان صرف الشيك؛ فقد صُرف في بنك كريديه ليونيه في مدينة مونبلييه قبل أقل من ثلاثة أسابيع، وكان بمبلغ خمسين جنيهًا.»
«ومَن هي الآنسة ماري ديفاين؟»
«لقد تَمكَّنتُ من اكتشاف هذا أيضًا. كانت الآنسة ماري ديفاين خادمة السيدة فرانسيس كارفاكس. لكننا لم نُحدد بعدُ السببَ وراء دفع هذا الشيك لها. ومع ذلك، أنا لا أشك في أن أبحاثك ستحل هذا اللغز عما قريب.»
«أبحاثي!»
«ولهذا السبب جاءت الرحلة العلاجية للوزان. أنت تعلم أني لا أستطيع ترك لندن وأبراهامز العجوز في مثل هذه الحالة من الرُّعب القاتل على حياته. إلى جانب إلى أنه بوجهٍ عامٍّ من الأفضل ألَّا أترك البلاد؛ فهم يشعرون بالوحدة في سكوتلانديارد دون وجودي، كما أن هذا يتسبب في إثارةٍ غيرِ صحيةٍ بين فئات المجرمِين؛ لذا عليك الذهاب يا عزيزي واطسون، وإن كانت مشورتي المتواضعة في أي وقتٍ ذاتَ قيمة وتستحق من السخاء ما يجعلك تدفع بِنسَين في الكلمة؛ فإنها ستكون رهن تصرُّفكَ في أي وقتٍ من ليلٍ ونهارٍ على الجانب الآخر من التلِغراف القاري.»
وجدتُ نفسي بعد يومَين في فندق ناشونال في لوزان؛ حيث تَلقَّيتُ كل الترحاب من السيد إم موسر، المدير المعروف. وقد أخبرني أن السيدة فرانسيس ظلَّت هناك لعدة أسابيع، وحَظِيَت بإعجاب كل مَن التقى بها. وأمَّا عن عمرها، فلم يتجاوز الأربعين، وكانت لا تزال حسنة المظهر وتحمل كل علامةٍ تدل على أنها كانت امرأةً رائعةَ الجمال في شبابها. لم يكن السيد إم موسر يعرف أي شيء عن المجوهرات الثمينة، لكن الخدم لاحظوا أن الصندوق الثقيل الذي كان بداخل غرفة نوم السيدة كان مُغلقًا طَوال الوقت على نحوٍ مثيرٍ للريبة. أمَّا الخادمة ماري ديفاين، فكانت معروفةً تمامًا كمخدومتها. وقد كانت مخطوبة لواحدٍ من رؤساء النادلِين في الفندق، ولم يكن من الصعب الحصول على عنوانها. كانت تسكن في ١١ شارع تراجان، مونبلييه. وقد دَوَّنتُ كل هذا وشَعَرتُ بأن هولمز نفسه لم يكن لِيُظهر براعةً أكثرَ من ذلك في جمع الحقائق.
لم يَتبقَّ إلا شيءٌ واحدٌ غامض؛ فلم يكن لديَّ ما أستطيع به استجلاء السبب الذي دفع السيدة إلى مغادرة الفندق فجأة؛ فقد كانت سعيدةً للغاية في لوزان. وثَمَّةَ أسبابٌ كثيرةٌ تدفعني إلى الاعتقاد بأنها كانت تعتزم البقاء طَوال الموسم في غرفتها الفخمة المُطِلَّة على البُحيرة. ومع ذلك فقد غادَرَت، ولم تُخطِرْهم بذلك إلا قبل المغادرة بيومٍ واحدٍ فقط، مما جعلها تتكبَّد دفع إيجار أسبوعٍ كاملٍ دون الاستفادة منه. ولم تتوافر أي اقتراحاتٍ لتفسير ما حدث إلا لدى جول فيبار خطيب الخادمة؛ فقد ربط مغادرتها المفاجئة بزيارة رجلٍ طويل القامة ذي لونٍ داكنٍ ولحيةٍ إلى الفندق قبل يوم أو يومَين. صاح جول فيبار بالفرنسية: «إنه شخصٌ همجي؛ شخصٌ همجيٌّ بحق!» كان هذا الرجل يمتلك منزلًا في مكانٍ ما في المدينة، وكان يتحدث بجِديةٍ مع السيدة على المَمشى أمام البُحيرة، ثم جاء بعد ذلك لزيارتها، ولكنها رَفضَت مقابلته. كان رجلًا إنجليزيًّا، لكن لم يَرِدِ اسمه في سِجِلات الفندق. وبعدها غادَرَت السيدة المكان على الفور. يرى جول فيبار، وكذلك حبيبته، وهو الأهم، أن الزيارة والمغادرة كانتا سببًا ونتيجة. ثَمَّةَ شيءٌ واحدٌ فقط لم يتحدث عنه جول فيبار، وهو سبب ترك ماري لمخدومتها. فلم يستطع أو لم يكن راغبًا في البوح بأي شيءٍ في هذا الشأن. وإن أردتُ معرفة هذا، فعليَّ الذهاب إلى مونبلييه وسؤالها بنفسي.
وهكذا انتهى الفصل الأول من تحقيقاتي. أمَّا الفصل الثاني، فكان مُخصَّصًا للمكان الذي قَصدَته السيدة فرانسيس كارفاكس بعدما تَركَت لوزان، وهو الأمر الذي وَجَدتُه محاطًا بقَدْرٍ من السرية، مما أكد فكرةَ أنها قد غادَرَت وهي عازمةٌ على إبعاد شخصٍ ما عن طريقها، وإلَّا فلماذا لم تحمل حقائبها بطاقةً واضحةً تُشير إلى ذهابها إلى بادن؟ فقد وَصلَت هي وحقائبها إلى منتجعٍ صحيٍّ في منطقة الراين عبر طريقٍ غيرِ مباشر. كُنتُ قد جَمَعتُ كل هذه المعلومات من مدير مكتب كوك المحلي؛ ولهذا توجهت إلى بادن، بعدما أرسلتُ إلى هولمز تقريرًا بكل الإجراءات التي اتخَذتُها، وتلقيتُ برقيةً بها إطراءٌ شِبهُ تهكُّميٍّ ردًّا على هذا التقرير.
لم يكن من الصعب تَقفِّي أثرها في بادن؛ فقد أقامت السيدة فرانسيس في فندق إنجليشر هوف لأسبوعَين، وهناك تَعرَّفَت على الدكتور شليسنجر وزوجته، وهو مبعوثٌ تبشيريٌّ من أمريكا الجنوبية؛ فالسيدة فرانسيس، مثل معظم النساء الوحيدات، كانت تجد في الدين مصدرًا للسلوى وشَغل الفراغ. وقد أَثَّر فيها الدكتور شليسنجر بعمقٍ بشخصيته الرائعة، وتفانيه الصادق، وحقيقة أنه كان يتعافى من مرضٍ أُصِيب به في أثناء تأديته لمهامِّه البابوية. وقد ساعَدَت السيدة شليسنجر في تمريض هذا القدِّيس الناقِه، فكان يقضي يومه، على حد وصف المدير لي، على أريكةٍ في الشُّرفة، تحيط به من كلا الجانبَين سيدةٌ ترعاه وتحوطه بعنايتها. كان يُعِد خريطةً للأرض المقدسة، مع إشارةٍ خاصةٍ إلى مملكة مَديَن، التي كان يكتب عنها دراسةً أحادية. وأخيرًا، ومع تَحسُّن حالته الصحية كثيرًا، عاد هو وزوجته إلى لندن، وذَهبَت السيدة فرانسيس إلى هناك بصحبتهما. كان هذا قبل ثلاثة أسابيع فقط، ولم يسمع المدير أي شيءٍ عنها منذ ذلك الحين. وأمَّا عن الخادمة، ماري، فقد رَحلَت قبل ذلك ببضعة أيامٍ والدموعُ تفيض أنهارًا من عينَيها، بعدما أَخبَرَت الخادمات الأخريات أنها ستترك العمل إلى الأبد. وقد دفع الدكتور شليسنجر حساب هذه المجموعة بأكملها قبل المغادرة.
