مدخل
مضى حتى الآن زمن منذ انتهى بعض الباحثين من وضع تصور عام يشمل مجمل القضايا والمسائل والأفكار التي تمُتُّ بصلة إلى علم النحو العربي. وقد صنفوها في المجمل إلى اتجاهين. ووفقًا لهذا التقسيم، فإن القضايا والمسائل التي تنتمي إلى ما يُعرف بالنحو التعليمي تهدف إلى غاية تُعْطي النحو تصوُّرًا معينًا، وهي الغاية التي يجري الحديث عنها تحت فكرة صيانة اللغة.
يوصِّف مفهوم النحو التعليمي الفكرة الجوهرية في التراث النحوي العربي الكلاسيكي التي ترى أن دراسة النحو تؤدي دورًا فاعلًا في تجنُّب الخطأ اللغوي إذا ما حُدِّدت مجموعة من القواعد؛ لذلك فقد يُعرف بالنحو المعياري، ولأنه يُعنى بمكونات التركيب، فإنه قد يُعرف بالنحو التحليلي.
أما مجموعة القضايا والأفكار والمسائل الأخرى التي لها صلة بمعاني الجمل اللغوية وتركيبها، ووصف النظام اللغوي؛ فتقع ضمن الاتجاه الآخر الذي يُعرف بالنحو العلمي، وهو مفهوم يوصِّف دراسة النظام اللغوي وتركيب الجمل ومعانيها العامة؛ لذلك فقد يُعرف بالنحو الوصفي.
وعلى الرغم من أن هذا التقسيم له جذوره التاريخية العميقة، فإنه لم يُعرف ويُبلور إلا في القرن الماضي (القرن ٢٠) عندما عُرضت قضية «تجديد النحو»، واطُّلع على تطور مناهج الدراسات اللغوية الغربية، والتعارض الذي قام بين مَنْ يريد تجديد النحو أو بقاءه في صورته الكلاسيكية.
غير أن الملاحظ أن كلا الاتجاهين التعليمي والعلمي تجاهَلَا تاريخ النحو؛ ذلك أن الحيز الذي أُفرد للحديث عن قضايا ومشكلات ومسائل النحو العامة أو التفصيلية واسع، وارتبط في الغالب بحياة هذا النحوي أو ذاك لا سيما في الرسائل الجامعية، إلى حد يحق للمرء أن يتحدث عن معتقد علمي جامعي يبدأ بحياة النحوي عند الحديث عن النحو، وقد تدرَّب جيل كامل على هذا.
يتضمن هذا التناول — الذي يبدو أن حسًّا مشتركًا يحكمه — مسلمات أبرزها فكرة أن تاريخ النحو مرتبط بتاريخ النحاة. وقد كفَّت هذه المسلَّمةُ تاريخَ النحو عن أن يكون تاريخًا لعلم النحو ذاته. ولم يعد السؤال سؤال النحو من حيث هو علم، إنما سؤال النحوي من حيث هو عالم.
لن أبدأ برفض تصور تاريخ النحو الذي يربطه بتاريخ النحاة، ولن أتعامل معه كخصم للتاريخ الذي اقترحه لعلم النحو؛ لذلك لن أتجاهله، إنما سآخذه مأخذ الجد، وسأبحث عبره وأنطلق منه؛ لذلك يجب أن أبدأ باعتراف هو وجود طيف لتاريخ النحو؛ أعني تاريخ النحو في شكله التقليدي الذي يؤرخ للنحاة وطبقاتهم وتراتبهم ومدنهم وأقاليمهم. غير أن حصَّة تاريخ النحو قليلة في هذا الإجراء الذي يعجز عن أن يدرك البعد التاريخي للنحو من حيث هو موضوع تاريخ النحو.
لم يعد تاريخ كهذا مرضيًا. وليس واضحًا في البداية كيف يمكن أن يُنجز تاريخ آخر، بيد أن ما هو مؤكد أن إنجاز تاريخ مغاير لن يُنجز عن طريق تفكير مضمون النتائج؛ إنما من الواجب أن يغامر الباحثون. ذلك أن العقل البشري إذا لم يكن موجهًا بالمغامرة، فإنه لا يستطيع أن يتغلب على ما كان يُعتبر حقائق مقررة نشأ عليها، وفي العلوم الإنسانية المفتوحة على بعضها البعض لن يكون من المناسب لعلم معين ألا يخرج من كهفه إلى ما تشمله العلوم الإنسانية الواسعة.
لكي نعيد كتابة تاريخ علم النحو العربي نحتاج إلى أن نتخلى عن الأحكام المسبقة، وإلى عدسة جديدة. يشبه هذا أن نستخدم نظارة طبيَّة تحول الإحساس بالمنظور، بحيث تكاد تُلمس الأجسام بعد أن كانت بعيدة وغائمة، وأن ننتقل من مرحلة عاطفية إلى مرحلة عقلانية، من مغامرة فكرة إلى أمان معقوليَّتها. ومن هذه الأفكار فكرة أن يؤرخ للنحو العربي استنادًا إلى تطور مفهومه.
