شفيقة ومتولي
-
المكان: منزلُ بغيٍّ.
وتُترك الحريَّة لمهندس الديكور في تصوره تبعًا لاحتياجات المسرحيَّة.
ويمكن أن يكون المسرح كله مسرحًا بنفسجيًّا، ولون جسد المرأتين نحاسيًّا.
-
الوقت: مُنتصَف الليل.
مع حركة فتح الستار يغنِّي «كورس بصوت متوسط»:
وعد ومكتوب ع الجبين
لازم تشوفو العين.
على المسرح امرأتان مُنهمِكَتان في خَلعِ ملابسهما.
(تمثيل صامت مبالَغ فيه لحرَكة التخلُّص مِن الملابس.)
(فترة)
-
المرأة الأولى: شفيقة، وهي امرأة جسَدُها فارع،
في مُنتصَف العمر، حلوة.
-
المرأة الثانية: عجوز ضامرة، جسَدها ضئيل، ولون
بشرتها غامق، وكل ما فيها جافٌّ.
شفيقة
(مِنْ عند المرآة، وبصوت مخمور قليلًا)
:
الساعة واحدة بعد نصِّ الليل.
هنادي
:
ودا معادُه.
شفيقة
:
معاده، أيوه، نص الليل.
هنادي
:
أنا عارفة اللي انتي هتقوليه.
شفيقة
:
معاده.
هنادي
:
طول عمرك تقوليه.
شفيقة
:
عرفاه.
هنادي
:
مفيش يوم متقولهش.
شفيقة
:
هوا كده.
هنادي
:
انتي أصلِك بتتخبِلي بالليل.
شفيقة
:
لازم ييجي.
هنادي
:
وشعرك بيسقط.
شفيقة
:
عرفاه.
هنادي
:
وجلد وشِّك كمان.
شفيقة
:
دا معاده.
هنادي
:
وكل اللي تحت إيدك يصبح مر.
شفيقة
:
أخويه.
هنادي
:
والعلقم يملا حنكك.
شفيقة
:
متولي، متولي.
هنادي
(بصوت عال)
:
وهيه دي شفيقة.
(صمت)
شفيقة
:
قاعدة استناه.
هنادي
(تسأل)
:
هوا كل ليلة بييجي؟
شفيقة
:
لازم ييجي.
هنادي
:
الخوف بيندهله؟
شفيقة
:
أمال يسبني كده؟ قاعدة في السكَّة؟ ملطوعة؟
ودا معقول يسيبك؟ يسيبك ازاي؟ يبقى عبيط مَيعرفش حاجة يبقى ابن امبارح. (صمت) انتي بتقلعي هدومك؟ دي بتقع منك، من غير ما
تدري، تبصي تلقيها ع الأرض. وجسدك مفضوح، وجتتك مفيش حواليها حاجة، وكل اللي لك مش
لك.
(يواصلان خلع ملابسهما فترة.)
شفيقة
(بإيقاع مَنْ يحكي ويتذكَّر)
:
من يوم ما مشينا، وسبناهم، وفتنا ع الزراعية.
هنادي
:
واقع، واقع، ومتبقيش عارفة تلمِّيه.
شفيقة
:
من جنب الطاحون.
هنادي
:
والناس تبقى عماله.
شفيقة
:
وفتنا ع البلاد.
هنادي
:
ومفيش حد ساكت.
شفيقة
:
وجينا أسيوط.
هنادي
:
كلهم شايفين.
شفيقة
:
وقعدنا في البيت ده.
هنادي
:
وبيتكلموا عليه.
شفيقة
:
كل ليلة استناه.
هنادي
:
أنا عارفة اللي انتي هتقوليه.
(فترة)
شفيقة
:
بتقولي كل ليلة أقولو؟ أصلي لازم أقولو، أمال أسكت؟ أنا أصلي أعده أستناه لما
ييجي، يكسر الباب ويدخل، ولما يدخل يقول: أنا جيت، ويفضل يقرب مني ويقرب، وفي إيده
حاجة، ووشه مغير مش وشه، زعلان متضايق حزين مكسور واقع
جنب الهدوم.
هنادي
:
الخوف.
شفيقة
:
متولي، متولي، أنا عارفاه.
(صمت)
هنادي
(تكفُّ عن خَلعِ ملابِسها، يبدو عليها الهلع، تتَّجه ناحيتها
وتُمسك بها وتهزُّها، وتتحسَّس جسدها، وتَستعطفها)
:
نهرب، نهرب، نمشي من هنا، هو جه؟
شفيقة
:
نزل م القطر.
هنادي
:
شايفاه.
شفيقة
:
نازل قدامي.
هنادي
(تسأل فجأة)
:
في إيده حاجة؟
شفيقة
:
شايفاها، حاجة.
هنادي
:
وأنا كمان؟
شفيقة
:
انتي قبليه، انتي السبب؛ كان دايمًا يقول ويشتم ويزعق ويملا الدنيا: ابعدي عنها،
ابعدي عنها.
هنادي
:
كان عارف؟
شفيقة
:
كل الناس كانت عارفة، السبب انتي، وشفوني عند الطاحون عند بيتك في عز الضهر
والشمس مالية الدنيا، عنيها على الدنيا، عنيها قد السما.
هنادي
(تهزها)
:
نمشي، نهرب،
شفيقة
:
وفي ليلة جمعة ضربني، مسكني عند العتبة، ورجلي على العتبة وضربني، شدني في الأرض،
وشعري وقع … جسدي كله، ورقد عليه بكل جسمه، وقطع من جسمي وشعري، وكلي.