وفي النهاية قال صاحب الفندق: «بالمناسبة، أنت لست الصديق الوحيد للسيدة فرانسيس كارفاكس الذي يُحقِّق وراءها بعد رحيلها؛ فمنذ أسبوع أو نحو ذلك جاء إلينا رجلٌ للمهمة نفسها.»
سألته: «هل أعطاك اسمه؟»
«أبدًا؛ لكنه كان رجلًا إنجليزيًّا، وإن كان غريب الأطوار.»
قلتُ وأنا أربط بين الوقائع الموجودة لديَّ على طريقة صديقي المُحقِّق الشهير: «هل كان همجيًّا؟»
«بالضبط، هذا أدق وصف له؛ فهو رجلٌ ضخمٌ ذو لحيةٍ ووجهٍ سَفعَته الشمس، يبدو كما لو أنه يشعر بالراحة في نُزلٍ ريفيٍّ أكثر من فندقٍ فخم. إنه رجلٌ غليظٌ وشرس، على ما أظن، وأعتقد أنه من النوع الذي سأندم كثيرًا إن أسأتُ إليه.»
بَدأَت معالم اللُّغز تتضح، مع ازدياد الشخصيات وضوحًا بعد انحسار الضباب؛ فلدينا هذه السيدة الطيبة الفاضلة التي تتعرَّض للملاحقة من مكانٍ لآخر من شخصٍ شريرٍ وقاسٍ. لقد كانت تخشاه، وإلا لما هَربَت من لوزان. ومع ذلك فهو لا يزال في إثرها، وسيصل إليها عاجلًا أو آجلًا. أم تُراه وصل إليها بالفعل؟ وهل كان ذلك هو سِرَّ صمتها المستمر؟ وهل عجز رفقاؤها الأخيار الذين كانوا بصحبتها عن حمايتها من عنفه أو ابتزازه؟ وما الغَرضُ الرهيبُ والهدفُ العميقُ من وراء هذه المطاردة الطويلة؟ هذه هي المعضلة التي كان عليَّ حلها.
كتبتُ إلى هولمز لِأُريه كيف وصلتُ بسرعةٍ ويقينٍ إلى جذور المسألة. وجاءني الرد في برقيةٍ يطلب مني فيها وصفًا لِأُذن الدكتور شليسنجر اليسرى. إن أفكار هولمز عن الدُّعابة غريبةٌ ومهينةٌ في بعض الأحيان؛ ولذلك لم أُعِر اهتمامًا لهذه الدُّعابة التي في غير محلها، وكنتُ قد وصلتُ بالفعل إلى مونبلييه سعيًا وراء الخادمة ماري، قبل أن تصلني رسالته.
لم أُواجه صعوبة في العثور على هذه الخادمة السابقة ومعرفةِ كل ما يمكنها أن تخبرني به. كانت إنسانةً مُخلصة، ولم تترك مخدومتها إلا بعدما تأكَّدَت من أنها في أيدٍ أمينة، ولأن زواجها الوشيك جعل انفصالها عنها أمرًا حتميًّا على أي حال. وقد اعتَرفَت في أسًى بأن مخدومتها قد تعامَلَت معها بحدةٍ وانفعالٍ أثناء إقامتهما في بادن، حتى إنها استَجوَبَتها ذاتَ مرةٍ كما لو كانت تَشُك في أمانتها، مما جعل انفصالها عنها أسهل مما لو كان عليه بخلاف ذلك. وقد أعطتها السيدة فرانسيس خمسين جنيهًا هديةَ زواجها. كان لدى ماري، مثلي تمامًا، ارتيابٌ رهيبٌ في ذلك الغريب الذي دفع مخدومتها إلى ترك لوزان؛ فقد رأته بعينَيها وهو يُمسك بمِعصَم مخدومتها بعنفٍ بالغٍ في المُتنَزَّه العامِّ بجوار البُحيرة. كان رجلًا عنيفًا وشنيعًا. وكانت ماري ترى أن السيدة فرانسيس لم تقبل صحبة عائلة شليسنجر إلى لندن إلا بدافعِ الخوف منه. لم تتحدث إلى ماري قَطُّ عنه، لكنْ ثَمَّةَ كثيرٌ من العلامات الصغيرة أقنَعَت الخادمة بأن مخدومتها كانت تعيش في حالة من الخوف العصبي المستمر. وبمجرد أن وَصلَت إلى هذا الجزء في قصتها، حتى انتَفضَت فجأةً من كُرسيِّها واعتَلَت وجهها ملامحُ المفاجأة والخوف، وصاحت: «انظر! هذا الوغد ما زال يتبعني! هذا هو الرجل نفسه الذي حدَّثتُك عنه.»
رأيتُ عبر نافذةِ غرفة الجلوس المفتوحة رجلًا ضخمَ الجثة داكنَ اللون ذا لحيةٍ سوداءَ خشنة، يسير ببطء في منتصف الشارع ويُحدِّق بلهفة في أرقام المنازل. كان واضحًا أنه كان يتتبع الخادمة مثلي. وبدافع الموقف ودون تفكير، هُرِعتُ إلى الخارج وبادرته بالكلام.
قلت له: «أنت إنجليزي، أليس كذلك؟»
فسألني بعُبوسٍ ينم عن شَرٍّ بالغ: «وماذا إن كنتُ كذلك؟»
«هل لي أن أسألك عن اسمك؟»
قال لي بحزم: «لا، لا يمكنك.»
كان الموقف غريبًا، لكن الأسلوب المباشر غالبًا ما يكون الأسلوب الأفضل.
سألته: «أين السيدة فرانسيس كارفاكس؟»
حدَّق بي في دهشة.
قلت له: «ماذا فَعَلتَ بها؟ لماذا تعقَّبتَها؟ أنا مصرٌّ على الحصول على إجابة!»
استشاط الرجل غضبًا وانقض عليَّ كالنمر. لقد صمدتُ في كثيرٍ من الصراعات من قبل، لكن الرجل كانت له قبضةٌ من حديد وبه غضبٌ شيطاني. كانت يده على حلقي وكِدتُ أفقد الوعي قبل أن يخرج عاملٌ فرنسيٌّ غيرُ حليقٍ يرتدي قميصًا أزرق اللون مندفعًا من ملهًى ليليٍّ مقابل، وفي يده عصًا ضخمة، وضرب المعتدي عليَّ ضربةً قويةً أَحدَثَت جُرحًا بالغًا في ساعده، مما دفعه إلى ترك رقبتي. وقف للحظة وهو يشتعل غضبًا ومُتردِّد بشأن ما إذا كان عليه أن يُكرِّر هجومه. ثم زَمجَر زمجرةَ غضبٍ وتركني ودخل الكوخ الذي كنت قد خرجتُ منه للتو. التفتُّ حتى أشكر مُنقِذي الذي وقف بجواري في الطريق.