مناطق تاريخ علم النحو المُقترحة
إذا ما نُظر إلى فكرة تاريخ مفهوم النحو العربي من الجانب الذي تبدو عليه ضمن تاريخ النحو، فإنها تبدو فكرة واحدة؛ ذلك أن أفكار تاريخ النحو العربي يمكن أن تكون أكثر منها بكثير. يمكن أن أضع تحت تاريخ النحو العربي تحليل صراع النحاة المتعلق بقضايا النحو ومسائله العلمية، والتساؤل عن الفكرة التي كونتها كل جماعة نحوية، وتتبُّع بناء مفاهيم النحو المؤسسة والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها، وتتبُّع المفاهيم الموجهة للنحو والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها.
تتوسَّع أفكار تاريخ النحو العربي بقدر ما نغامر في عرض أسئلة جديدة أو نعيد التفكير في أجوبة قديمة ومعادة ومألوفة؛ فكتب مراتب النحويين تتيح لمؤرخ النحو تحليل الكيفية التي قام بها النُّحاة بوصفهم أساتذة وشيوخًا لنحاة آخرين. وكتب الطبقات تتيح له الكيفية التي تترابط بها جماعة نحوية ما. والشروح والحواشي تعطينا صورة تخطيطية لعصور المعرفة النحوية، ومساهمات النحاة الكبار تعطينا تاريخًا لتكوُّن أو تطوُّر أو تفكُّك أو حتى تنقيح المفاهيم النحوية. وكتب الخلاف تعطينا فكرة عن مشكلات النحو الكبرى، ومخططًا تاريخيًّا لتطور تلك المشكلات.
تتيح مناطق عمل كهذه أن تنقذ تدهور تاريخ النحو العربي الذي تعود إنجازاته التي نعرفها إلى قرون قديمة، وإلى إنجازات أقل في القرن الماضي. وبالرغم من كل الملاحظات التي أبديناها تحت كلمة «طيف» إلا أن الذين ألفوا في الخلافات النحوية، ومراتب النحويين وطبقاتهم والمدارس النحوية وفروا للباحثين مادة مهمة يمكن أن يجد فيها مؤرخ علم النحو نفسه في وضع يسمح له أن يرى تاريخ النحو من وجهة نظر غير مألوفة ومختلفة عن تلك التي أراد أولئك أن نراه.
أسئلة تاريخ علم النحو المُقترحة
إذا نظرنا إلى كتب النحو العربي وشروحها وتلخيصاتها، وإلى كتب تراجم النحاة وطبقاتهم ومراتبهم، وخلافهم من حيث هي كتبٌ أخرى أكثر من كونها تشرح أو تختصر قضايا ومسائل نحْوية، أو تترجم لحياة هذا النحوي أو خلافه، فإن ذلك قد يؤدي إلى تحوُّل في تصورنا لتاريخ النحو الذي يأسرنا الآن. ويحاول هذا المدخل أن يُظهر تصوُّرًا آخر ومختلفًا لتاريخ النحو.
لن يُكشف هذا التصور إذا ظللنا نسأل الأسئلة ذاتها: متى وُلد نحوي ما؟ وأين؟ ومَنْ شيوخه؟ وما كتبه؟ وهي الأسئلة النمطية التي تفرضها الصورة المألوفة لتاريخ النحو؛ ذلك أن التراجم والمراتب والطبقات بدت لنا مقتطفات متعلِّقة بسيرة حياة النحوي مخلوطة بفكره النحوي. ولكي يتضح التصور الجديد يجب أن تتغير الأسئلة من الأسئلة أعلاه إلى: لماذا يشرح النُّحاة كتبَ بعضهم بعضًا؟ لماذا يختصرون كتب بعضهم بعضًا؟ ما علاقة النحوي المتأخر بالنحوي المتقدِّم؟ هل عارضه أم وافقه في آرائه النحوية؟ وأسئلة أخرى ستبدو من نمط مختلف. إن تغيير الأسئلة يغير الإجابات، وحينما نجيب عن أسئلة كهذه فإن تصوُّرًا لتاريخ النحو سيبدو مختلفًا.