هنادي
(منزعجة)
:
بتقولي جي؟
شفيقة
:
يوم ما جيت من عندك من عند الطاحون في ليلة جمعة وكان يكرهك.
هنادي
(بمسكنة)
:
نهرب يا شفيقة، أنا طول عمري أحبك، واحنا مشينا سوا، نمشي من هنا؛ عشان لما ييجي
ما يلقناش، نكون مشينا، ومحدش يعرف لنا أثر، كل الليل ورانا نرميه نقيد فيه النار،
ناكله بادينا واسنانا، منسبشي حاجة، وكله يروح، يتهد.
شفيقة
:
كان يقول: هيه السبب، هنادي السبب، هنادي وش خراب، هنادي خراب … خراب.
هنادي
:
مفيش حاجة من غير ولعة، كله نسيبه هنا، وحده محروق، والبلاد كتير، كتير ملو
الأرض، كتير نمشي يا شفيقة، وحياة عنيك.
شفيقة
:
لو كان طالك قبل ميسافر ع الجيش، ع الجهادية؟!
هنادي
:
دا مكتوب.
شفيقة
:
لو كان مشي ناحية الطاحون، ناحية بيتك، ناحية هنادي؟!
هنادي
:
ويومها أنا كنت لسه ندابه، والموت كان كتير.
شفيقة
:
كان يقول: دي تخرب البيوت العمار، دي الموت في رجليها، دي كل ما تمشي يمشي
الموت.
هنادي
:
نصيبي، نصيبي يا شفيقة.
شفيقة
(تواصل خلع ملابسها)
:
وأنا رحت برجلية للموت.
هنادي
:
نمشي يا أختي، نهرب، نلحق قبل ما ييجي.
شفيقة
:
أشيل إيدي وأحطها، أشيل رجلي، أمشي، أقوم، أقعد … أنا، ومفيش حاجة من دا كله، من
يوم ما نزلت.
هنادي
:
دا وعد يا شفيقة، وعد ونزلناه، برجلينا نزلناه.
شفيقة
:
وكل ما أمشي أرحله في لربع جهات، وتحت وفوق.
هنادي
:
نسيبه، نبعد عن هنا، عن أسيوط.
شفيقة
:
وملوش آخر، من يوم ما مشينا وخطينا وفتحنا بيت وسمعتك.
(تركع هنادي عند قدمَي شفيقة وتشدُّ ملابسها إلى أسفل
وتُجهش.)
هنادي
:
مكتوب نمشي، دا جي، بتقولي جي؟ نزل م القطر؟!
شفيقة
(تشير إلى الباب)
:
وفتح الباب. (يُسْمَع صوت باب يفتح مُحْدِثًا صريرًا
طويلًا.) ولابس بدلة الجيش، من يومها مشفتوش، بشوفو هنا بس
عندك.
هنادي
(تنهار)
:
دخل؟ دخل يا شفيقة؟ متولي!
شفيقة
:
خطا العتبة.
هنادي
:
نلحق يا ختي، نحرقه، نهرب، وميبقاش كله نحرقه … بنار الفرن نحرقه.
شفيقة
:
دا ورانا.
هنادي
:
خطا العتبة؟
شفيقة
:
واقف ع الباب.
(تُضاء بقعة في مؤخِّرة المسرح، يقف فيها شابٌّ مُكتمِل، أسمر،
مَفرود، صامت، منكَّس.)
هنادي
(تركع)
:
خلاص لحقنا، صبح معانا؟
شفيقة
(تترك مكانها وتتحرَّك مُبتعدةً عنها، تتجه إليه متوسلة)
:
انتَ جيت ياخويا؟
متولي
(مطرقًا، مستسلمًا)
:
جيت.
شفيقة
:
عشان تزورني؟
متولي
(صارخًا)
:
يا شفيقة.
(صمت)
شفيقة
:
عشان الوحش اللي أنا لبساه؟
متولي
:
دا ميتقلعش.
شفيقة
:
من يومها بقلع فيه.
متولي
:
أنا عارف.
شفيقة
:
مش كل ليلة بتشوفني؟
هنادي
(منزعجة)
:
فين هوه؟
شفيقة
:
أنا بشوفك وانتَ جي قبل ما تيجي.
هنادي
(تبحث)
:
فين، فين؟ قوليلي، قوليلي، أشوفو، مش عايزة أشوفو، شيفاه؟
شفيقة
(بهدوء)
:
من قبل ما تيجي، وانت لسه هناك.
متولي
(يبسط يديه)
:
ليه كده؟ ليه؟
هنادي
:
دا وعد، وعد يا شفيقة، وعد يا خويا (فترة)
قبلينا.
متولي
:
قولي، ليه؟
شفيقة
:
بتقول وعد!
هنادي
:
ملناش فيه.
متولي
:
أنا قلت كتير بلاش المشي عند الطاحون، والدنيا محروقة، والدنيا في عزِّ البرد،
والسكة مقطوعة.
هنادي
(منزعجة)
:
مش بإيدي أبدًا، ولا بيدك يا شفيقة (تتجه إلى شفيقة في
هياج) قوليلي هو جه؟ (تبحث) ليه مش
شيفاه، ليه سمعاه؟ دا نرميه (تشير إلى
الخلف).