قال لي: «حسنًا، يا واطسون، لقد أسأتَ التصرُّف للغاية! ربما كان من الأفضل أن تعود معي إلى لندن في قطار الليل السريع.»
بعد مرور ساعة كان شيرلوك هولمز بزيه وأسلوبه المعتادَين يجلس في غرفتي الخاصة في الفندق. كان تفسيره لظهوره المفاجئ الذي جاء في وقته المناسب بسيطًا للغاية؛ إذ إنه حين اكتشف أن باستطاعته الخروج من لندن، قرَّر أن يسبقني إلى الوجهة التالية البديهية التي سأتوجه إليها في مسيرتي. وجلس متخفيًّا في زيِّ عاملٍ في الملهى الليلي منتظرًا ظهوري.
قال لي: «لقد أجرَيتَ تحريًا متسقًا على نحوٍ متفردٍ أيها العزيز واطسون، ولا يسعني الآن أن أذكر حماقةً واحدةً محتملةً قد أغفلتَها؛ فكانت مُحصلة جهدك أن نَبَّهتَ الجميع في كل مكان، ولكن دون أن تكتشف أي شيء.»
رَدَدتُ عليه بمرارة: «ربما لم تكن لِتفعلَ أنت أفضل من هذا.»
«لا يُوجد «ربما»، لقد «فعلتُ» ما هو أفضلُ بالفعل. إليك المُبجَّل فيليب جرين، وهو نزيلٌ معك في هذا الفندق، وربما ترى أنه نقطة البدء لتحريات أكثر نجاحًا.»
جاءتنا بطاقةٌ على صينية، وتَبِعَها الشخص الهمجي ذو اللحية الذي هاجمني في الشارع، والذي أجفل حين رآني.
تساءل: «ما هذا يا سيد هولمز؟ لقد وصَلَتني رسالتك فأتيت. لكن ما علاقة هذا الرجل بالقضية؟»
«هذا صديقي القديم ومساعدي الدكتور واطسون، الذي يُساعِدنا في هذه القضية.»
مَدَّ يدًا ضخمةً سَفعَتها الشمس وتلفظ بِبضعِ كلماتِ اعتذار.
«أرجو ألا أكون قد آذيتُك؛ فحين اتهَمتَني بإلحاق الأذى بها، فقدتُ السيطرة على نفسي. في الواقع، أنا لستُ في حالتي الطبيعية في هذه الأيام؛ فأعصابي مثل سِلكٍ مُكهرب. غير أن هذا الموقف يُمثل لغزًا لي. ما أريد أن أعرفه في المقام الأول، يا سيد هولمز، كيف بحق السماء عَلِمتَ بوجودي من الأساس؟»
«أنا على اتصال بالآنسة دوبني، مُربِّية السيدة فرانسيس.»
«سوزان دوبني العجوز بقَلَنسُوتها القديمة! أتذكرها جيدًا.»
«وهي أيضًا تتذكرك؛ لقد كان هذا في الأيام السابقة؛ السابقة على اكتشافك أنه من الأفضل لك الذهاب إلى جنوب أفريقيا.»
«آه، حسنًا أرى أنك تعرف قصتي كاملة، فلا حاجة لي لأن أُخفي أي شيء عنك. أُقسِم لك يا سيد هولمز أن هذا العالم لم يشهد رجلًا أحب امرأة من أعماق قلبه أكثر من حبي لفرانسيس. أعلم أني كنتُ فتًى أَرعنَ؛ لستُ أسوأ من غيري من أبناء طبقتي. أمَّا هي فكان عقلها نقيًّا كالثلج؛ فلم تكن تتحمل أقل ذرة من الغِلظة؛ ولذلك حين سَمِعَت بالأشياء التي فعلتُها، لم يكن لديها ما تقوله لي. ومع ذلك قد أحبتني — وهذا العجيب في الأمر! — أحبتني بما يكفي لتظل عزباء طوال حياتها كقديسةٍ فقط من أجلي. وحين مرَّت السنوات وجَمَعتُ ثروتي في باربرتون، ظننتُ أنه ربما بإمكاني البحث عنها ومحاولة إقناعها. كنتُ قد سمعتُ أنها ما زالت لم تتزوج، وعَثَرتُ عليها في لوزان وحاولتُ كل ما في وسعي. أظنها قد أصابها الوهن، لكن إرادتها كانت قوية. وحين ذهبتُ لزيارتها مرةً أخرى كانت قد غادَرَت المدينة. تعقَّبتُها إلى بادن، ثم بعد فترةٍ سمعتُ أن خادمتها موجودةٌ هنا. أنا رجلٌ حادُّ الطبع، خرجتُ لِتوِّي من حياةٍ قاسية، وحين تحدث الدكتور واطسون إليَّ كما فعل فقدتُ السيطرة على نفسي لِلَحظة. لكن أرجوك بحق السماء أن تخبرني ماذا حدث للسيدة فرانسيس.»
قال شيرلوك هولمز بِوقارٍ فريد: «هذا ما نعمل على اكتشافه، ما عنوانك في لندن يا سيد جرين؟»
«يمكنك أن تجدني في فندق لانجهام.»
«إذن هل لي أن أنصحك بالعودة إلى هناك وأن تظل مُتأهِّبًا حال أردتُ الحصول على مساعدتك؟ لا أريد أن أُعطيك آمالًا كاذبة، لكني أدعوك إلى الاطمئنان إلى أننا سنفعل كل ما يمكن فعله من أجل ضمان سلامة السيدة فرانسيس، ولن أزيد على ذلك في الوقت الحالي. سأترك لك هذه البطاقة حتى تتمكن من البقاء على اتصالٍ بنا. والآن يا واطسون بينما تنتهي من حزم أمتعتك، سأُرسل برقية إلى السيدة هدسون حتى تبذل قُصارى جهدها من أجل إطعام مسافرَين جائعَين في السابعة والنصف غدًا.»
حين وصلنا إلى شقتنا في شارع بيكر وجدنا برقيةً في انتظارنا، قرأها هولمز باهتمام يشوبه التعجُّب وألقاها نحوي. وورد في الرسالة: «مُحزَّزة أو مُمزَّقة»، وكانت مُرسَلةً من بادن.
سألته: «ما هذا؟»
أجاب هولمز: «هذا كل شيء. لعلك تذكر سؤالي الذي بدا غير ذي صلةٍ بالموضوع عن الأذن اليسرى لهذا السيد رجل الدِّين، ولم تُجِب عنه.»
«كنتُ قد تركتُ بادن ولم أستطع التحرِّي عن الأمر.»
«بالضبط، ولهذا السبب أرسلتُ نسخةً طبق الأصل من السؤال لمدير فندق إنجليشر هوف، وها هي إجابته أمامك الآن.»
