الفصل الثاني
النحو في حدود المعيار
تكاد تجمع المصادر على أن أبا الأسود الدؤلي هو واضع النحو العربي.
غير أن «الوضع» المنسوب لرجل واحد تبدو الكلمة غير المناسبة لفهم عملية
معقدة كنشوء علم من العلوم؛ فما يبرر القيمة الحقيقة لوضع علم من
العلوم ليس العقل الخاص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما العقل الجماعي
للعلماء؛ لذلك فمشكلة نشأة النحو العربي أشد تعقيدًا مما ذُكر في
المصادر القديمة.
ومع تحفظي على فكرة الوضع إلا أنني سأوافق عليه، لكن ليس من جهة أبي
الأسود الدؤلي أو من جهة غيره العلماء؛ إنما من جهة أن بعض الأفكار
تفرض نفسها على المشهد الفكري بقوة هائلة. وفق سوزان لانغر في كتابها
«الفلسفة بنغمة جديدة»؛ فإن الأفكار التي تفرض نفسها تعد بحل كثير من
المشكلات على نحو آني. أكثر من هذا تبدو هذه الأفكار كما لو أنها ستحل
المشكلات الأساسية، وتضيء المشكلات الغامضة؛ لذلك يرحب بها الجميع كما
لو أنها المفتاح السحري لعلم جديد، أو كما لو أنها يمكن أن تكون المركز
المفهومي الصالح لبناء تحليلي شامل.
١
ما الفكرة التي فرضت نفسها على المشهد الفكري لمرحلة الدؤلي
التاريخية؟ سأبني إجابتي على الربط الذي تورده المصادر بين وضع أبي
الأسود الدؤلي النحو وبين ضبطه المصحف بالشكل. فهذا الربط يشير إلى أن
أبحاثه النحوية انصرفت إلى ضبط أواخر كلمات القرآن؛ أي إن الفكرة التي
فرضت نفسها هي فكرة أن يكون هناك علم يضبط أواخر كلمات القرآن من جهة،
ومن جهة أخرى يصون اللسان العربي من الخطأ. وعلى الرغم من النقد الموجه
حديثًا إلى هذه الفكرة فإنها أبعد الأفكار أثرًا، وأشدها وعدًا بصفتها
بداية، ومن منظورها فإن الدؤلي في تاريخ النحو العربي يشبه طاليس
المالطي في تاريخ الفلسفة اليونانية؛ إذ إن الدؤلي عرض المشكلة، وحدد
اتجاه وطابع النحو؛ لذلك فأهمية أبي الأسود الدؤلي في تاريخ النحو تكمن
في أنه عرض مشكلة، وليس لأنه حلها.
في إطار الأفكار التي تفرض نفسها، سأختبر نشأة النحو العربي في
حكايات نشأته. وسأنطلق من فرضية هي أنها حكايات أُلفت لاحقًا، لكن
تأخُّر تأليفها لم يكن ليمنع مؤلفيها من أن يُضفُوا بتأليفها المشروعية
على نشأة النحو لحفظ اللسان العربي، وأنهم لخصوا بها فكرة النحو الأولى
حين تصوروه في نموذج نافع؛ فالمعرفة النافعة المرتبطة بنشأة أي علم هي
المعرفة المرتبطة بحياة الناس، ولا يوجد أفضل من ارتباط القرآن باللغة
العربية، وارتباطهما معًا بحياة المسلم اليومية.
لقد نشأت الحاجة إلى تركيب نظري كالنحو؛ بسبب نمو المجتمع العربي
الإسلامي وتطوره. وإذا ما تأملنا النحو بوصفه تركيبًا نظريًّا، فسنلاحظ
أنه يوسِّع المعرفة النحوية التي يستقيها من الناطقين باللغة العربية.