شرح الكتب النحوية واختصارها
يشعر قارئ التراث النحوي العربي أن الكتب النحوية التي شرحت الكتب النحوية شرحًا أو اختصرتها أكثر من الكتب التي شُرحت أو اختُصرت، حتى ليخيَّل للقارئ أن كتب التراث النحوي لا تقول شيئًا سوى أنها تشرح أو تلخص بعضها بعضًا. على سبيل المثال: أحصى عبد السلام هارون في مقدمته لتحقيق كتاب سيبويه «٢٣» كتابًا في شرحه و«١١» كتابًا في شرح شواهده و«٣» كتب في اختصاره أو اختصار شروحه و«٤» كتب في الاعتراض أو رد الاعتراضات. ومجموع هذا كله «٥٥» كتابًا شارك فيها كبار علماء العربية كالمازني وابن السراج والسيرافي. قد يقول قائل: إن كتاب سيبويه؛ لأنه من الكتب المؤسسة للنماذج العلمية، وكما هو معروف، فهدف مثل هذه الشروح والتلخيصات هو الحفاظ على نموذج نحوي متماسك؛ أي إن مهمة هذه الكتب هي أن تصفي نموذج نحو سيبويه، وأن تشذبه، وأن تصقله. غير أن حجة كهذه يترتب عليها أن مهمة النحاة في تاريخ النحو العربي لن تكون إبداع المفاهيم النحوية الجديدة، ولا تطوير النحو من حيث هو علم بأن يضيفوا إليه، أو أن يولدوا نماذج نحوية أخرى. إنما مهمتهم أن يحافظوا على نموذج نحوي معيَّن، ويفنوا أعمارهم في تشذيبه وتنقيته وصقله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشرح لم يقتصر على كتاب سيبويه، فقد شرح النحاة كتبًا أخرى تعليمية وميسَّرة؛ أشهر هذه الكتب كتاب «الجمل في النحو» للزجاجي. قد أحصى محقق الكتاب «٤١» كتابًا في شرحه، يتراوح حجمها بين مجلدين وبين تعليقات. كما أحصى «١٨» كتابًا في شرح أبيات الكتاب وشواهده. وعلى أي حال، ليس هذا الجرد السريع بلا دلالة؛ إذ يمكن أن نستنتج التصور الفكري الذي يتحرك خلف التراث النحوي العربي؛ وهو أن المعرفة النحوية هي ما ينقل من أسلوب إلى أسلوب، وأن المعرفة تقوم على التشابه؛ لأن الشرح والاختصار يشبهان ما شرحاه أو لخصاه.
من جهة أخرى، يكمن الإطار العام لاختصار الكتب النحوية في أن المشكلة المعروضة على المهتمين بالنحو العربي، هي: كيفية التعامل مع والسيطرة على المعرفة النحوية المتراكمة. لا يمكنني هنا ألا أفكر في إمكانية الاستغناء عن ضخامة المؤلفات النحوية بمختصرات تمثل حلًّا مقبولًا يستجيب لشرط الذاكرة. ومن هذا المنظور وُلد المختصر من سؤال هو: كيف يمكن استيعاب المعرفة النحوية المتراكمة؟ قد يقول قائل: إن الاختصار لا يحتمل التجاوز؛ لأنه يحمل صدى المؤلف ومحاكاته. الاختصار موقف تعليمي أكثر منه موقفًا تأليفيًّا. أن يختصر نحوي ما ألفه نحوي آخر يعني إيمانه بجدوى ما كتبه المؤلف الآخر، وإيصال كتابه إلى أكبر قدر ممكن من الناس. ويمكن أن أضيف تسهيل درس الكتاب وتحصيله لتسليم المختصِر بأهمية المختصَر. لكن من وجهة النظر التي نعرضها عن تاريخ النحو العربي، وتخص اختصار الكتب النحوية أن المختصر يحمل معه عملًا مريبًا، فعند مستوًى ما تبدو الرغبة في اختصار كتابٍ ما رغبة في تجاوزه، فالكتاب هُوية لا تقبل الاختراق ما دام يحمل اسم مؤلف آخر. كل اختصار هو بمعنًى ما تجاوزٌ ينطوي على إدانة المؤلف بالقصور. يتوسط المختصر بين مؤلف الكتاب وبين القارئ لأنه يعتبر ذاته أعلم منهما معًا؛ فالقارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب كل الكتاب، والمؤلف قاصر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها. الاختصار بمعنًى ما: هو اتهام مبطن بالثرثرة والهذر. والمختصرون إذ يقيمون بين المؤلف وبين القارئ يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات؛ ولذلك لا يخلو عملهم من عنف مشروع، لم تكن المؤسسة الثقافية آنذاك تجرمه أو تدينه.
أما شارح الكتب النحوية، فهو مختصر الكتب النحوية، لكن بشكل معكوس. وكما قلنا عن الاختصار؛ فالرغبة في شرح كتابٍ ما رغبة في تجاوزه؛ إذ الكتاب هوية لا تقبل الاختراق ما دام يحمل توقيعًا آخر، وكل شرح ينطوي على إدانة القصور. يتوسط الشارح بين الكاتب وبين القارئ؛ لأنه يعتبر ذاته أعلم منهما معًا. القارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب الكتاب. والمؤلف قاصر؛ لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها. الشرح بمعنًى ما هو اتهامٌ مبطَّن بالغموض، والشارحون إذ يقيمون بين المؤلف والقارئ يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات. ومثل الملخِّصين لا يخلو عمل الشراح من عُنف مشروع لم تكن المؤسسة الثقافية تجرمه أو تدينه. أكثر من هذا؛ يخفي الشرح تصورًا يتعلق بالتأليف والحقيقة. وإذا ما تأملنا الكتب التي شَرحت كتاب سيبويه؛ فسيتضح أن المطلوب من شرح تلك الكتب أن تكشف عن المبهم والخفي والمشوش في كتاب أصلي، وأن الحقيقة مبهمة ومختفية. ومهمة التأليف هي البحث عنها في هذا الكتاب.