«وماذا يُظهِر هذا؟»
«يُظهِر يا عزيزي واطسون أننا نتعامل مع رجلٍ استثنائيٍّ فيما يتصف به من مكرٍ وخطورة. فالمُبجَّل الدكتور شليسنجر، المبعوث التبشيري من أمريكا الجنوبية، ليس إلا هولي بيترز، واحدٌ من أعتى الأوغاد المعدومي الضمير الذين أنجبتهم أستراليا؛ وبالنسبة لدولة صغيرة، فقد أنجَبَت صنوفًا بارعةً للغاية من الأوغاد. إنه مُتخصِّصٌ تحديدًا في خداع السيدات الوحيدات عن طريق اللعب على وَتَر مَشاعرِهن الدينية. وهذه السيدة التي يُقال إنها زوجته، هي سيدةٌ إنجليزيةٌ تُدعى فريزر، وهي شريكٌ مُهمٌّ له. تعرفتُ على هُويته من طبيعة خُطَّته، كما أكَّدَت هذه العلامة الجسدية المميزة شكوكي؛ فقد تعرَّض إلى عضةٍ شديدةٍ في عِراكٍ في حانة في مدينة أديلايد في عام ١٨٨٩. إن هذه السيدة المسكينة تحت أيدي ثنائيٍّ جهنميٍّ ملعونٍ إلى أقصى الحدود، لن يتورع عن فعل أي شيء يا واطسون. ومن المحتمل للغاية أن تكون قد تُوفِّيَت بالفعل. وإن لم تكن قد تُوفِّيَت، فهي بلا شكٍّ رهن الاحتجاز على نحوٍ ما وغيرُ قادرةٍ على الكتابة إلى الآنسة دوبني أو أيٍّ من أصدقائها الآخرين. ثَمَّةَ احتمالٌ دائمٌ أنها لم تصل إلى لندن مطلقًا، أو مرت بها، لكن الاحتمال الأول غير مُرجَّح؛ ففي ظل نظام التسجيل لديهم، لا يكون من السهل على الأجانب الاحتيال على الشرطة الأوروبية؛ أمَّا الاحتمال الثاني فهو غير مُرجَّح أيضًا؛ إذ لا يمكن لهذَين المحتالَين أن يأملا في العثور على أي مكانٍ آخرَ يكون من السهل احتجاز شخصٍ ما فيه كهذا المكان. إن حَدْسي يخبرني أنها في لندن، ولكن بما أننا لا نملك في الوقت الحالي أي سبيلٍ إلى معرفة مكانها، ليس بِوُسعِنا إلا اتباع الخطوات البديهية، ونتناول العشاء، ونُلزم أرواحنا بالصبر. وفي وقتٍ لاحقٍ من هذا المساء سأذهب وأتحدث مع صديقنا ليستراد في سكوتلانديارد.»
لكن لم تكن الإجراءات التي اتخذتها الشرطة الرسمية أو تلك التي اتخذها هولمز، والتي كانت فعالةً للغاية على قلتها، كافيةً لحل هذا اللغز؛ فوسط الملايين المُحتشدِين في لندن اختفت بالكامل آثارُ هؤلاء الثلاثة الذين نبحث عنهم كما لو أنهم لم يُولدوا من الأساس. جَرَّبنا استخدام الإعلانات وفَشِلَت. واتَّبَعنا القرائن، ولم تُؤدِّ بنا إلى شيء. وذهبنا إلى كل وكرٍ إجراميٍّ قد يتردد شليسنجر عليه ولم يُسفِر هذا عن شيء. وخضع معارفه القدامى للمراقبة، لكنهم لم يقربوه. وفجأة، وبعد أسبوعٍ من التشويق البائس، ظهر بصيصُ ضوء؛ فقد رُهنت قلادةٌ فضيةُ ولامعةٌ ذات تصميمٍ إسبانيٍّ قديمٍ لدى متجر بوفينجتون في طريق ويستمنستر. كان الراهن رجلًا ضخمًا حليق الذَّقن له مَظهَر رجل الدين، وبالطبع كان اسمه وعنوانه مُزيفَين. لم تَلفِت أُذنُه الانتباه، لكن الوصف كان منطبقًا بالتأكيد على شليسنجر.
زارنا صديقنا الملتحي من لانجهام ثلاثَ مراتٍ لمعرفة الأخبار — والمرة الثالثة كانت قبل ساعة من هذا التطوُّر الجديد. كانت ملابسه قد بَدأَت تتسع على جسده الضخم، وبدا أن القلق يستنزف قواه ويُوهنه. وكان يشكو باستمرارٍ قائلًا: «فقط لو أعطَيتَني شيئًا لأفعله!» وأخيرًا استطاع هولمز أن يُجيب طلبه.
«لقد بدأ في رهن المجوهرات، علينا الإمساك به الآن.»
«لكن هل يعني هذا أن ثَمَّةَ أي أذًى قد أصاب السيدة فرانسيس؟»
هز هولمز رأسه بوقارٍ بالغ.
«لنفترض أنهما ما زالا يحتجزانها حتى الآن، من الواضح أنهما لا يستطيعان إطلاق سراحها دون أن يتسبب ذلك في أذًى لهما. علينا أن نكون مُستعدِّين للأسوأ.»
«ما الذي يمكنني فعله؟»
«هذان الشخصان لا يعرفان شكلك، أهذا صحيح؟»
«نعم.»
«من المحتمل أنه سيذهب إلى مكتب وسيطِ رهوناتٍ آخرَ في المستقبل. في تلك الحالة، علينا البدء من جديد. من ناحيةٍ أخرى، لقد حصل على سعرٍ مناسبٍ ودون طرح أي أسئلة؛ لذلك إن كان بحاجة إلى مالٍ سهل، فعلى الأرجح أنه سيعود إلى متجر بوفينجتون. سأُعطيك رسالة إليهم، وسيتركونك تنتظر في المتجر. وإن جاء الرجل، فعليك أن تتبعه إلى المنزل. لكن عليك ألا تتصرَّف برعونة، وقبل كل شيء، إياك والعنف. وأُقسِم عليك بشرفك بأنك لن تتخذ خطوةً واحدةً دون معرفتي بها وموافقتي عليها.»
ولِيومَين لم تَرِدْنا أي أخبارٍ من المُبجَّل فيليب جرين (قد تجدر الإشارة إلى أنه كان ابن الأدميرال الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، وقد تولى قيادة أسطول بحر آزوف في حرب القرم). وفي مساء اليوم الثالث وجدناه يدخل مسرعًا إلى غرفة جلوسنا، شاحبَ اللون ويرتجف، وكل عضلةٍ في بِنيته القوية ترتعش من الإثارة.
صاح قائلًا: «لقد وقع في قبضتنا! لقد وقع في قبضتنا!»
كان مُشوَّشًا في انفعاله، فهدأه هولمز ببعض الكلمات وأجلسه في مقعدٍ ذي ذراعَين.
ثم قال له: «أخبرنا الآن بترتيب الأحداث.»
«لقد جاءت منذ ساعةٍ واحدةٍ فقط. إنها الزوجة هذه المرة، لكن القِلادة التي أحضَرَتها معها كانت شبيهةً بالقِلادة الأخرى. إنها سيدةٌ طويلةُ القامة، شاحبة اللون، بعينَين تشبهان عينَي النمس.»
قال هولمز: «إنها السيدة نفسها.»
«تَركت المتجر وتَتبَّعتُ أثرها. سارت في طريق كينينجتون، وظلَلتُ خلفها، وهي الآن دَخلَت إلى أحد المتاجر، وكان متجر حانوتي يا سيد هولمز.»