فتبعًا للقدماء فالعربي من أهل الوبر يرفع الفاعل، ليأتي النحو بعد ذلك
ليوسع معرفتنا بالفاعل إعرابًا وتقديمًا وتأخيرًا … إلخ. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فإن الناطقين باللغة العربية يتجلون في النحو العربي؛
فوظيفة الناطقين إثارة التفكير النحوي؛ فالعربي من أهل المدر الذي نصب
الفاعل يثير تفكير المهتمين باللغة العربية. يعني هذا أن مهمة النحو لا
تتعلق بالناطقين، إنما تتعلق باللغة التي يتواصلون بها؛ فالفرق بين
الأعرابي الذي قال: يا سبحان الله! يلحنون ويُرزقون، وبين أبي الأسود
الدؤلي الذي وضع الفاعل والمفعول، هو الفرق بين الأعرابي الناطق الذي
يفكر في الناطقين، وبين النحوي الذي يفكر في اللغة. ولا يمكن أن نقدر
أهمية هذا التطوُّر، إلا إذا نظرنا إلى تلك المرحلة التاريخية في إطار
موقعها التاريخي.
عند بعض مؤرخي النحو العربي وجد النحو مشكلته الأولى ضمن ملاحظات
مرضيَّة يعبرون عنها بفساد الألسُن وجرثومة اللحن وتسرُّب الضعف إلى
سليقة العربي.
٢ من منظور الصحة والمرض يمكن عرض المسألة على النحو التالي:
الرجال الأصحاء الذين لا يعكر صحتهم شيء لن يعرفوا علمًا للصحة،
٣ كذلك هم العرب الفصحاء لن يعرفوا علم النحو. هذا ما توحي
به حكاية الأعرابي الذي وقف على مجلس الأخفش، فحار وعجب وأطرق ووسوس.
فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا عن
كلامنا بما ليس من كلامنا.
٤
قبل الإسلام لم يكن العرب في حاجة إلى تركيب نظري يسمى النحو؛ لأنهم
في غنًى عن ذلك؛ فقد «كانوا ينطقون عن سليقة جُبلوا عليها، فيتكلمون في
شئون حياتهم من دون تعمل فكر، أو رعاية إلى قانون كلامي يخضعون له،
قانونهم ملكتهم التي خلقت فيهم، ومعلمهم البيئة المحيطة بهم.»
٥ ماذا يعني هذا للأعرابي الذي حضر مجلس الأخفش النحوي؟ يعني
أن الأعرابي يقف خارج العلم؛ أي في الحياة قبل العلمية (دون تعمل فكر
أو رعاية إلى قانون كلامي)، ولا يوجد في محيطه أشخاص يمتهنون النحو
(غنيون عن تعرُّفه)، ولا وجود لتقاليد علمية نحوية منحدرة من أشخاص
نحويين يؤثرون فيه (معلمهم البيئة المحيطة بهم). ينتمي الأعرابي إلى
مجتمع ما قبل علمي (قانونهم ملكتهم التي خُلقت لهم) تشترك فيه كل
الذوات الفردية لجماعة (نحن) في صورة المجتمع، وفي نمط وضعياته
المألوفة؛ أي نحن عائلتنا، نحن فخذنا، نحن قبيلتنا، نحن العرب.
٦
في المقابل، يقف الأخفش داخل العلم، وفي الحياة العلمية، وفي تقاليد
علمية منحدرة من علماء نحو أثروا فيه. أن يكون الأخفش عالمًا من علماء
الطبقة الخامسة في تاريخ النحاة فذلك يعني أنه ينتمي إلى جماعة علمية
تتشكل من مجموع الفاعلين فيها، وأن يكون منتسبًا إلى جماعة علمية
نحوية، فذلك يعني أن يُدمج وأن يُخضع لموضوع مراقبة اجتماعية.
٧ والخلاصة: «أن الامتثال لانتظارات الزمرة وتوقعاتها ليس
ثمرة رغبة الأفراد وحدها، إنه نتاج مران على دور اجتماعي يسبق دخولنا
الحياة المهنية، ونتاج ضبط مستمر (دوزنة) لأبناء المؤسسة العلمية
بواسطة أنفسهم.»