مراتب وتراجم وطبقات النحاة
لا يمكن أن ننسى تخليد الذكرى الذي بدأت به فكرة التراجم في التراث العربي لا سيما الصحابة، غير أنها اتسعت فيما بعدُ إلى الدور الفئوي الاجتماعي عوضًا عن السياسي. ترتَّب على هذا أن المؤهل الأساسي للمُترجَم له هو إسهامه الفردي في التقليد الثقافية للمجتمع الإسلامي. ثم تبع ذلك أن توسعت فكرة التراجم إلى الثقافة العربية كالأدباء والشعراء واللغويين والنحاة.
في إطار هذا التقليد تُرجم لعدد كبير من النحاة. بدأ ذلك المبرد وثعلب، وتبعهما ابن درستويه، والمرزباني وغيرهما. غير أن أهم كتابين عُرِفا في هذا المجال هما: «مراتب النحويين» لأبي الطيب اللغوي، و«طبقات النحويين واللغويين» لأبي بكر الزبيدي. فقد ترجم الزبيدي تحت مفهوم «الطبقة» لعشرات النحويين، وكذلك أبو الطيب اللغوي تحت مفهوم «المراتب».
لقد احتفى محقق كتاب «طبقات النحويين واللغويين» بنهج الكتابين معًا، واعتبر كل واحد منهما فريدًا من نوعه بين كتب تراجم النحويين. يقول عن الأول: «لم يسلكه أحد من قبله، ولا نهج نهجه ممَّن جاء بعده.» غير أن المؤرِّخ لعلم النحو في التصور الذي نقترحه سوف يتساءل عن معنى الكتابين، وعن الهدف الذي جعل المؤلفَيْن يقيمان كتابيهما على مفهومي الطبقة والمرتبة.
-
أن يكون للتلقي أسبقية منهجية؛ أي أن يكون تاريخ النحو سلسلة من سلاسل التلقي، ومفاهيم ترتبت على تلقِّيه. كل كتاب نحوي صيغ في محيط ثقافي يستقي منه الشارح أو المؤلف تصوره النظري. وكلما ابتعد النحوي عن زمن تأليف كتابٍ ما صعُب عليه أن يفهم دقائق المؤلف. فالسيرافي مثلًا ينطلق من محيط ثقافي له مصادره المعرفية؛ ذلك أن عصر السيرافي الذي شرح كتاب سيبويه، أو عصر الزجاجي الذي كتب مؤلفًا في رسالة كتاب سيبويه، ليس بالضرورة هو عصر سيبويه؛ أي إن عقلية السيرافي وتكوينه الثقافي ليس هي عقلية سيبويه وتكوينه.٦
-
يمكن أن يكون تاريخ النحو سلسلة من المفاهيم التي تُشكِّل ذخيرة إنجازات التلقي؛ لذلك فتحليل التلقي والاستجابات يزودنا برؤية النحاة للنحو في فترات تاريخية متلاحقة، وبتصوره التاريخي لا سيما إذا ما انتبهنا إلى الاستجابات المميزة والمعبرة. إن التحليل من منظور الاستجابات المعبِّرة والمميِّزة يساعد مؤرخ النحو على أن يفهم نظرات المراحل التاريخية، والسياق والكيفية التي يتحدث بها العلماء عن فكرة النحو العلمية، ما وكيف تحدثوا عنها.
-
لا يعني إنجازات النحاة أن هؤلاء النحاة لا غنى عنهم ولا بديل. فالقول: إن سيبويه كان لا بد من أن يكون سيبويه هو نفسه، أو أن ابن جني لا بد من أن يكون ابن جني هو نفسه، أو أن يقال ذلك عن غيرهما هو قول غير يقيني؛ ذلك أن علمًا كالنحو متى ما نضجت الفكرة، واكتملت ظروف الزمن ستتحقق الفكرة على يد عالم ليس شرطًا أن يكون ذلك الذي حققها في التاريخ.
-
يمكن أن يعبر كل عالم من علماء النحو عن فكرة نحو عربي مكتمل يحمل طابعه الشخصي، ويشير إلى أصالة أسلوبه في تحليل القضايا النحوية. إن كل نحو من نحو هؤلاء يمثل مجموع قضايا نحوية متماسكة، ويبقى لكل واحد منهم قيمة مميزة في سياق تاريخ النحو العام.
-
يتحاور هؤلاء العلماء حوارًا عقليًّا؛ ذلك أن الماضي عند كل واحد من النحاة لا غنى عنه لكي يستوعبه. يلوذ النحاة الموتى بالصمت، ولا يسمعهم النحاة الأحياء إلا من خلال كتاباتهم. يتكلمون عنهم، لكنهم لا يجيبون إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم النحوية.٧
-
يمكن أن يُعد أحد النحويين نموذجًا للآخر. وكما نعرف الآن فإن سيبويه نموذج ابن جني. ولا أبالغ إذا قلت: إن فهم ابن جني لكتاب سيبويه لا يماثله أي فهم آخر في التراث النحوي العربي. ربما يكون أحد علماء النحو خصمًا لعلماء آخرين مثلما كان ابن مضاء خصمًا لسيبويه وابن جني، وقد اخترت هذين النحويين لكونهما أسَّسا أغلب المفاهيم المؤسسة للنحو العربي.