أجفل صديقي، وبصوتٍ متذبذبٍ ينم عن الروح المتقدة الكامنة خلف هذا الوجه البارد سأل: «وماذا بعدُ؟»
«كانت تتحدث مع السيدة الجالسة خلف طاولة البيع، ودَخَلتُ المتجر أنا أيضًا. سمعتها تقول: «الوقت متأخر.» أو كلمات بهذا المعنى. كانت السيدة تلتمس منها العذر قائلة: «كان من المُفترَض أن يصل قبل قليل. لقد استغرق وقتًا أطول؛ لكونه خارجًا عن المألوف.» تَوقَّفَت كلتاهما عن الكلام ونظرتا إليَّ؛ لذا طرحتُ بعض الأسئلة ثم تركتُ المتجر.»
«لقد فَعَلتَ الصواب بجدارة، وماذا حدث بعد ذلك؟»
«خَرجَت المرأة من المتجر، لكني اختبأتُ في أحد المداخل. أظن أن الشكوك قد بَدأَت تساورها؛ إذ رأيتُها تنظر حولها. بعدها استَدعَت سيارةَ أجرة ورَكِبَتها. أسعفني الحظ كثيرًا بركوبي سيارةً أُخرى وتَعقُّبِها. وأخيرًا وَصلَت إلى رقم ٣٦، ميدان بولتني، بريكستون. مررتُ بالسيارة التي أستقلها بجوار المكان وتَرَكتُها عند ناصية الميدان، وراقبتُ المنزل.»
«هل رأيتَ أي شخص؟»
«كانت جميع النوافذ مظلمةً عدا نافذة واحدةً في الطابق السفلي. كانت الستائر مُسدَلة، ولم أتمكن من رؤية ما بالداخل. كنتُ واقفًا هناك أتساءل عما يجب أن أفعله فيما بعدُ، حين وَصلَت شاحنةٌ صغيرةٌ مغطاةٌ بداخلها رجلان. تَرجَّلا من السيارة، وأخرجا شيئًا من السيارة وحملاه وصعدا به درجات السُّلم إلى باب الرَّدْهة. كان تابوتًا يا سيد هولمز.»
«آه!»
«للحظةٍ كنتُ على وشك أن أُهرَع إلى الداخل؛ فقد كان الباب مفتوحًا ليدخل منه الرجلان وما يحملانه. كانت السيدة هي مَن فَتحَت الباب، لكنها لَمحَتني بينما كنتُ واقفًا هناك، وأعتقد أنها قد تَعرَّفَت عليَّ. رأيتُها مندهشة، وأَغلَقَت الباب بسرعة. تذكرتُ حينها وعدي الذي قطعتُه لك، وها أنا قد جئتُ إليك.»
قال هولمز وهو يكتب بعض الكلمات على نِصفِ ورقة: «لقد قمتَ بعملٍ رائع. لا يمكننا اتخاذ أي إجراءٍ قانونيٍّ دون إذن بذلك، ويمكنك أن تقدم خدمةً كبيرةً لهذه القضية بأن تأخذ هذه الرسالة إلى السلطات وتُحضِر لنا هذا الإذن. ربما تُواجه بعض الصعوبات، لكني أعتقد أن مسألة بيع المجوهرات كافية. وسيعتني ليستراد بالتفاصيل.»
«لكن ربما يقتلونها في هذه الأثناء. ما معنى هذا التابوت، ولمن يمكن أن يكون إن لم يكن لها؟»
«سنفعل كل ما في وسعنا يا سيد جرين. ليس أمامنا وقتٌ لنُضيِّعه، اترك الأمر لنا.» ثم أردف قائلًا بينما كان عميلنا يغادر مسرعًا: «والآن يا واطسون، سيُحرِّك هو القوات النظامية. أمَّا نحن، فكالمعتاد، سنكون قواتٍ غيرَ نظامية، وعلينا أن نتولى الأمور بطريقتنا. يتراءى لي أن هذا الموقف ميئوسٌ منه لدرجة تُبرِّر اتخاذ أكثر الإجراءات تطرفًا. علينا ألا نُضيِّع لحظةً للوصول إلى ميدان بولتني.»
قال ونحن نمر بالسيارة مُسرعين بجوار مجلس العموم البريطاني وفوق كوبري وستمنستر: «لنحاول إعادة ترتيب الموقف مرةً أخرى. أقنع هذان المجرمان هذه السيدة التعيسة بالمجيء إلى لندن، بعدما أبعداها أولًا عن خادمتها المخلصة. وإن كانت قد كَتبَت أي خطابات، فقد اعترضا سبيلها. واستطاعا بمساعدة حليفٍ ما تدبير الحصول على منزلٍ مفروش. وبمجرد دخولهما إليه، احتجزاها كأسيرةٍ لديهما، واستوليا على المجوهرات الثمينة التي كانت هدفهما منذ البداية. وقد بدآ بالفعل في بيع جزء منها، بالقدر الذي يبدو آمنًا كفايةً لهما؛ نظرًا لعدم وجود سبب يدعوهما إلى الاعتقاد بأن ثَمَّةَ من يهتم بمصير هذه السيدة. وإن أطلقا سراحها فستتهمهما بالطبع؛ ومن ثَم، يجب أن تظل حبيسةً لديهما. لكنهما لا يستطيعان إبقاءها مُحتجَزة إلى الأبد. وهكذا يكون القتل هو السبيل الوحيد أمامهما.»
«يبدو هذا واضحًا للغاية.»
«والآن سوف نتبع خطًّا استدلاليًّا آخر. فحين تتبع سلسلتَين منفصلتَين من الأفكار يا واطسون، ستعثر على نقطة تقاطعٍ بينهما تكون أقرب ما يكون من الحقيقة. سنبدأ الآن، ليس من السيدة بل من التابوت ونسير مع الأحداث بالعكس. أخشى أن هذه الواقعة تُثبت أن هذه السيدة قد ماتت بلا أدنى شك، كما تُشير إلى مراسم دفنٍ تقليديةٍ مع وجود شهادةٍ طبيةٍ صحيحةٍ وتصريحٍ رسمي؛ فلو كانت السيدة قد قُتلت، لدفناها في حفرة في الحديقة الخلفية للمنزل. لكن ها هي الأمور جميعًا تسير بوضوح واتساق. ما معنى هذا؟ معناه بالتأكيد أنهما قد دفعاها إلى الموت على نحو خدع الطبيب وجعل الوفاة تبدو طبيعية؛ ربما عن طريق تسميمها. ولكن من الغريب أن يَدَعا طبيبًا يقترب منها إلا إن كان حليفًا لهما، وهذا افتراضٌ بعيد الاحتمال.»
«ألا يمكن أن يكونا قد زوَّرا الشهادة الطبية؟»
«هذا خطير يا واطسون، خطير للغاية. لا، لا أعتقد أنهما قد فعلا هذا. توقف أيها السائق! هذا بالتأكيد متجر الحانوتي؛ إذ إننا قد مَرَرنا للتو بمكتب وسيط الرهونات. هلا دخلت يا واطسون؟ فمظهرك يوحي بالثقة. سلهم عن موعد الجنازة التي ستُقام في ميدان بولتني غدًا.»
أجابتني السيدة في المتجر دون تَردُّد بأنها ستكون في الساعة الثامنة صباحًا. «أرأيت يا واطسون، لم يعد ثَمَّةَ أي ألغاز؛ كل شيء صار في العلن! لقد استُوفِيَت الوثائق القانونية بطريقةٍ ما دون شك، ويعتقدان أنه لا يُوجَد ما يخافانه. حسنًا، ليس أمامنا الآن إلا الهجوم المباشر. هل أنت مُسلَّح؟»
«بعصاي!»