٨
يستحق مفهوم «الحياة المهنية» أن نتوقف عنده. لماذا لا نعتبر النحو
مهنة من المهن التي تنشأ بين مرحلة تاريخية وأخرى؟ بالفعل هو مهنة. وما
يشير إلى ذلك أن كتاب سيبويه خرج إلى الناس بسبب التكسُّب؛ فقد رُوي أن
الجرمي والمازني تشاورا على أن يحيلا بين أستاذهما الأخفش وبين كتاب
سيبويه الذي ضنَّ به بترغيبه في المال؛ إذ كان الجرمي ثريًّا فقرآه عليه.
٩
لكل مهنة مهمة تخصها. لا يتعلق الأمر بمهمة يؤديها أفراد، إنما بمهمة
مترابطة في حياة اجتماعية، وعبر سلسلة من الأجيال والأزمنة. في البداية
يعي شخص ما فكرة في شكل تخمين، أو شعور. قد تكون فكرته، وقد تكون فكرة
آخرين تبناها واعتبرها فكرته، لكن مجرد كونها فكرة مشروع أولي فهي لا
تعطي أهدافًا؛ لأن الهدف يضعه الفرد (الأنا) في الفعل (أنا أريد) من
أجل هدف (على هذا الهدف أن يتحقق)، وبفضل إرادة الفرد (أنا أريد) تصبح
الفكرة قصدًا جديًّا.
١٠ وبالعودة إلى موضوعنا فقد وضع الدؤلي هدفًا لنفسه (أنا
أريد)، وأصبح أسير هدفه (على هذا الهدف أن يتحقق) وبفضل إرادته (أنا
أريد) أصبحت فكرة النحو قصدًا جديًّا كرس له جهده ووقته.
كيف نفهم أصل التقابل بين الأعرابي وبين الأخفش في الحكاية؟ كيف نفهم
التقابل بين الحياة ما قبل العلمية وبين الحياة العلمية في العالم
اليومي؟ من المعروف أن اللغة العربية «لم تؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان
البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم لسائر الأمم.»
١١ وقد أُخرج بسبب هذا لغات قبائل كثيرة، وبقي القليل من
القبائل التي ينتسب إليها الأعراب الذين امتهنوا نقل اللغة وبيعها إلى
اللغويين. مهنة الأعرابي هذه مثلها مثل أي مهنة أخرى في العالم، لها
مهام قابلة لأن تُحقق. وقد حُققت من قبل عندما حدث التحول الأول الذي
أنجزه أعرابي مجهول خطرت على باله فكرة موفَّقة، هي أن يتكسَّب بلغته.
ومنذئذ أصبح السبيل سالكًا لأعراب آخرين. لم تصل إلينا قصة ذلك
الأعرابي المجهول لنفهم نمط تفكيره. كل ما نعرفه أن الأعراب توارثوا
هذه المهمة، وتوارثوا معها الكيفية التي يحققون بها مهمتهم؛ أي
الممارسة المنهجية للتنفيذ. ذلك أن «تدشين المهن المعتادة يعني في
الحقيقة مسبقًا توارث ابتكار، تم القيام به سابقًا وحالفه التوفيق، عبر
الأزمان في منهج يمكن تكراره كما نشاء. تنشأ في كل مهنة منتجات غائية
يمكن التعرف عليها باشتراك بين الذوات، وبذلك تندرج من جديد في عالمنا
المحيط. هكذا توجد فيه الآن موضوعات نافعة تنتمي حسب نوعها للمهن
المختلفة المعهودة: أحذية، ألبسة، منازل … إلخ.»
١٢
لكلِّ اهتمامٍ وقته؛ أي حين يفعِّل أحد ما أحد اهتماماته، ويمارسه
فعليًّا، فإنه يعلق في الوقت ذاته اهتماماته الأخرى من غير أن يغيِّبها
تمامًا، إنما تكون موجودة؛ فالأعرابي الذي ينقل اللغة ومعه الأخفش الذي
يتحدث عن اللغة يعلقان اهتماماتهما الأخرى ككونهما أبوين، يعولان
أسرتين، ويربيان أطفالًا، ويصرفان عليهم … إلخ. وهكذا يمكن القول: حان
الوقت الذي ينقل فيه الأعرابي اللغة، وحان وقت الأخفش لكي يتحدث عن
اللغة باللغة بما ليس في اللغة.