شفيقة
:
عايزين نقلع، وبقالنا كتير، ليه؟ انت جيت؟ كل ليلة تيجي؟ تمشي من هناك لحد هنا؟
دا كتير! نص الليل وحدك، والعتمة مغيِّبة كل اللي تحت العين، كل ليلة؟
متولي
:
مفيش ليلة ماجيش، عيزاني أسيبك كده تقلعي؟ وأنا آعد ساكت، وعيني عليك.
شفيقة
(تواجهه)
:
ومفيش خلاص؟
متولي
:
هوا دا الخلاص، تعملي اللي تعمليه بالنهار، وأنا أجيلك بالليل أزورك، هو فيه حد
ميشوفشي اخته؟ فيه في الدنيا أخ ملوش في اخته؟
هنادي
:
قوليلي يا شفيقة، متسبنيش، بتقولي بيكرهني.
شفيقة
:
هيه السبب (تشير إلى هنادي).
هنادي
:
بتقوليلو.
شفيقة
:
انتي وش خراب.
هنادي
:
فين هوه؟ أشوفو، دا أنا عميانة.
شفيقة
:
جرتني من أيدي.
متولي
:
انتي وهيه.
هنادي
:
أبدًا، هيه اللي جت، كل ليلة كانت تيجي في عز القيالة.
متولي
:
أنا قلت بلاش.
هنادي
:
وتقلع عندي.
شفيقة
:
هيه اللي قلعتني، وضفرت شعري، ولبستني جلابية بالقصب.
هنادي
:
أنا كنت ندابة، وانت خبطي على بيتي.
متولي
:
مفيش ليلة مازوركيش، وأفوت ع البلاد.
شفيقة
:
وف يوم حطتلي أحمر.
هنادي
:
التفته كانت في جيبها.
متولي
:
بلاد، بلاد، بلاد.
شفيقة
:
ويومها عيطت.
هنادي
:
عيطت م الفرحة، كانت تحب الحلو.
متولي
(يتحرك إلى الحلف مادًّا ذراعيه)
:
أنا أقدر أنام، أنا أقدر أريح جتتي.
شفيقة
:
وقلت دا كتير، وقلت أنا خايفة، وكنت خايفة.
هنادي
:
بتكلمي مين؟ حرام عليك قوليلي، نطلع نجري، هدومنا لسه علينا (فترة) فين هوه؟ أشوفو بس، بيدخل منين؟ خرق
الحيط؟
متولي
:
كل اللي كان وقع، وقعتيه يا شفيقة، من صغرك وانتي كده.
شفيقة
(ملتهبة)
:
أبدًا، هيه اللي كانت بتعدلي في السكة، وتمسكني من إيدي … و… وفي مرة من هنا
(تشير إلى صدرها).
متولي
(يخفي عينيه ويزأر)
:
يا شفيقة، ليه؟ ليه؟
هنادي
:
وكنت دايمًا أخبي عنها، إيدها كانت طويلة، وكل اللي مش لها حلو.
شفيقة
:
انتي اللي جرتيني من إيدي، وخدتيني الموالد، وفتنا ع البلاد، وفتحتي عنيه ع
الحلو، ع الهدوم، ع الفضة، ع الفلوس، على كل اللي مشفتوش ولا عرفتوش ولا كنشي ليه
فيه.
(فترة)
متولي
(بصوت هادئ)
:
مفيش يوم ما شفشي أختي (عاليًا) لحمي،
لحمي.
هنادي
:
عنيك كانت في وشك، ووشك كان أبيض، وكل اللي كان فيك حلو، والنعمة مش مُرَّة، وأنا
بس وريتهالك، فتحت عنيك عليها.
(صمت)
متولي
(لنفسه)
:
دا انا مليش وش، دا أنا وشي مصبوغ في الأرض من يوم ما مشيت ورجلي حصلت البندر
وسمعتك.
متولي
(لنفسه)
:
دا أنا مليش وش، دا أنا وشي مصبوغ في الأرض والنيلة في كل مكان.
شفيقة
(لنفسها)
:
يا ريت كان ينفع، يا ريت كان في إيدي، يا ريت أطلع منه، دا
أنا اللي مصبوغة، والنيلة على راسي من فوق، في
بيتي، في جسمي (بحدة) في شفيقة، في
شفيقة.
(صمت)
هنادي
:
حصلنا، بقى معانا، كل ليلة، كل ما الدنيا تغيم، نص الليل، بعد ما نرجع م البيوت،
بعد ما نضحك، ونفرح، وكل اللي نشتهيه يبقى ملو الإيد، ملو حنكنا (تبحث) حصلنا خلاص يا ختي؟ وبتقولي في إيده حاجة؟
وزعلان، بقى معانا، جوانا، جوانا … (تجري إلى
الداخل) جوانا (تختفي).
متولي
(يروح يحاصر أخته فاردًا ذراعيه)
:
دانا مليش وش، دا أنا واقع زي شفيقة، زي أختي.
شفيقة
(تتراجع مذعورة)
:
وملوش آخر؟ مفيش خلاص؟ كل ليلة؟ كل ما الشمس تغيب، ليلة بعد ليلة؟ من يومها وأنا
كده؟ تجيني بالليل، تملاني، تمشي من هناك لحد هنا، دا كتير، كتير، كتير (تجهش).