-
يشترك علماء النحو في المعاني والخبرة. فالعلاقة بين هؤلاء العلماء علاقة فكرية وعلمية كتبادل المعلومات والأفكار من خلال الإشارة أو العزو أو التهميش، وهي علاقة تسهم في بلورة قضايا النحو وتطوير مفاهيمه، وتساعدهم على التعرف على الجديد، وما إذا كان يحتاج إلى شرح أو تأويل. إنها علاقة من نوع خاص؛ تثري المعرفة عن نشوء الجماعات العلمية كما هي في طبقاتهم، يتوج هذا كله بمظاهر تمسك هؤلاء النحويين بمفاهيم النحو العلمية.
-
هناك وجه آخر يبرز العلاقة العلمية بين النحاة؛ ذلك أن أحدهم قد لا يكتفي بأن يدعي أن يكون الحق معه في تحليل قضية نحوية، أو أن تكون حججه وبراهينه أقوى، إنما يريد أن تكون حججه وبراهينه ضد عالم آخر يخالفه ولا يتفق معه. من وجهة النظر هذه، فتاريخ النحو العربي في جزء منه تاريخ صراع، وخلفيته العميقة التي صدر عنها هو الصراع الخفي الذي يكنُّه كل عالم لآخر. تليق وجهة النظر هذه بالنحاة الكبار، وتبرر محاولة تجاوز بعضهم بعضًا. من هذا المنظور فالنحاة قلما يسعون إلى أن يكونوا محقين من أجل الحق ذاته، إنما أن يكونوا محقين تجاه نحاة آخرين. وحججهم العميقة إنما هي دليل على رغبتهم في أن يقولوا الحق من أحقاد دفينة، وضغائن خفية. بصياغة أخرى فبراهين وأدلة كلٍّ ليست بريئة كما يعتقد القراء، إنما هي براهين آثمة لأنها تجلٍّ لرغبة خفية في أن يفرض ما يعتقده كما حدث من ابن مضاء.
لا يجب أن نعتبر صراع النحاة وتنافسهم عيبًا في تاريخ النحو العربي؛ إذ يبدو أنه السائد في المعرفة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في إحدى تبصراته النافذة: «لا يكتفي المرء أبدًا بأن يكون الصواب إلى جانبه والحق معه، وأن تكون الحجة له لا عليه، بل إنك لتجده يتحرى دومًا أن يكون محقًّا ضد شخص آخر يخالفه ويناقضه، وإنك قلما تجد المرء يسعى إلى أن يكون محقًّا تجاه القول الحق، بل إن مسعاه الدائم هو أن يكون محقًّا تجاه الغير. والحق أنه من دون ممارسة القناعة العقلية الممارسة الاجتماعية هذه، فإنه ليس يمتنع أن تكون أعمق الحجج العقلية، إن حقق أمرها وكشف شأنها، أقوى دليل على ما تحويه رغباتنا في قول الحق من أحقاد دفينة.»
المفاهيم المؤسسة للنحو العربي
يمكن لمؤرخ النحو كما نقترحه أن يتتبع في كتب بعض النحويين ما يمكن أن أسميه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي؛ أعني اتفاق النحاة على مجموعة من المفاهيم لا يقوم النحو العربي بدونها. وهنا أسوق ملاحظتين في سياق الإجابة عن معنى مفاهيم النحو العربي المؤسسة. الملاحظة الأولى: أن المفاهيم التي أسسها بعض النحاة هي مفاهيم مشتركة بين علماء النحو العربي، وهي مفاهيم لا توجد بالضرورة بين علماء آخرين كعلماء البلاغة أو التفسير أو الفقه أو الحديث، ولا توجد بين المؤرخين والبلاغيين. فهي مفاهيم خاصة بالنحو العربي من حيث هو علم. فالعامل مثلًا مفهوم مشترك بين النحاة، وليس بين المؤرخين أو المفسرين أو علماء الحديث. والملاحظة الثانية: أن هذه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي هي مفاهيم مشتركة. وأكثر من ذلك هي مفاهيم مُستلهمة، أو على الأقل مطمورة تحت ركام من التفصيلات وتفصيل التفصيلات في تاريخ النحو العربي. بأي معنًى يوحي بعض النحاة بمفاهيم النحو العربي المؤسسة؟ في الواقع ليس الأمر بهذا الشكل من الوضوح في تاريخ النحو العربي؛ ذلك أن النحاة الكبار يمكن أن يشكلوا قائمة طويلة. غير أن وضع سيبويه وابن جني على سبيل المثال في مقابل رد ابن مضاء على النحاة يُظهر إلى أي مدًى كان سيبويه وابن جني من كبار مؤسسي مفاهيم النحو العربي الأساسية.
-
هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينصب، وهو حال وقع عليه الفعل وليس بمفعول.
-
هذا باب ما يعمل عمل الفعل، ولم يجرِ مجرى الفعل، ولم يتمكن تمكُّنَه.
-
هذا باب ما لا يعمل فيه قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول لا غيره.
-
هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده.