من وجهة النظر هذه يتوفر كلُّ شيء على وقته داخل الوقت الشخصي
للأعرابي والوقت الشخصي للأخفش، ويتوفر كلُّ شيء في الأوقات المهنية
الأخرى التي تفرض نفسها عليهما؛ كأن يكونا مواطنَيْن عربيين ومنتمين
إلى مجتمع عربي، ولهما فيه أدوارهما الاجتماعية. غير أن هذا كله لا
يمنع بقاء مهنتيهما قائمتين؛ فالطبيعي هو ألا يغير اهتمامهما بأسرتيهما
على سبيل المثال من اهتمامهما بمهنتيهما التي تستمر موجودة، وكذلك
تستمر مع وجودها صلاحيتها.
الآن يمكننا أن نسأل: ألَا تشبه اللغة التي ينقلها الأعرابي
الموضوعات النافعة للمهن المختلفة؟ أي: ألا تشبه لغة الأعرابي عند
النحوي الأدوات النافعة للإسكافي والخياط؟ ألا تختلف مهمة النحوي
الأخفش عن مهمة الأعرابي بكيفية حاسمة؟ إن مهنة النحوي تتميز عن مهنة
الأعرابي. وبالعودة إلى الأخفش؛ فالمعنى التحليلي لمهمة النحو ومهنة
النحوي يكمن في إنشاء معرفة تقابل معرفة أخرى كما هي معرفة الأعرابي
القائمة في حياته ما قبل العلمية في العالم اليومي.
من وجهة نظر العلم الأعرابي على حق؛ فالكلام الذي تتكلم به جماعة
علمية (مجلس الأخفش) يختلف اختلافًا نوعيًّا عن الكلام الذي يستخدم في
الحياة اليومية. ويعود السبب إلى أن كلام الجماعة العلمية يبتعد عن
خبرة الحياة اليومية، وإلى أنها تستخدم المصطلحات والمفاهيم المجردة،
وتعرُّف المعاني بطرق تقنية تنتمي إلى العلم؛ لذلك لم يفهم الأعرابي
الكلام الذي سمعه؛ لأنه يقف خارج الجماعة العلمية. وبمقارنة المرجعيات
نجد أن مرجعية الكلام عند الأعرابي هي خبرة الحياة اليومية، بينما
مرجعيته عند الأخفش خبرة الجماعة العلمية.
يحضر الأعرابي في تاريخ النحو على مستوى الشواهد النحوية، وهذه ليست
النحو؛ إنما هي من جنس الأشياء النافعة كالتي تُحضر إلى الإسكافي أو
النجار أو البناء. الشواهد النحوية التي نقلها الأعرابي ليست النحو،
إنما هي عظام النحو مثلما أن الجلد هو عظام الحِذاء، والصوف هو عظام
الثوب، والحجر هو عظام البيت. يترتب على هذا أن مهنة الأعرابي تختلف عن
مهنة النحوي مثلما تختلف مهنة الدبَّاغ عن مهنة الإسكافي ومهنة
الصوَّاف عن مهنة الخياط ومهنة مَنْ يقتلع الحصى ويشذبها عن مهنة
البناء. الأعرابي عبر عن الاختلاف بقوله: يتحدثون بكلامنا عن كلامنا
بما ليس من كلامنا. وبالفعل هذه هي مهنة النحوي مثلما جسدها أبي
الأخفش.
وفق أحد الباحثين ما كان للنحو لينشأ إلا أن يكون نحوًا تعليميًّا
وليس نحوًا علميًّا، وبتعبيره «أن يكون في عمومه نحوًا معياريًّا لا
نحوًا وصفيًّا.»