«حسنًا، حسنًا، علينا أن نكون أقوياء بما يكفي. «مَن كانت قضيته عادلة، يكن سلاحه أقوى ثلاثة أضعاف.» لا يسعنا الانتظار حتى مجيء الشرطة أو أن نلتزم بالقانون. يمكنك الانطلاق الآن أيها السائق. والآن يا واطسون، سوف نُجرِّب حظنا معًا، كما كنا نفعل بين الحين والآخر في الماضي.»
وأخذ يقرع جرس باب منزلٍ ضخمٍ مظلمٍ بصوت مرتفع في منتصف ميدان بولتني. فُتح الباب على الفور، وظَهرَت معالم جسد سيدةٍ طويلةِ القامة عبر رَدْهةٍ خافتةِ الإضاءة.
سألت السيدة بحدة، وهي تُحدِّق فينا عبر الظلام: «حسنًا، ماذا تريدان؟»
قال هولمز: «أُريد التحدث إلى الدكتور شليسنجر.»
ردت قائلة: «لا يُوجد أحدٌ بهذا الاسم.» وحاولت إغلاق الباب، لكن هولمز اعترضه بقدمه.
قال هولمز بحزم: «حسنًا، أريد مقابلة الرجل الذي يعيش هنا، أيًّا كان اسمه.»
تردَّدَت قليلًا، ثم فتحت الباب على مصراعيه وقالت: «حسنًا، فلتدخلا؛ فزوجي لا يخشى مواجهة أي إنسان في هذا العالم.» أَغلَقَت الباب خلفنا وأَدخلَتنا إلى غرفة الجلوس في الجهة اليمنى من الرَّدهة، وأَشعَلت المصباح وهي تتركنا، ثم قالت: «سيكون السيد بيترز معكما على الفور.»
كانت كلماتها صحيحة حرفيًّا؛ إذ لم نكد نبدأ في النظر في أرجاء هذه الشقة المُغطَّاة بالغُبار التي أكلتها العثَّة والتي وجدنا أنفسنا فيها، حتى فُتِح الباب ودخل رجلٌ ضخمٌ حليق الوجه وأصلع الرأس بخفة إلى الغرفة. كان وجهه كبيرًا وأحمر اللون، ووجنتاه متدليتَين، مع إيحاءٍ عامٍّ بلطفٍ وودٍّ ظاهريَّين أفسده فم قاسٍ وبذيء.
قال الرجل بصوتٍ متملقٍ ويوحي بأن كل شيء سهل: «بالتأكيد ثَمَّةَ خطأ ما أيها السادة. أعتقد أنكما ضللتما الطريق. ربما إن سرتما لمسافة أبعد عبر الشارع …»
قال رفيقي بحزم: «هذا سيفي بالغرض؛ فليس أمامنا وقتٌ لِنُضيِّعه. أنت هنري بيترز، من أديلايد، والمُبجَّل الدكتور شليسنجر سابقًا، من بادن وجنوب أفريقيا. أنا واثقٌ من هذا تمامًا كثقتي بأن اسمي شيرلوك هولمز.»
ذُهل بيترز، كما سأطلق عليه من الآن فصاعدًا، وحَدَّق بشدة في مطارده المرعب وقال ببرود: «أعتقد أن اسمك لا يخيفني يا سيد هولمز. فحين يكون ضمير المرء مرتاحًا، لا يمكنك أن تُفقِده أعصابه. ما الذي أتى بك إلى منزلي؟»
«أريد أن أعرف ماذا فعلتَ بالسيدة فرانسيس كارفاكس، التي أحضرتها معك من بادن.»
رد بيترز ببرود: «سيُسعدني كثيرًا إن أخبرتني أنت مكان هذه السيدة؛ فقد دفعتُ لها فاتورة بحوالي مائة جنيه، ولم آخذ نظيرها إلا قِلادتَين بلا قيمة لم يعبأ وكيل الرهونات حتى بالنظر إليهما. لقد رافقتني والسيدة بيترز في بادن — وصحيح أني كنتُ أستخدم اسمًا آخر حينها — وظلَّت ملتصقةً بنا حتى جئنا إلى لندن. دفعتُ لها فاتورتها وتذكِرتها. وبمجرد قدومنا إلى لندن تَركَتنا وهَربَت، ولم تترُك إلا هاتَين القِلادتَين القديمتَي الطراز، كما قُلتُ، نظير دفع فواتيرها. إن عَثَرتَ عليها يا سيد هولمز، فسأكون مدينًا لك.»
قال شيرلوك هولمز: «ومن أجل العثور عليها سأُفتِّش هذا المنزل حتى أجدها.»
«أين إذن التفتيش؟»
سحب هولمز المسدس من جيبه حتى نصفه وقال: «هذا سيفي بالغرض حتى يأتي واحدٌ أفضلُ منه.»
«ما هذا؟ أأنت لصٌّ محترف؟»
قال هولمز بسعادة: «يمكنك أن تصفني بذلك، وصديقي أيضًا شخصٌ همجيٌّ خطير، وسنُفتِّش منزلك معًا.»
فتح خصمنا الباب.
«فلتستدعي شرطيًّا يا آني!» وصدر صوت حركة تنورةٍ نسائيةٍ قادمةٍ عبر الممر، وفُتح باب الردهة ثم أُغلق.
قال هولمز: «إن وقتنا محدود يا واطسون، وإن حاولتَ اعتراضنا يا بيترز، فستتعرض للأذى بالتأكيد. أين ذلك التابوت الذي أحضرته إلى المنزل؟»
«ماذا تريد من التابوت؟ إنه مشغول، به جثمان.»
«لا بد أن أرى هذا الجثمان.»
«ليس بموافقتي.»
«فليكن إذن من دونها.» وبحركةٍ سريعةٍ دفع هولمز الرجل إلى أحد الجوانب ومر عبر الردهة. وجدنا أمامنا مباشرةً بابًا نصف مفتوح، فدخلنا منه. كانت غرفة الطعام، وعلى الطاولة تحت ثُريَّا خافتة الضوء، وجدنا التابوت. زاد هولمز من شدة الإضاءة وفتح الغطاء. وفي أعماق التابوت رقد جثمانٌ نحيل، وسقط الضوء الساطع من أعلى لِيُظهر وجهًا ذابلًا ظَهرَت عليه معالم الشيخوخة. ولا يمكن بأي طريقةٍ ممكنةٍ من وحشية، أو تجويع، أو مرض أن يكون هذا الجثمان الذابل للسيدة فرانسيس التي ما زالت محتفظةً بجمالها. ظهرت الدهشة على وجه هولمز، والراحة أيضًا.
فقال بصوتٍ خافت: «حمدًا لله! إنها شخصٌ آخر.»
قال بيترز الذي تبعنا إلى الغرفة: «آه، لقد أَخفَقتَ بشدة هذه المرة يا سيد شيرلوك هولمز.»