لا أنوي هنا مناقشة وجهات النظر التي ترتبت على مفهوم العامل في تاريخ النحو العربي، وكونه هو المؤثر أو أنه أمارة أو أنه علامة فقط، أو لا عمل له على الإطلاق. إنما أود أن أقترح أن مفهوم العامل حدَّد به سيبويه النحو العربي، من حيث هو علم، يختلف مثلًا عن علوم اللغة والدين والتاريخ؛ أي إن مفهوم العامل مفهوم أساس في دراسة النحو العربي، ومفهوم مؤسس. والنقاش الذي أثاره العامل في تاريخ النحو العربي، وقبوله الضمني بين النحاة — مهما كانت رغبتهم في متابعة سيبويه أو رغبتهم في مجادلته أو معارضته — أقول: أود أن أقترح أن يكون مفهوم العامل هو المفهوم المؤسس الأول للنحو العربي؛ لأننا لن نجد نحويًّا لا يسلم في البادية بهذا المفهوم.
-
هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي.
-
هذا باب ما يضمر فيه المستعمل إظهاره بعد حرف.
-
هذا باب منه يضمرون الفعل لقبح الكلام إذا حُمل آخرُه على أوله.
-
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء.
لا أنوي هنا مناقشة ما طرأ بعد ذلك على مفهوم الإضمار في تاريخ النحو العربي، إنما أريد أن أؤكد على أن مفهوم الإضمار هو المفهوم المؤسس الثاني للنحو العربي، ومثله مثل مفهوم العامل. لا أظن أننا سنجد نحويًّا لا يسلم بأهمية هذا المفهوم.
تكمن جدة كتاب الخصائص في الوعي بمفهوم العلة؛ فبغير مفهوم العلة يبدو الحكم النحوي مليئًا بالثغرات؛ أي إن ما يجعل الحكم النحوي متماسكًا هو مفهوم العلة؛ فقد ساوى بين الأحكام النحوية. وهذه أعظم مساهمة لكتاب الخصائص؛ إذ بإمكان أي شخص أن يتحدى أي حكم نحوي، بشرط أن يقدم العلة لحكمه النحوي المعارض. أما المساهمة الأخرى التي لا تقل أهمية عن هذه، فهي أن النحوي لم يعد الشخص الذي يعرف الحكم النحوي فقط، إنما الشخص الذي يبحث أيضًا عن علته. إننا نخطئ خطأً جسيمًا إذا نحن أولنا كتاب الخصائص على أنه تطوير لفكرة العلل عند ابن السراج. لذلك يجب أن نعتبر كتاب الخصائص محاولة ابن جني لإيقاظ النحو العربي ودعم مفهومَيْه المؤسسَيْن (العامل والإضمار) بمفهوم جديد هو مفهوم «العلة». وعلى أي حال لن أناقش مفهوم العلة، وما ترتب عليه من عدد العلل التي وصلت إلى عشرات العلل في تاريخ النحو العربي، إنما أريد أن أؤكد أن من النادر أن نجد نحويًّا لا يسلم بمفهوم العلة في النحو.
-
لكل كلمة في الجملة حكم نحوي.
-
ليس لكلمتين متتاليتين في جملة واحدة الحكم النحوي ذاته.
من أين جاء اللبس في حشر كتاب «دلائل الإعجاز» في كتب البلاغة والجرجاني في علماء البلاغة؟ يبدو لي أن عبد القاهر الجرجاني أراد أن يكون النحو علم علوم اللسان العربي؛ أعني العلم الشامل لكل فنون اللغة العربية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى من أن الجرجاني استطاع مستعينًا بفكرة العقل الإنساني الذي يهيمن على كتابه أن يصوغ قضية الإعجاز صياغة جمالية بعد أن كانت مُثقلة بالدَّين. لقد هيأت اللغة العربية لعبد القاهر الجرجاني سبل تحليل كلامها وفنها وجمالها من منظور النحو. ومن المفارقة أن الشعر والقرآن — وليس كلام الأعراب أو لغات القبائل التي تؤخذ عنها اللغة — هما ما سمحا له بصياغة نظريته الجمالية. فالقرآن والشعر يتمايزان عن الكلام اليومي، ولا أقدر من النحو مدخلًا لتحليل الكلام الجميل والمعجز.
تكمن أهمية عبد القاهر الجرجاني في تاريخ النحو العربي في تأكيده على مفهوم الحذف الذي يعتبر أهم مظهر من مظاهر التأويل النحوي. وهو ينص على ذلك صراحة في عنوان فصل من فصول كتابه دلائل الإعجاز «القول في الحذف». وهو فصل أظن أنه أجمل فصل كُتب عن مفهوم الحذف في تاريخ النحو العربي. مكمن الروعة في هذا الفصل أن الجرجاني وعى وظائف الحذف ليس من جهة النحو فحسب، إنما أيضًا من ناحية الجمال. فغموض اللغة كما يكون عادة في الكلام الجميل والكلام المعجِز يحتاج إلى وضوح العقل. ولم يجد الجرجاني أفضل من علم النحو المستند إلى العقل ليوضح وحدات الفن والإعجاز التركيبية؛ فالعقل ليس دلاليًّا أو وصفيًّا فحسب؛ إنما أيضًا جمالي. لقد ذكرت فيما سبق أن هناك نوعين من الكتب في التراث النحوي. الأولى: تصف كلام العرب وأهمها كتاب سيبويه. والثانية: تعلل كلام العرب وأهمها كتاب الخصائص. وسأضيف هنا نوعًا ثالثًا يتذوَّق كلام العرب، وأهمها كتاب دلائل الإعجاز.