١٣ من الصعب ألا نتفق معه؛ لأن النحو المعياري هو المدى
المُدرك في تلك المرحلة التاريخية. وكما سنعرف فيما بعد
١٤ فقد فُكر في اللغة العربية، وفي النحو العربي تحت ضغط
الظرفين التاريخي والأيديولوجي. وعلى أي حال، قد يخطئ المرء إذا ما
أوَّل حماس بعض المعاصرين كتمام حسان للنحو الوصفي على حساب النحو
المعياري على أنه رغبة منه في أن يذل النحو التعليمي أمام النحو
العلمي. ليس الأمر كذلك إنما هو تقويم أفكار القدماء في ضوء تطور الفكر
اللغوي المعاصر؛ ذلك أن دراسة تمام حسان التي استشهدنا منها أعلاه «تعد
من أخطر الدراسات الحديثة وأهمها في اللغة العربية، ولا أكون مبالغًا
لو قلت: إنها أشمل دراسة مستوعبة لكل جوانب اللغة. وهي إلى جانب ذلك
أكثر تقديرًا واحترامًا لجهد القدماء، وتعتمد في كثير من جوانبها على
نتائج دراساتهم، وتضعها في سياق لغوي حديث.»
١٥
فيمَ تتمثل السمة التي يجب أن يتسم بها النحو العربي؛ لكي يكون نحوًا
علميًّا؟ تتمثل من وجهة نظر تمام حسان في أن تكون دراسة النحو دراسة
للتركيب؛ فالجانب التحليلي من دراسة النحو لا يلتفت إلى معنى الجملة،
لا من الناحية الوظيفية العامة، ولا من ناحية الدلالة الاجتماعية.
١٦ وبما أنه لا يوجد عمل متقن من دون نفع تمامًا،
١٧ فقد كان النحو المعياري وهو بطبيعة الحال عمل متقن وفريد
في الثقافة العربية القديمة نافعًا في مرحلته التاريخية، وفي المستوى
الذي وصلت إليه العلوم العربية آنذاك. لم يفشل في الغاية، وإن لم ينجح
نجاحًا نهائيًّا. لكن الأهم أنه يمثل بداية لا تقل أهمية عن بدايات
كبرى؛ الأمر الذي جعل البعض يضع الحكايات عن نشأته؛ فالناس يبحثون عن
تفسير لكل الأشياء، وحين لا يعرفون يؤلفون الحكايات. ربما تبدأ الحكاية
مما هو تاريخي (واقعي) ثم تتوسع إلى ما هو أبعد لتتحول إلى حكاية
صافية. لكن هذا التحول لا يحول دون دراستها؛ فالحكاية مهما جنحت إلى
الخيال؛ فهناك إمكانية لأن نقتفي أثر نقطة ما هي بذرتها الحميمية، وهذه
البذرة التي سنقتفي أثرها هنا هي أسس النحو الثقافية
والاجتماعية.
هناك شخصيتان مختلَف على أيٍّ منهما هو بطل حكايات نشأة النحو.
١٨ الشخصية الأولى هي علي بن أبي طالب، وقد ذهب الأنباري
والقفطي إلى أنه هو البطل. والثانية هي أبو الأسود الدؤلي، وقد ذهب ابن
سلام وابن قتيبة والزجاجي وأبو الطيب اللغوي والسيرافي والنديم إلى أنه
هو البطل.
لا يمكن أن نكون سذَّجًا لكي نصدق. فكما قلنا أعلاه فالوضع المنسوب
لرجل واحد كعلي بن أبي طالب أو زياد بن أبيه أو نصر بن عاصم أو أبي
الأسود الدؤلي تبدو الكلمة غير المناسبة لفهم عملية معقدة كنشوء النحو
العربي. فما يبرر القيمة الحقيقة لوضع النحو العربي ليس العقل الخاص
لهؤلاء، إنما العقل الجماعي. وما يجعلنا نتوقف عند الحكايات المرتبطة
بوضع النحو هو أن هذه الحكايات تمثِّل من وجهة نظرنا إعادة سرد حدث
مهيب وجليل هو بداية النحو. وهو ما يساعد على أن نستشف القيمة الكبرى
التي أُعطيت لنشأة علم النحو في الثقافة العربية الإسلامية.