(تُسْمَع أصوات مِن الكواليس مختلطة وغير متميِّزة على الإطلاق،
تبدأ خفيفة وتتضاعف شيئًا فشيئًا، أصوات رفيعة وغليظة لنِساء وأطفال ورجال، وأشياء،
وطَرقَعات سياط، وضحكات … إلخ. يتوهَّج المسرَح، المُمثلون ثابتون في حركتهم وكأنهم
دُمى، ثم يُظْلِم المسرح مرة واحدة، فترة، موسيقى، يرتفع صوت الكورس — وعد ومكتوب … إلخ
(مرة واحدة) حين ينتهي الكورس تُسْمَع خبطات على باب، إضاءة باهتة، نفس المكان، على
المسرح رجل عجوز فلاح بيدِه فرقلة وعلى كتفه مِخْلَة، وكل ما فيه جافٌّ وفقير.)
(يروح يقطع المكان، وبإيقاع صوت الرجل حين يحكي ويتذكَّر ويتوقَّف،
ويتساءل، ويحكي، موسيقى حزينة خافتة.)
الأب
:
كان ليا زمان بنت اسمها شفيقة، (صمت) ماتت
ودفنوها، كل الناس بتشيلها الرجالة على كتفها وتغيب، وترجع الرجالة، مترجعشي
البنت.
(يدور حول نفسه) وأنا بنتي راحت من غير رجالة
(فترة) راحت وحدها، ودفنوها. (يتوقف) لاكن لأ (يسأل
نفسه) أنا بنتي محدش دفنها؟ ومكنشي فيه رجالة ولا حاجة من دا كله،
الرجالة كانت ملو البلد ومحدش راح، هيه بس اللي راحت، فضلت ماشية ناحية هناك، على
طول، أبدًا مكنتش تتلفت وراها. (يتوقف منزعجًا)
وهو فيه ميت يتلفت وراه؟ فيه ميت في الدنيا شايف اللي وراه؟ الميت يفضل ماشي …
ماشي، ميرجعشي، ومحدش يشوفو بعد كده، ويغيب عن البيوت، يغيب … يغيب.
(تدخل شفيقة فجأة متبهرجة، تتوقف.)
شفيقة
:
مين؟
الأب
:
مين؟
شفيقة
:
أبويا؟
الأب
:
دي ماتت.
شفيقة
(تروح تتأمل ما حولها وتصرخ)
:
احنا في النهار.
الأب
:
غابت، غابت.
شفيقة
:
أنا شايفة كل حاجة.
الأب
:
أبدًا.
شفيقة
(بجنون)
:
دا نهار.
الأب
(يواصل حكايته)
:
الليل كان نزل.
شفيقة
:
دا نهار، مش ليل، والشمس ماليه الدنيا، الشمس ع البيوت ع الصجر، على بيتي.
الأب
:
والعين معدتشي تشوف، وهيه مشيت على طول، على طول ع السكة، ومكنشي فيه
رجالة.
شفيقة
:
أنا متأكدة، وعنيه لسه في وشي.
الأب
:
أول ما حطت رجلها على السكة مشيت على طول.
شفيقة
:
واللي بيزورني منهم بيزورني بالليل في عز العتمة.
الأب
:
ومرجعتشي.
شفيقة
(تأكد لنفسها)
:
بعد نص الليل، وميكونشي فيه حد صاحي.
الأب
(لنفسه)
:
وهوا فيه ميت يعود؟
شفيقة
:
غيرها، شفيقة.
الأب
:
ومن يومها ما رجعتشي، راحت في السكة (يتهاوى على
كرسي) واللي يروح ما يرجعشي.
شفيقة
(مبتعدة عنه – لنفسها)
:
أخويا وأبويا؟! بالليل وبالنهار وأنا نايمة وأنا صاحية بشم هوا الدنيا؟
الأب
:
يا خوفك يا شفيقة من السكة.
شفيقة
(متوترة – تتفرسه)
:
أبويا؟
الأب
:
راحت، راحت (يحكي) كان بعد المغرب، والليل كان
نزل واللي تمشي، تمشي بالليل (ينتصب واقفًا ويرفع صوته
مؤكدًا) ومترجعشي، من ساعة ما تحط رِجْلها ع السكة، خلاص.
شفيقة
:
أبدًا، أبدًا، محصلشي، ودا نهار (تبتعد عنه وتتأكد
لنفسها) وأبويا ما يجيش كده في النهار (ترتبك) وكمان دا مش ليل، والعتمة لسه هناك.
الأب
(لنفسه)
:
ليه كده؟ ليه؟
شفيقة
(تحاول معرفة شيء)
:
بالنهار؟ بالليل والنهار؟ دا كتير (تنادي) يا
هنادي، يا هنادي، يا هنادي.
(فترة)
الأب
(لنفسه)
:
أبدًا، مش ممكن، مش هيه. (فترة) هيه راحت في
السكة (يتذكر) وفاتت عليه، وأنا آعد في الضل
(يتحسر) ومقلتشي العوافي، مقلتشي.
شفيقة
(لنفسها)
:
في الضل؟
الأب
:
تحت الجميزة، عند الطاحون، جنب السكة.
شفيقة
:
من خمستاشر سنة (منكسة) لسه فاكراها، لسه
شيفاها الجميزة.
الأب
:
ومبصتشي وراها، مشيتي على طول، وأنا آعد في الضل، تحت عنيها.
شفيقة
(تتفرسه)
:
أبدًا، مش هوه!
الأب
:
عيني كانت عليها، وقلت دي رايحة البيت، وماشية من السكة البعيد، بعيد عن
الدكاكين، وعترت وهيه بعيد، كانت حاتقع في الأرض، قمت وقفت على حيلي وناديت عليها.
(ينادي بلا صوت ويأتي الصوت من الخلف، من بعيد، من
الكواليس.)
يا شفيقة، يا شفيقة. (صمت)، (بصوت هامس يواصل الأب) مردتش، نصبت قامتها، ووقفت
شوية، ومشيت على طول.