ينطلق الجرجاني من فرضية مفادها أن مستويات اللغة العربية؛ أعني الكلام بعامة، والكلام الجميل كالشعر، والكلام المعجز كالقرآن نتاج عقل المتكلم بها، فحيثما يوجد مستوًى من هذه المستويات يعني أن العقل يعمل؛ «فالعاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به». وكل مستوًى منها قادر على أن يحقق الهدف الذي يريده العقل الذي أنتجه، ويسعى لكي يحقق فكرة المستوى اللغوي الكامل. وبالتالي فإن عمل النحوي هو أن يتقصَّى الحد الذي يقترب فيه المستوى اللغوي من فكرة كمال المستوى اللغوي ذاته. هناك اختلافات بين هذه المستويات، ويقر الجرجاني بذلك؛ إلا أنه لا يفرض معيارًا من خارج كل مستوًى، إنما يستمده من طبيعة المستوى الداخلية.
لا أحد قبل الجرجاني فكَّر في أن الحذف يمكن أن يهيئ معرفة. ومقارنة الفصل الذي خصَّصه ابن جني للحذف «باب في شجاعة العربية» بالفصل الذي خصصه الجرجاني يرينا إلى أي حد تحول عمل الهاوي (ابن جني) إلى عمل محترف (الجرجاني)، وأن ما أطلق عليه ابن جني «شجاعة العربية» ليست إلا فكرة بدائية نضجت، وآتت أكلها عند عبد القاهر الجرجاني، وشجاعة العربية عند ابن جني لم يكن لها أن تقاوم شجاعة المعرفة عند الجرجاني. وهكذا يختفي وراء بناء النحو العلمي عند الجرجاني قناعة تتمثل في إعجاز اللغة ودلائل إعجازها، وليس ما فُهم على أنه إعجاز مستوًى لغوي معيَّن. هذه القناعة هي أن اللغة معجزة الإنسان.
إن ما أردت أن أوضحه هو وجود مفاهيم مؤسسة للنحو العربي من حيث هو علم، أسهم في وضعها سيبويه وابن جني والجرجاني. هذه المفاهيم المؤسسة هي: العامل والإضمار والعلة والحذف. وهي مفاهيم نحوية تشكل حدًّا أدنى لكل معرفة بالنحو العربي، وبداية يؤمن بها معظم النحاة، ويستعملونها بوصفها لا تقبل الجدل.
بدهيات النحو العربي
-
لكل حُكْم نحوي عامل.
-
إذا لم يكن العامل ظاهرًا فهو مضمر.
-
لكل حكم نحوي علَّة.
-
تُسقط كلمة أو أكثر بشرط ألا تتأثر الصياغة أو المعنى.
مؤكد أنني أشعر بضعف صياغة هذه البدهيات، وبمقدار تداخلها، وتعقيداتها في التراث النحوي العربي. وهي تعقيدات لن أتوقف عندها؛ فما أريد قوله هو أن المفاهيم المؤسسة للنحو العربي هي التي مكَّنت القول ببدهيات النحو العربي، وقد تعرضا إلى تحدٍّ كبير من ابن مضاء. ظهر هذا التحدي بعد وقت طويل من تأليف كتابه «الرد على النحاة»؛ حيث أثار صدوره محققًا من قبل شوقي ضيف الرغبة في أن يتخلى النحو عن المفاهيم المؤسسة والبدهيات أو على الأقل مراجعتها.
إن مَنْ يقرأ كتاب «الرد على النحاة» يعرف أن ابن مضاء لم يكن غريبًا عن النحو العربي. وما يثير الإعجاب حقًّا هو خبرته بالتراث النحوي إلى حد أنه اختار بحصافة ما يهاجمه منه. من هذا المنظور فكتابه يؤكد أن ما اقترحته على أنها بدهيات ومفاهيم مؤسسة للنحو العربي هي بالفعل كذلك، فتفكيك قضية ما أو تدميرها يجب أن تُستهدف فيها بدهياتها ومفاهيمها المؤسسة.
ما الذي شغل ابن مضاء في كتابه؟ سأتجاوز لغة السجال لأتوقف عند فكرة، هي أن ابن مضاء شعر بأن النحو العربي فقَدَ براءة وبساطة بدهياته ومفاهيمه المؤسسة، وأن هناك طرقًا إلى المعرفة النحوية أسهل مما آلتْ إليه مفاهيم النحو وبدهياته المؤسسة. وقد ركز الكتاب على هذه الفكرة، وهو يعالجها تقريبًا بشكل تفصيلي. وكما هو معروف فإن الكتاب مستوحًى من المذهب الظاهري، ويعكس وجهة نظره في التمسك بحرفية النصوص وإلغاء القياس واستبعاد العلل.