١٩
إن السمة الأوضح لحكايات البدء هي جِدَّة ما بدأ فجأة وظهر في روعة
البناء والتصميم. وهي الجدة التي تُذهل لتكون موضع حكاية مُتناقلة. وقد
جعلت الحكايات وضع النحو حدثًا كبيرًا تتساوى قيمته مع أحداث كونية
كبرى كالحكايات التي تسردها مقدمات الكتب التاريخية القديمة عن الأحداث
الكبرى البدئيَّة، كبناء الكون أو خلق الإنسان … إلخ. كما أنها أكدت
على المدى الذي يعيش فيه المهتمون بالنحو في الحكاية، والمدى الذي يصل
إليه هؤلاء المهتمون في أن يحكوا الحكايات لآخرين؛ لكي يضفوا معنًى على
تجربة علمية كنشأة علم النحو.
المكان المثالي للصراع بين الأجيال
لكي تسهل متابعة التحليل سأبدأ بحكاية واحدة، وسأستخدم بقية
الحكايات على أنها وسائل ضبط وتحقيق. وإذا ما تحتَّم عليَّ أن
أوصِّف هذا الإجراء في التحليل فهو فرضيٌّ؛ أي يستند إلى فكرة
مبدئيَّة توجه التحليل، وهي الأساس الثقافي لمفهوم النحو في تلك
المرحلة التاريخية، وهو استنباطي في الوقت ذاته؛ حينما يستخدم
نصوصًا أخرى من أجل الضبط والتحقيق.
٢٠
سأختار أقصر حكاية من تلك الحكايات التي رُويت. رُوي عن عاصم أن
أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماء؟ فقال لها:
نجومُها، فقالت: إني لم أُرِد هذا، وإنما تعجَّبت من حسنها، فقال
لها: إذن فقولي ما أحسنَ السماء! فحينئذٍ وُضع النحو، وأول ما رسم
منه باب التعجب.
٢١
أول ما نلاحظه هو أن الحوار دار بين أبٍ وابنته؛ أي في أسرة.
يشير هذا إلى أن من بين التغيرات التي تحدث في المجتمع لا شيء
يكتسي أهمية مثل التغيير الذي يحدث في الأسرة؛ لذلك فالأسرة مكان
مثالي للصراع بين الأجيال. وبالتالي يمكن أن يكون الأب وابنته في
الحكاية رمزًا للصراع بين جيلين أحدهما متمسِّك باللغة العربية في
مستواها الفصيح، والآخر لا يدير لذلك بالًا.
نجد في الأسرة أصل فكرة وجود خليفة كعلي بن أبي طالب، أو والٍ
كزياد بن أبيه في حكايات أخرى تتعلق بنشأة النحو؛ ذلك أن الأسرة
تفضي إلى ما هو أوسع منها؛ أعني إلى الدولة؛ فالأسرة هي «المنوال
الأول للمجتمعات السياسية: فالرئيس هو صورة عن الأب، والشعب هو
صورة عن الأولاد … أما الاختلاف كله فكون الحنوُّ الذي للأب
لأولاده يبتاعه بما يصرفه لهم من عناية، بينما لذة الرياسة تقوم في
الدولة مقام ذلك الحنوِّ الذي يكون الرئيس معدومًا منه إزاء شعبه.»
٢٢ على أن اسم خليفة كعلي ووالٍ كزياد غير كافيين لنربط
نشأة النحو بقيام الدولة، وإرادة السلطة على نحو «يجعل من النحو
وسيلة من وسائل تقويم شأن الناس، وتصحيح أحوالهم في إطار مفهوم
للسلطة يجعل من حقها مراقبة القول والمحاسبة عليه وإلزام الناس بالصواب.»
٢٣ هذا تأويل لا متناهٍ، ولا بدَّ أن نحاة كُثرًا لا
يطيقون صبرًا على مثل هذا النوع من النواتج اللغوية.
ما أميل إليه هو أن اللغة هُويَّة، وأن الفتوحات الإسلامية
وسَّعت المجالات التي تُستخدم فيها اللغة العربية، وبسبب هذا حاد
معظم العرب عن النموذج الفصيح، الأمر الذي هدد الهوية العربية.
وبصرف النظر عن تاريخية تدخُّل الخليفة أو الوالي فإن الأمر ممكن،
وله ما يشابهه في هذا العصر حينما يتدخل ملك أو رئيس أو وزير
لإنشاء مجمع لغوي أو الدعوة إلى مؤتمر لغوي.