شفيقة
(تندفع ناحيته فجأة)
:
أنا كنت حاتلفت، وأقف، وأرجع لبويا.
الأب
:
أبوها مسمعتشي كلامه، وموقفتش عشان تشوفو، اللي وراها، اللي آعد في الضل، وعنيه ع
السكة، هناك، اللي متجبشي (بمرارة) واللي يروح
فيها ما يرجعشي، ومتشوفوش بعد كده البيوت، والناس، والعنين.
شفيقة
:
يا ريتني كنت وقفت، ورجعت!
الأب
:
هيه سكة واحدة، واللي يروح ميرجعشي. (صمت)، (يقطع الأب
المسرح منكَّسًا مُتجاهلًا وجودها) مفيش غيرها بس اللي رجعت.
شفيقة
(مفزوعة)
:
مين؟
الأب
:
واحدة غازية قلولي عليها، سمعتهم بيقولوا (يُظلِم
المسرح شيئًا فشيئًا، تَعلو موسيقى يتخلَّلها كلام الرجل) طول عمري
باسمعهم يقلوها، حكاية الغازية. (فترة) بيقولوا
إنها كانت موعودة، بيقولوا الكلام، حكاية الغازية الموعودة.
(طرَقات دُفوف رتيبة بطيئة، فترة، ثم يُضاء المسرح إضاءة خفيفة
مُحدِّدة ثلاث بقع ضوئية، في الطرف الأيمن للمسرح تقف شفيقة في ضوء شاحب خفيف أزرق، في
الطرف الآخر — الأيسر — يقف الأب في ضوء شاحب خفيف — أزرق. في الوسط — إلى الخلف —
بُقعة حمراء تقف فيها غازية بكل ملامح الغازية القديمة في أعماق الريف، نحيفة سمراء
تقاطيعها مصريَّة جسدها شبه عارٍ.)
(الحائط الخلفي للمسرح عبارة عن قِطاع في حارَة، خليط من جو سامر
ورسوم شبابيك مفتوحة وبيبان وعيون مفتوحة، كلها تطلُّ على الراقصة المنكَّسة تحت الضوء.
والرَّقصةُ هنا خليط من رقْص الغوازي على قليل من التعبير، والمفروض أنَّ الراقصة
تعبِّر بالرقص عن القوى القدرية، الغريبة، تلك التي تُفْرَض على الإنسان.)
الأب
:
مكتوب عليها إنها تنزل الوعد.
(تبدأ الراقصة تتحرَّك في بطء … فترة.)
وراحت ترقص. (فترة) في كل حتة كانت ترقص.
(فترة) مكتوب، مفيش مهرب. (فترة) أبدًا مفيش. (صمت) تروح فين؟
(تعنَّف الرقصة، وتشتدُّ دقات الدُّفوف … فترة.)
الأب
:
راحت ترقص وتلِف في البلاد، وماشية على طول، على هناك، ومبصتش وراها.
شفيقة
:
أنا عترت، وكنت حاقع في الأرض (بحدة) ووقفت
مكاني، وكنت حارجع، ومكملشي.
(تعلو الدقات، ويشتدُّ الرَّقْص.)
الأب
:
ومكنتش أبدًا تتلفِّت وراها، واللي وراها آعد في الضل، وشه في الأرض، والأرض
كبيرة قد بلدنا، قد الدنيا. (صمت) وكانوا
يشوفوها في الموالد، وف العراس، وتحت الصجر، وف لجران، وعند الشوارع.
شفيقة
:
كنت حا أقف.
الأب
:
وزي كل الناس بتعيش وتموت، مقدرتشي ترقص، ووقعت في الأرض.
(تبدأ الرقصة تهزل، وتتوتَّر، وتهتزُّ الراقصة ثم تَسقُط على
الأرض.)
الأب
(عاليًا)
:
ماتت، ماتت (بصوت عادي) وزي كل الناس اللي
بتقع في الأرض وتموت (عاليًا) ماتت، ماتت!
(فترة)، (لنفسه) وهوا فيه ميت يشوف اللي وراه؟
(يُظلم المسرح تمامًا، ثمَّ يُضاء إضاءة باهتة. على المسرح رجلان
يحملان نعشًا طويلًا أبيض، وخلفهما امرأة وحيدة منكَّسة، ويقطَع هذا المشهد المسرح من
ناحية شفيقة إلى ناحية الأب، أي مِن اليمين إلى اليسار في صمت.)
الأب
:
شالوها الرجالة بعد المغرب، ودفَنوها (يحكي)
وراحت ليام، وجت ليام، وأنا آعد في الضل، تحت الجميزة (فترة) انتي عرفاها السكة جنب الطاحون (بصوت خالٍ من التعبير يسأل شفيقة) فاكراها، اللي مشيتي فيها، والليل
نازل والبيوت وراك، مفتوحة، وانتي ماشية رايحة هناك (بمرارة) وأبوك آعد وراك.
(صمت)
شفيقة
:
أنا مسمعتكشي.
الأب
:
عترتي وانتي ماشية، وكنت حاتقعي، والسكة وخداك، وطرحتك كانت على نص وشك، والنص
التاني عريان، مكشوف، وحاجة في إيدك، هدوم، مكنشي فيه ناس كتير، والليل بيجري ع
البلد.
شفيقة
:
لو كنت قمت وشديتني من إيدي!
الأب
:
دي ماتت، انتهت، ودفنوها الرجالة.