«مَن السيدة المتوفاة؟»
«حسنًا، إن كان لا بد حقًّا أن تعرف، إنها مُربِّية مسنة لزوجتي، تُدعى روز سبيندر، وجدناها في مشفَى إصلاحية بريكستون، أحضرناها معنا إلى هنا، واستدعينا الطبيب هورسوم، القاطن ﺑ ١٣ فايربانك فيلاز — إن كنت تريد عنوانه يا سيد هولمز — ووفَّرنا لها العناية البالغة، كما يُفترض بأي شخصٍ مسيحي. وفي اليوم الثالث تُوفِّيَت — وورد في شهادة الوفاة أنه بسبب أمراض الشيخوخة — لكن هذا فقط رأي الطبيب، وبالطبع أنت تعرف أكثر. وعَهِدْنَا بمراسم دفنها إلى الحانوتي ستيمسون وشركاه، في شارع كينينجتون، ومن المتوقع أن يدفنها في الثامنة صباح الغد. أترى أيَّ ثغرة في ذلك، يا سيد هولمز؟ لقد ارتكبتَ خطأً ساذجًا وربما عليك الاعتراف بذلك. أدفع أي شيء نظير الحصول على صورةٍ لوجهك المذهول ونظرتك المُحدِّقة حين رفعتَ ذلك الغطاء متوقعًا رؤية السيدة فرانسيس كارفاكس، ولم تجد إلا سيدةً مسكينةً في التسعين من عمرها.»
كان التعبير المرتسم على وجه هولمز فاترًا كعهده دائمًا في وجه سُخريةِ خصمه، لكن يدَيه المُطبقتَين فَضحَتا انزعاجه البالغ.
قال: «سأفتش منزلك.»
صاح بيترز تزامنًا مع سماع صوت امرأةٍ وصوت خطواتٍ ثقيلةٍ في الممر: «أنت مُصمِّم إذن! سنبحث هذا عما قريب. من هنا أيها الضباط من فضلكم. هذان الرجلان دخلا منزلي عَنوة، ولا أستطيع التخلُّص منهما، فساعدوني في إخراجهما منه.»
وقف رقيبٌ وشرطيٌّ في مدخل المنزل، وأخرج هولمز بطاقته من حقيبته.
«هذا اسمي وعنواني، وهذا صديقي الدكتور واطسون.»
قال الرقيب: «باركك الرب يا سيدي، نحن نعرفك جيدًا، لكن لا يمكنك البقاء هنا دون إذن.»
«بالطبع لا، أنا أدرك هذا جيدًا.»
صاح بيترز: «اقبض عليه!»
قال الرقيب بهيبة: «نحن نعرف كيف نضع أيدينا على هذا الرجل إن كان مطلوبًا، لكن سيتعين عليك أن تذهب يا سيد هولمز.»
«أجل يا واطسون، علينا أن نذهب.»
بعد دقيقة كنا قد عدنا إلى الشارع مرةً أخرى، وكان هولمز باردًا كعادته، لكني كنتُ مشتعلًا من الغضب والمهانة، وتَبِعَنا الرقيب.
«آسف يا سيد هولمز، لكن هذا هو القانون.»
«بالضبط، أيها الرقيب لم يكن بوُسعِك أن تفعل خلاف ذلك.»
«أعتقد أنه كان ثَمَّةَ سببٌ وجيهٌ لوجُودك هناك. إن كان بإمكاني فعلُ أي شيء …»
«الأمر يتعلق بسيدةٍ مفقودةٍ أيها الرقيب، ونحن نعتقد أنها داخل هذا المنزل. وأنا الآن في انتظار وصول إذنٍ بتفتيش المنزل.»
«إذن سأضع هذَين الشخصَين تحت المُراقبة يا سيد هولمز، وإن طرأ أي شيء، فسأخبرك بالتأكيد.»
لم تكن الساعة قد تجاوَزَت التاسعة، وفي الحال انطلقنا في طريقنا في لهفة وحماس. أولًا ذهبنا إلى مشفَى إصلاحية بريكستون، حيث وجدنا أن زَوجَين خيِّرَين قد جاءا بالفعل قبل بضعة أيام، وادعيا أن سيدةً مسنةً مختلةً عقليًّا هي خادمتهما السابقة، وحصلا على إذنٍ بأخذها معهما. ولم يكن في خبر وفاتها فيما بعدُ أي مفاجأة لهم على الإطلاق.
كان الطبيب هدفنا التالي؛ فقد جاءه استدعاء، ورأى أن السيدة قد تُوفِّيَت إثر تبعات الشيخوخة فحسب، وقد رآها بالفعل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ووقَّع على الشهادة بالصيغة القانونية المناسبة. «أُؤكِّد لكما أن كل شيء بدا طبيعيًّا تمامًا، ولم يكن ثَمَّةَ مجالٌ لوجود أي جريمة على الإطلاق.» لم يُثِر أي شيء في المنزل شكوكه باستثناء أنه من غير المعتاد للأشخاص من هذه الطبقة أن يكون لديهم خَدَم. كان هذا كل ما أضافه الطبيب ولم يقُل شيئًا آخر.
وأخيرًا اتجهنا إلى سكوتلانديارد. كانت ثَمَّةَ صعوباتٌ في إجراءات الحصول على الإذن، وكان تأخير صدوره أمرًا لا مفر منه؛ فلم يكن من الممكن الحصول على توقيع القاضي إلا في صباح اليوم التالي. وإن استطاع هولمز الوصول في حوالي التاسعة، يمكنه الذهاب مع ليستراد ورؤيته وهو يُنفذ. وهكذا انتهى اليوم، باستثناء اتصالٍ من صديقنا الرقيب قرب منتصف الليل يقول فيه إنه قد رأى أضواءً متقطعةً هنا وهناك في نوافذ ذلك المنزل الكبير المُعتِم، لكن لم يترك أحدٌ المنزل ولم يدخل أحدٌ أيضًا. لم يسعنا إلا التماس الصبر، والانتظار حتى صباح اليوم التالي.
كان شيرلوك هولمز منفعلًا إلى حدٍّ يصعب الحديث معه، وقلقًا إلى حد جعل النوم يجافيه. تركته وهو يُدخِّن بشراهة، عاقدًا حاجبَيه الداكنَين الكثيفَين، وأصابعه الطويلة المنفعلة تنقر على ذراعَي كرسيه، بينما يُقلِّب في عقله كل حلٍّ ممكنٍ للُّغْز. سمعته عدة مرات طَوال الليل وهو يتجول في المنزل. وأخيرًا، بعدما سمِعتُه ينادي اسمي في الصباح مباشرةً، هُرِع إلى غرفة نومي. كان يرتدي ثياب النوم، وعَرفتُ من وجهه الشاحب وعينَيه الغائرتَين أن ليله قد انقضى دون أن يذوق للنوم طعمًا.
سأل بلهفة: «متى كانت الجنازة؟ في الثامنة، أليس كذلك؟ حسنًا إنها السابعة والثلث الآن. يا إلهي! ماذا أصاب عقلي، يا واطسون، الذي أنعم الله به عليَّ؟ أسرع يا رجل، أسرع! إنها مسألة حياة أو موت — وثَمَّةَ مائةُ احتمالٍ للموت نظير احتمالٍ واحدٍ للحياة. لن أُسامح نفسي أبدًا أبدًا إن تَأخَّرنا!»
لم تمُرَّ خمس دقائق حتى كنا ننطلق بسرعة في عربةٍ تجرها الخيول في شارع بيكر. وعلى الرغم من ذلك كانت الساعة الثامنة إلا ٢٥ دقيقةً حين مَرَرنا أمام ساعة بيج بن، ودقت الثامنة ولم نزل نقطع شارع بريكستون. لكن الآخرِين تأخروا أيضًا؛ فبعد الثامنة بعشر دقائق، كانت عربةُ نقل الموتى لا تزال متوقفةً أمام باب المنزل، وحتى حين توقَّف الحِصان الذي كان يجر عربتنا مثيرًا الغبار من حوله، ظهر النَّعش يحمله ثلاثة رجال على عتبة المنزل. اندفع هولمز إلى الأمام وقطع عليهم طريقهم.