تظهر الحكاية أن بنت الدؤلي لحنت في جملة نثرية، ولم تلحن في
جملة شعرية؛ أعني لم تلحن في تركيب شعري، أو في شطر من بيت شعري،
أو في بيت من الشعر. هذا اللحن في النثر الذي أوردته حكاية الدؤلي
هو ذاته اللحن في النثر الذي خاطب به رجل زياد بن أبيه. ماذا يعني
هذا لموضوعنا؟ لكي نجيب سنعود إلى ما قبل الإسلام حين كانت اللغة
العربية الفصحى ذات وظيفة فنية واحدة تتمثل في الشعر العربي؛ أي
أنها لم تكن لغة نثر، لكن القرآن أسند إليها وظيفة فنية أخرى هي
النثر. لقد توصل أحد الباحثين إلى أن اللغة العربية الفصحى قبل
الإسلام لم تكن لغة نثر، وأن المراسلات والكتابات والمعاهدات لم
تكن باللغة الفصحى؛ وإلا لكان استشهد بها النحويون. ويختم قائلًا:
«لما كان هناك غياب كامل لأي مادة نثرية مكتوبة في العصر الجاهلي
مما يمكننا من إصدار حكم كامل وصحيح بخصوص وظيفة اللغة الفصحى خارج
نطاق الشعر الجاهلي؛ أستطيع أن أزعم، ولو بشكل مؤقت، أن العربية لم
تكن لغة نثر عربي قط. وعلاوة على أنها لم تكن إلا لغة فنية.»
٢٤ بعد أن نزل الإسلام وقامت الدولة الإسلامية اتسعت
وظيفة اللغة الفصحى لتشمل وظائف غير فنية كالمراسلات والمعاهدات.
وبشكل عام كل ما يتعلق بالناحية العملية لتسيير شئون الدولة ورعاية
مصالحها ما يجعلها لغة نثر. وقد تكشَّف اللحن أول ما تكشَّف في هذه
الوظيفة النثرية العملية. وأول إشارة نعرفها هي رسالة أبي موسى
الأشعري إلى عمر بن الخطاب.
من جهة أخرى، تظهر أهمية رد فعل الدؤلي على ابنته، ورد فعل
الخليفة والوالي في الحكايتين الأخريين حين نقارن رد أفعال هؤلاء
برد فعل النبي، حين قال لرجل لحن في حضرته: «أرشدوا أخاكم فقد ضل.»
وبرد فعل الخليفة عمر بن الخطاب حين كتب إلى أحد الولاة: «قنِّع
كاتبك سوطًا.»
٢٥ مثل هذا الانتقال من التفكير في الناطق إلى التفكير في
اللغة عاملًا أساسيًّا في البحث عما يصلح لغة الناطق وليس عما
يقوِّم سلوكه؛ أي التفكير في اللغة، وليس في ناطق اللغة.
الجو الفكري الذي وجد فيه النحو قوام نشأته الأولى
تتواءم فكرة النحو في حكايات نشأته مع المرحلة التاريخية التي
نشأ فيها؛ فصيانة اللسان العربي من اللحن فكرة مقنعة في تلك
المرحلة التاريخية؛ ذلك أن قوة إقناع فكرة أو عدم إقناعها لا تتوقف
على المنطق الذي تعرض به؛ بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد
فيه الفكرة قوام حياتها.
٢٦ ولكي نفهم جو هذه المرحلة الفكري سنعود إلى المرحلة
التي سبقتها؛ لنستحضر النبي والقرآن والحديث والأمة والإسلام التي
أسبغت المعاني الدينية والثقافية على المرحلة التي سبقت مرحلة نشأة
النحو. لقد فُوجئ الصحابة بموت الرسول الذي بنى برامج اجتماعية
وثقافية تمثل ثورة بكل معنى الكلمة؛ لأنهم لم يفكِّروا في أنه
سيموت ليجهزوا برامجهم.