قفلوا حنكها، ورشوا ميه وادوها صبار وسبوها.
شفيقة
:
أنا بقيت خايفة وأنا ماشية ورِجْلي ع السكة، وشيفاك ورايا، ورايا.
الأب
:
مفيش ميت يشوف أبدًا (يحكي) وهيه لما ماتت
وقفلوا حنكها الغازية الموعودة (فترة صمت) أنا
بقول عليها (يواصل) ماتت ناقصة عمر، مخلصتشي
اللي عليها، اللي ع الجبين، اللي شيلاه، اللي
الواحد منا بييجي بيه الدنيا على كتفه، بتاعه اللي مكتوب عليه يعمله في الدنيا، وكل
ما يمشي يبقى على كتافه (فترة) زي الجلد، جلدنا،
جلدنا.
شفيقة
:
أنا مشفتكتش وانت آعد في الضل.
الأب
:
أنا كنت وراكي، أنا أبوكي.
شفيقة
:
سمعتك بس، وكنت حارجع من السكة.
الأب
:
مفيش ميت يرجع (فترة) مفيش غيرها الغازية
الموعودة، ماتت ناقصة عمر.
(موسيقى)
(وراح لها الهاتف على قبرها، ونادى عليها، يا نايمة في تربتك. قومي
إوفي الدِّين اللي عليكي قومي، انتي لسه باقي عليكي، اللي عليكي مخلصشي، انتي سبتي
الحِمل بتاعك هنا بره، قومي، قومي، قومي، قومي، قومي، قومي، قومي.)
(يظلم المسرح)
الأب
:
في كل ليلة كان يروح لها الهاتف، لحد ما قامت من تربتها.
شفيقة
:
أنا قمت بعد ما عترت، وكنت حارجع لما سمعتك.
الأب
:
قامت من تربتها، ومسكت الصاجات، وشالت الحِمل على ضهرها. (صمت)، (تمضي الغازية ترقص بلا موسيقى.) أصل مفيش حد
بييجي فاضي، كل واحد شيلته على كتفه، والسكة واسعة، وانتي مشيتي على طول، وأبوكي
مسمعتيش كلامه، موقفتيش، ليه؟
شفيقة
:
أنا وقفت وكنت حارجع.
الأب
:
عنيه كانت عليكي، وانتي في السكة، في أولها.
شفيقة
:
ووقعت.
الأب
:
هيه مرة واحدة، اللي قامت فيها الغازية، زمان (يحكي) وزي ما بيقولوا، لسه بترقص لحد الوقت.
(تستمرُّ الراقصة تَرقُص؛ لتعبِّر عن الصراع بين الإنسان والقدر،
تعنف الموسيقى، يُظلِم المسرح، تأثير منزل البغيِّ، على المسرح الأب وشفيقة يتأمَّل كل
منهما الآخر.)
شفيقة
:
انت جيت عشان تزورني؟ النهاردة.
الأب
:
أنا جيت قبل متولي.
شفيقة
:
بالنهار؟
الأب
:
متولي بيقول: دي صاحيه.
شفيقة
:
مش بالليل؟
الأب
:
النهاردة.
شفيقة
:
هو جه م الجيش؟
الأب
:
النهاردة.
شفيقة
:
أخويا هيزورني؟
الأب
:
هو قال.
شفيقة
(بفرح)
:
متولي هيجيني؟
الأب
:
أنا قلت دي ماتت.
شفيقة
:
طول الليل بستناه.
الأب
:
جي في السكة.
شفيقة
:
أبويا وأخويا.
الأب
:
أنا قلت دي راحت، من يوم السكة. (تدخل هنادي فرحانة
تُفاجأ بوجود الأب، تحاول التراجع، لكنَّ الأب يتَّجه ناحيتها
متعرِّفًا) وانتي قبليها يا هنادي.
هنادي
(مأخوذة)
:
أنا مليش ذنب، وعنيها كانت في وشها (تشير إلى
شفيقة).
شفيقة
(بفرح صبياني)
:
متولي جي، جي يا هنادي، بالنهار، النهاردة.
الأب
:
يا ريت يتوه عن السكة.
شفيقة
:
أبدًا، أبدًا، البيت ميتوهشي، كل الناس عارفاه وبيجوني من آخر البلاد، بييجوا
بيتي، كلهم عارفينه وبيشاوروا عليه، مفيش حد ميعرفوش، ترسينته إزاز، وشبابيكه
مفتوحة، تطل ع الشارع، البيت ع الشارع، في وسط الشارع، مفتوح.
(فترة)
الأب
:
زمانه وصل أسيوط، ومعاه حاجة.
هنادي
(تذعر)
:
ملناش قعاد هنا (تتحرك إلى جانب شفيقة)
نمشي.
شفيقة
:
كل الناس هتشاور وتقولوا على بيت شفيقة، أخته، كلهم دخلوه، الباب من بره
مكسور.
هنادي
:
قبل ما يدخل.
الأب
:
مسمعشي كلامي، ما عجبوش، ورفع إيده عليه، على أبوه لما قلتلو دي ماتت.
شفيقة
:
أنا آعدة أستنه أخويا لما يجيني، يدخل عليه في بيتي، دا ميتوهشي. (بحدة) هو فيه حد ميعرفشي بيت شفيقة؟
الأب
(يحكي)
:
أول ما دخل قال فين أختي؟
(صمت) قلتلو: سلامات من الغيبات يا
متولى.