هل قبِلَ النحاة كتاب الرد على النحاة أم رفضوه؟ بالإمكان أن نتجنب كلا الموقفين؛ ذلك أن تحدي ابن مضاء بدهيات النحو ومفاهيمه المؤسسة كان يمكن أن يدفعهم إلى أن ينظروا بجدية إلى المفاهيم والبدهيات التي هاجمها. ما تحداه ابن مضاء وأراد هدمه هو أهمية هذه المفاهيم والبدهيات في علم النحو، لا سيما في صورتها الأبسط والأبعد عن التعقيد.
وعلى أي حال؛ لن أعيد هنا إنتاج حجج ابن مضاء في الاستغناء عن العلل الثواني والثوالث؛ إنما سأَلْفت النظر إلى أن ابن مضاء قَبِل المفهوم البسيط منها؛ أعني أنه قبل العلل الأولى؛ وهو قبول لمفهوم أمثِّل به لما عنيتُه هنا بالمفهوم النحوي في صورته الأبسط والأبعد عن التعقيد.
المفاهيم الموجِّهة للنحو العربي
يتابع ابن جني سيبويه في التفريق بين القول وبين الكلام، ويميز من جهةٍ بين القول المرتبط بالكلام الناقص وغير المفيد الذي يخلو من المعنى، وبين الكلام من حيث هو قول تام من جهة أخرى. والكلام التام هنا هو الكلام المفيد ذو المعنى كالجملة وما كان في معناها.
ما الذي نفهمه من هذا النص؟ أن ابن جني يحتاج إلى مرشد وموجِّه ليتجاوز أي إشكال للتفريق بين القول والكلام. وقد وجد هذا المفهوم في المعنى؛ أي لكي يفرق ابن جني بين القول وبين الكلام احتاج إلى المعنى من حيث هو مفهوم موجه. وقد حل الإشكال بهذا المفهوم، وأدرك به الفرق بين القول والكلام. ولم يكن ممكنًا الحل بدون مفهوم المعنى؛ فالكلام ذو المعنى ينطبق عليه وصف ابن جني. فهو قد يشجو، وقد يحزن. قد يمتلك قلب السامع، وقد يمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه، وهذه الآثار للكلام ذي المعنى لا يمكن أن تكون آثارًا لكلام غير ذي معنى. ولكي يكون الكلام ذا معنًى يجب أن يكون مركبًا، وهو ما يستدعي مفهوم الجملة النحوية؛ فالتركيب يصنع سياقًا للكلمات، وتصنع الكلمات في سياقها جملًا مركبة. غير أن مفهوم التركيب لم يكن عند ابن جني مفهومًا يوصِّف بنية اللغة ولا بنية النصوص إنما يوصف بنية الجملة. مفهوم التركيب عند ابن جني هو مفهومُ شرط الإفادة منظورًا إليها بما هي معنًى يراد به أن يُفهم. المعنى عند ابن جني هو المفهوم الموجِّه الأول الذي يرسم للنحوي السبيل الذي يسلكه، ويوجهه نحو الهدف.
مشكلات النحو الكبرى
سأتوقف عند مشكلة كبرى من مشكلات النحو العربي هي مشكلة العامل. وقد تتبع السيد رزق الطويل الخلاف بين مدرستي البصرة والكوفة في كتاب ابن الأنباري «الإنصاف في مسائل الخلاف» وعدَّها في اثنتين وعشرين مسألة. وقد وصل إلى نتيجة هي أن الكوفي اتجه نحو العامل اللفظي، وأن البصري اتجه نحو العامل العقلي؛ ويفسر نتيجته هذه بقرب الكوفيين من الواقع اللغوي، وفهمهم لطبيعة اللغة، بينما يفرض البصريون على العامل قيودًا عقلية بحتة.
العامل والشذوذ مجرد مثلين للمشكلات الكبرى للنحو العربي. لا شك في أن هناك ما هو أكثر؛ فالخلافات النحوية كثيرة. وهذه الخلافات لا سيما الكبرى منها ترتبط بمشكلات نحوية بعينها، وهو أمر جيِّد؛ لأنها تشير إلى أن النحو علم يعي موضوعه. وتبعًا لما نقترحه يمكن أن يوصِّف مؤرخو النحو تاريخ النحو استنادًا إلى مشكلاته الكبرى. مثلًا يمكن أن يعلِّموا المراحل التاريخية ويبرزوها في تاريخ النحو تبعًا للمشكلة الكبرى أو المشكلات التي دار حولها الخلاف، وما إذا كان الخلاف يشير إلى عوامل ثقافية كالتي أثارها ابن مضاء وعلاقتها بالعوامل الثقافية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن توفر لهم مشكلات النحو الكبرى مخططًا تاريخيًّا لتناسل المشكلات من بعضها البعض وتناسل الحلول التي قدمها النحاة. مشكلات النحو الكبرى تختلط في تاريخ النحو برد النحاة على بعضهم البعض، وبوسائل الخلاف فيما بين النحاة؛ لذلك فإن دراسة مؤرخي النحو لكتب الخلاف بين النحاة ستساعد على رسم المخطط التاريخي لمشكلات النحو.