صاح وهو يضع يده على صدرِ أولِ رجلٍ في الصف: «أَعِده إلى الداخل! أَعِده إلى الداخل في الحال!»
صاح بيترز الذي استشاط غضبًا، وهو ينظر بوجهه الكبير الأحمر إلى الطرف البعيد من التابوت: «ما الذي تعنيه بحق الجحيم؟ ومرةً أخرى أسألك، أين الإذن الذي لديك؟»
«الإذن في طريقه إلينا الآن، وسيظل التابوت داخل المنزل حتى يأتي الإذن.»
كان لنبرة السلطة في صوت هولمز أثرها في حَمَلَة النعش، واختفى بيترز فجأة داخل المنزل، فأطاعوا هذه الأوامر الجديدة. صرخ قائلًا وهم يضعون النعش على الطاولة: «أسرع يا واطسون، أسرع! إليك مِفكًّا! وذاك واحدٌ آخرُ إليك يا رجل! لك مني قطعةٌ ذهبيةٌ إن فتحت الغطاء في دقيقة! لا تسأل أي أسئلة؛ فقط ابدأ العمل! هذا جيد! وواحدٌ آخر! وآخر! والآن أَخرِجها كلها معًا! يكاد يُفتح! يكاد يُفتح! آه، ها قد فُتِح أخيرًا.»
استطعنا بمجهودٍ مشتركٍ رفع غطاء التابوت. وفي هذه الأثناء إذا برائحةٍ مُخدرةٍ ونفاذة للكلوروفورم تفوح من الداخل. ورأينا بداخله جسدًا مُمددًا، ورأسَه ملفوفًا بالقطن الطبي المشبع بالمُخدِّر. أزال هولمز لِفافات القطن فلاح من تحتها وجهٌ رائع الجمال لسيدةٍ جميلةٍ وروحانيةٍ في منتصف العمر. وفي لحظة مد هولمز ذراعه ولفَّها حول هذه المرأة ورَفعَها لوضع الجلوس.
«هل فقدناها يا واطسون؟ هل ما زال فيها الروح؟ بالتأكيد لم نتأخَّر كثيرًا، أليس كذلك؟»
بدا الأمر كذلك لنصف ساعة؛ فمع التعرُّض فعليًّا للاختناق، ومع الأبخرة السامة لمادة الكلوروفورم، بدا أننا فقدنا كل أمل في استعادة السيدة فرانسيس. ثم أخيرًا مع التنفس الصناعي، وحقنها بالإيثر، وبالاستعانة بكل جهازٍ توصل إليه العلم، أشارت انتفاضةُ حياة، ورعشةٌ في الجفون، وبخار الماء المُتكثِّف على المرآة، إلى عودة الحياة إليها ببطء. وَصلَت سيارةُ أجرة، فأزاح هولمز الستائر ونظر إليها وقال: «ها قد جاء ليستراد مع إذنه. ولكنه سيجد الطُّيور قد طارت.» ومع سماع صوت خطواتٍ ثقيلةٍ تأتي مسرعةً عبر الممر أردف قائلًا: «وها قد جاء من له حقٌّ أصيلٌ في توفير الرعاية الطبية اللازمة لهذه السيدة أكثر منا. طاب صباحك يا سيد جرين؛ أعتقد أنه كلما أسرعنا في نقل السيدة فرانسيس، كان ذلك أفضل. وفي هذه الأثناء، يمكن أن تستمر الجنازة حتى تذهب هذه العجوز المسكينة القابعة داخل هذا النعش إلى مثواها الأخير وحدها.»
قال هولمز في مساء هذا اليوم: «إن أردتَ إضافة هذه القضية إلى دفتر يومياتك يا عزيزي واطسون، فلعلها فقط مثالٌ لما قد تتعرض له حتى أكثر العقول اتزانًا من خَللٍ مُؤقَّت. إن مثل هذه الزلَّات شائعةٌ لدى البشر كافة، وأعظم البشر مَن يستطيعون إدراكها والعمل على إصلاحها. ربما يمكنني ادِّعاء الفضل في هذه القضية بعد ما دخل عليها من تعديل؛ فطَوال الليل لازمتني فكرة أن ثَمَّةَ دليلًا ما، أو عبارةً غريبة، أو ملحوظةً لافتة للانتباه، قد مرَّت بي وأغفَلتُها بسهولة. ثم فجأة، وقبل بزوغ أَوَّل خيوط الصباح، تَردَّدَت الكلمات في ذهني مرةً أخرى. كانت كلمات زوجة الحانوتي، كما سردها علينا فيليب جرين؛ فقد قالت: «كان من المُفترَض له أن يصل قبل قليل. لقد استغرق وقتًا طويلًا؛ لكونه خارجًا عن المألوف.» لقد كانت تتحدث عن النعش، الذي كان بخلاف المعتاد. وهذا لا يعني إلَّا أن هذا النعش قد صُنع بقياساتٍ خاصة. لكن لماذا؟ لماذا؟ وفي لحظةٍ تذكرتُ الجوانب العميقة للنعش، والجُثمانَ الصغير الهزيل في أسفله. لماذا يُصنع نعشٌ كبيرٌ هكذا لمثل هذا الجثمان الصغير؟ من أجل ترك مساحةٍ لجثةٍ أخرى. كانت كلتاهما ستُدفن بموجب شهادةٍ واحدة. كان كل شيء ليتضح أمامي، لولا هذه الغشاوة التي أصابت بصيرتي. لقد كانت السيدة فرانسيس ستُدفن في الثامنة، وكانت فرصتنا الوحيدة هي اعتراض النعش قبل مغادرته للمنزل.
كان الأمل ضئيلًا في أن تكون ما زالت على قيد الحياة، لكنه ظل أملًا، كما أظهرت النتيجة. على حد علمي، لم يرتكب هذان الشخصان أي جرائم قتلٍ قط، وربما حتى كانا يعزفان عن استخدام العنف الفعلي في الماضي؛ فقد كان باستطاعتهما دفن السيدة دون دليلٍ واحدٍ على الطريقة التي لَقِيَت بها حتفها، وحتى إن استُخرج جثمانها، كانت ثَمَّةَ فرصةٌ لهما للنجاة بفعلتهما. تمنَّيتُ أن تسيطر مثلُ هذه الاعتبارات على تفكيرهما. يمكنك إعادة ترتيب المشهد وفقًا لهذا. لعلك قد رأيت ذلك الوَكرَ المريع أعلى الدرج، حيث احتجزا السيدة المسكينة طوال هذه الفترة؛ لقد هُرِعا إليه وأَعطَياها جرعةً مفرطةً من الكلوروفورم، وحملاها إلى الأسفل ووضعا مزيدًا من المادة داخل النعش ليضمنا عدم استيقاظها، ثم ثبَّتا الغطاء بالمسامير. إنها حيلةٌ ذكيةٌ يا واطسون، وجديدةٌ عليَّ في تاريخ الجريمة. وإن تمكن مبعوثانا التبشيريَّان السابقان من الهرب من قبضة ليستراد، فأنا أتوقع أن أسمع ببعضٍ من أذكى الحوادث في حياتهما المهنية مستقبلًا.»