(صمت) قاللي: أبدًا، منك يابا لا أنا عايز
سلام ولا كلام، قوللي يابا على أختي في أي مكان؟
(صمت) قلتلو: ماتت يا متولي، وآدي الدوام لله
(بمرارة). زعق وقاللي: والله لو ما يقولم
على قتل الوالدين حرام لأقطعك يابا بالسكين تلات كيمان.
شفيقة
(بفرح حقيقي)
:
دا يوم المنى.
هنادي
(مندهشة)
:
انتي عايزة كده؟
الأب
:
دي ماتت.
شفيقة
:
عيزاه.
هنادي
:
غرايب!
الأب
:
زي الغازية.
شفيقة
:
أخويا هيجيني؟
الأب
:
يا ريت يتوه.
هنادي
:
البيت ميتوهش.
شفيقة
:
بيتي ع الشارع.
الأب
:
ترسينته إزاز.
هنادي
:
البلاد كتير.
شفيقة
:
لازم يجيني.
الأب
:
زي ما قلت.
(صمت)
شفيقة
(مفزوعة، تجري إلى الباب)
:
حاجة بتخبط!
هنادي
(تجري ناحيتها)
:
لازم هوه.
شفيقة
:
الخبط في دماغي.
هنادي
(تسألها)
:
سمعاه؟
الأب
:
أنا سبته ع السكة.
شفيقة
(تسأله)
:
وف إيده حاجة؟
الأب
(وكأنه يقرر شيئًا عاديًّا)
:
متولي جي، جي. (فترة) ابني متولي (يسألها) مش عرفاه؟ نسيتيه؟ (بحدة) أخوك، ابني؟ انتي نسيتيه، أخوكي، اللي كنتي
معاه، جيتني قبليه، وكنت دايمًا تخشيه، وتجري منه، وتستخبي ورا الباب، والباب كان
بوص. (يمد لها يده مطاردًا) يفوت الإيد، إيدي
كانت تفوت منه، الباب البوص (يسألها) انتي
نسيتيه؟ متولي؟!
(يبتعد عنها متجهًا إلى الجدار وظهره للجمهور)
قلتلو: ماتت يا متولي، وآدي الدوام لله.
شفيقة
:
أنا آعده استناه.
هنادي
(بقلق)
:
نمشي يا شفيقة.
شفيقة
:
أخويا هيجيني؟
الأب
(يطرق كفًّا بكف)
:
يا خسارة يا متولي.
هنادي
(يغرقها القلق)
:
السكة مش بعيدة، وزمانه ع الباب، زمانه في أسيوط، زمانه تحت البيت، والبيت تحت
العين، والباب مكسور، ومتولي زعلان، وبتقولي في إيده حاجة، ووشه متغير، مش وشه.
(فترة) أنا عارفاه، كنت ديمًا أخاف منه،
وأقابلك في العتمة، هناك ورا البيوت، وبعد كده ع السكة. (تتلفت حولها في خبل) كنت دايمًا أخاف وشيفاه ورايا، وأتلفت عليه
(تتوقف) لاحسن يكون. (تروح تتوسل إلى شفيقة وتتحسس جسدها) نلحق قبل ما
ييجي، ولما ييجي ميلقناش، نكون مشينا، وسبنا اللي ورانا (تتوقف) ومفيش حاجة ورانا. (تبتعد
عنها).
اللي ورانا شايلينه، كل واحد شيلته على كتفه (تصرخ) أصله مكتوب وملناش فيه (تتجه ناحية
الأب) دا احنا جينا لقيناه، مخطط وجاهز، واحنا مشينا فيه (تواجه الجدار الخلفي، وتشبك ذراعيها عليه) وأنا
ديمًا أقولك كده، في ودانك، مفيش ليلة ما قولكشي، وهو هيجينا.
(صمت طويل)
شفيقة
(وهي تخطو ناحية مقدمة المسرح، تسأل)
:
واتأخر ليه؟
الأب
(لنفسه)
:
دي نسياه.
هنادي
:
البلاد كتير.
شفيقة
(فجأة لهنادي)
:
فين الفستان الحلو؟
هنادي
:
الحلو.
شفيقة
:
أبو ترتر.
الأب
:
حكاية الغازية؟ (يسأل) سمعتيها يا
هنادي؟
هنادي
(لشفيقة، مؤكدة، محتدة)
:
متولي جي، زمانه ع الباب.
شفيقة
(تفزع، تجري ناحية الباب)
:
الفستان. (تتسمَّر في صمت) قبل ما
ييجي.
الأب
(بحدة)
:
عايز أقولها لك يا هنادي.
هنادي
(منزعجة – لنفسها)
:
الفستان أبو ترتر، هاه، لأ، لأ، لأ.
شفيقة
:
بتاع بالليل.
الأب
(لهنادي)
:
مش سمعاني؟
هنادي
:
أنا ما أقدرشي، لحد كده ولأ.
شفيقة
:
عشان لما ييجي يلاقيني لبساه.
(تروح تتحرك في شيء من التصابي، وتتطلع إلى المرآة، وتتلاعب
بجدائل شعرها، وتتحرك في حرية أكثر.)
ويقوللي يا شفيقة، يا حبة عيني، يا أختي، يا بنت أمي وأبويا، (تغمغم بتحسر) ليه كده؟ ليه؟
(صمت ثقيل)
الأب
(يحكي)
:
أنا مشوفتهاش، أنا يا دوب سمعت كلام كانوا بيقولوه (يتوقف مرة واحدة، ويمضي يتأمل شفيقة وهي تعربد عند المرآة. يصرخ)
بنتي، بنتي.
شفيقة
(بحدة)
:
عايزة الفستان.
هنادي
(فجأة)
:
أبو ترتر؟
شفيقة
:
لسه مسمعتيش؟
هنادي
:
سمعت!
(فترة)
الأب
:
حكاية الغازية دي حلوة، ليه مش سمعاها يا ندابة؟ اللي ماتت ناقصة عمر،
هربت.
(فترة)
شفيقة
:
لو كنت قمت، وضربتني وانت في الضل، متداري ورا الجميزة، وعنيك عليه، وأنا ماشية
في دخلة الليل، وعيني مفتوحة ع السكة، وشيفاك ورايا، انت وهوه، أخويا … (تضحك في خلاعة) هيجيني، وياخدني في حضنه (تروح تقطع المسرح) وإديه تبقى في إديه، وصدره على
صدري، ونَفَسه في وشي، وأنا هبقه خايفة، خايفة.
هنادي
(منزعجة)
:
أنا يا أختي ما أقدرشي.
الأب
(يولول)
:
دا أنا كنت مكسور في الضل.
شفيقة
:
لو كنت.
هنادي
:
دا مكتوب.
الأب
(بصوت مَنْ يحكي حكاية يمسح شاربه ويواجه هنادي)
:
كان بعد المغرب والدفنة تمت، وكل واحد راح في سكته، كانوا اتنين رجالة، وست
واحدة، لابسة أسود في أسود، ومعصبة، ونص طرحتها على وشها، والنص التاني مكشوف،
وعينها هناك، وبتعيط (يتوقف). (يسأل) حد منكم
سامعني؟
شفيقة
:
جبتيه، الفستان؟
(هنادي في صمت، تتحرك إلى الداخل – تختفي.)
الأب
(لشفيقة – بشكل عادي)
:
اتأخر؟ يمكن تاه.
شفيقة
:
لازم ييجي، أنا شيفاه.
(هنادي تدخل بالفستان.)
شفيقة
(تتناول منها الفستان، وتروح تتأمله)
:
بالترتر، عشان يشوفو.
هنادي
:
انتي هتلبسيه؟
شفيقة
:
ع اللحم.
الأب
(يحكي)
:
هربت، وماتت. (يتوقف) تعمل إيه؟ مش قادرة
ترقص، وتهز لحمها قدام الغُرب. (صمت) وقعت في
الأرض … (لهنادي) ومفيش حد هايفضل واقف (يسأل) فيه؟ (يحكي) مفيش، ييجي منين؟ وهيه كده العيشة (يتوقف).
هنادي
(مذعورة – لشفيقة)
:
قدام متولي؟
شفيقة
:
عشان يشوف أخته واللي لبساه.
الأب
(يحكي ويترحم)
:
لكن كانت غلبانة، الغازية الموعودة اللي عايزة تفك نفسها وسابت الرقص (يتذكر) بيقولوا إنها كانت في سامر، ووقعت في وسط
السامر، وهيه بترقص، تقل عليها.
شفيقة
(تروح تخلع الفستان الذي ترتديه، يسقط منها على الأرض، تعربد
قليلًا وتترنَّم بأغنية خفيفة، وتصلح الآخر، وترتديه)
:
ننوس يا ننوس
لاخد من بابا فلوس
وبابا من حبه فيه
جبلي طربوش وطاقية
ويقوللي:
يا روح أمك
مارتحشي عند ماما
من تاني، من تاني
وأنا مالي، وأنا مالي.
هنادي
(تفزع)
:
أنا ما أقدرشي.
الأب
:
الناس في السامر، كانت هاتتجنن لما وقعت، وقاموا يجروا عليها وسدوا حنكها،
غطوها.
هنادي
:
لأ، ما أقدرشي.
شفيقة
(تتأمل الفستان في المرآة، وتغمغم لنفسها)
:
ليه كده؟ ليه؟
هنادي
(تدقُّ بكِلتا يدَيها على صدرها)
:
يا خبر اسود.
شفيقة
(لهنادي)
:
مش أنا كده؟
الأب
:
أنا قلت حكاية الغازية؟
هنادي
:
أنا هاطلع من هنا ملط، بجلدي، قبل ما ييجي.
الأب
:
قلتها كلها؟ يعني منسيتش حاجة منها؟ ما وقعشي منها في السكة.
شفيقة
(وهي منشغلة بتأمل وإصلاح الفستان)
:
أول ما يدخل يقول: أنا جيت.
هنادي
:
أنا حاسيبِك، واسوح في البلاد.
الأب
:
قلت لحد ماتت، ودفنوها؟
شفيقة
:
وانتي ماشية، امشي من جنب الحيط يا هنادي، داري نفسك.
الأب
:
ولما راح لها الهاتف على التربة؟
هنادي
(لنفسها في توتر)
:
والبلاد كتير، وحِملي على كتفي.
شفيقة
:
هاتقعي جنب حيط.
(هنادي تتأهَّب للخروج، والأب يُعكِّز خلفَها.)
الأب
:
خديني معاكي يا هنادي، يا خراب.
(يدق الباب من الخارج في عنف – تتوقَّف هنادي والأب واحدًا وراء
الآخر ويتسمَّعان – صوت متولي من الخارج صارخًا):يا شفيقة.
(صمت – يخرجان)
شفيقة
(وهي مُتسمِّرة في مكانها)
:
انت جيت يا خويا؟ متولي.
(فترة)
الكورس
:
وعد ومكتوب ع الجبين
لازم تشوفو العين.
(ينزل الستار في بطء)
(انتهت)