على أي حال، تصرف الصحابة بما يمليه عليهم الظرف التاريخي؛
فبايعوا أبا بكر الخليفة الأول للدولة الإسلامية. بعد أن رتب أبو
بكر الدولة من الداخل رأى ومعه كبار الصحابة أن نشر الإسلام يقتضي
تبديل الحكومات المجاورة أو إسلامها، وشرعوا في الفتوحات وهم
يحملون فكرًا مُنزلًا يتصور العقيدة والسلوك والعدالة الاجتماعية
والاقتصادية تحت رعاية خليفة الله وخليفة رسوله. لم يتخلَّ العرب
عن لغتهم كما فعل بعض الفاتحين في عصور تاريخية مختلفة، ولم
يكتسبوا لغة الشعوب المفتوحة؛ إنما استخدموا اللغة العربية ليبينوا
للناس أفكارهم وتصوراتهم عن مفاهيم الإسلام؛ لذلك عمد العرب تعليم
لغتهم الشعوبَ التي أخضعوها. والمهم هنا هو تأكيدهم على القيمة
الكونية للغتهم، بعد أن كانت قيمتها فيما قبل قيمة محلية.
بفضل القرآن أصبح للعرب نموذج لغوي مثالي. وهنا يجب ألا نخلط بين
الوضع الاجتماعي الرفيع للعربية الفصحى قبل نزول القرآن وبعد
نزوله؛ فقد أصبحت الفصحى بعد الوحي اللسان العربي المبين، ولغة
تنزيل القرآن، وبذلك لم تعُد لغة فصيحة فحسب؛ بل أصبحت رفيعة رفعة التقديس.
٢٧ حدثت هذه النقلة من كونها مجرد لغة إلى لغة مقدسة؛
لأنهم تصوروها صدرت مباشرة عن الله. وألفاظها وأساليبها أزلية
كأزلية القرآن؛ لذلك من الواجب ألا تتغيَّر، ولا مجال للناس إلا أن
يتحدثوا بها كما هي عليه، ولا مجال للعالم اللغوي إلا أن يتأمل
بديع صُنعها.
يختلف الأسلوب اللغوي الذي نزل به القرآن عن الأساليب اللغوية
التي يتكلم بها العرب في حياتهم اليومية. ما يهم موضوعنا هو أن
الذين يعرفون القرآن الكريم هم «أكثر الأشخاص المعرضين لإنتاج نصوص
فيها أخطاء صحة زائدة … لأن تدريبهم على استخدام قواعد هذا النمط
من العربية غير كافٍ في أحسن الأحوال.»
٢٨ تعني أخطاء الصحة الزائدة أن المتكلم أو الكاتب يعرف
أن هناك فرقًا بين حديثه في الحياة اليومية وبين الفصحى، لكنه لا
يعرف الشكل الذي يجب أن يستخدمه، أو أنه لا يعرف كيف يستخدم شكلًا
دون غيره.
٢٩ والأهمية التحليلية لمفهوم خطأ الصحة الزائدة يكمن في
أن بنت الدؤلي والكتاب الذين يحررون الرسائل الديوانية ربما كانوا
يعرفون الفرق بين الحديث اليومي وبين الفصحى، لكنهم لا يعرفون
الشكل الذي يستخدمونه.
لا يفسر جو المرحلة الفكري وحده نشأة النحو على النحو الذي قالت
به حكايات نشأته؛ فهناك أيضًا الاعتقاد المشترك بين الناس الذي
يتولَّد عن حاجة غامضة إلى المحافظة. ﻓ «ضرورة المحافظة على
الأشكال اللغوية هي التي تدعو إلى الاعتقاد بأن الحالة الثابتة أمر
واقع. وككل اعتقاد غريزي، يبلغ من قوة هذا الاعتقاد ألا يعد هذا
الواقع واقعًا ذاتيًّا محضًا، بل ينتهي إلى أن يتشيَّأ، وبفضله
تكون التغيُّرات أبطأ مما لو عُدم هذا الوهم الضروري الحيوي.»
٣٠
أين العقل من هذا الاعتقاد؟ حاضر، ولكن مهمته أن يبيِّن للناس
أخطاءهم اللغوية؛ أي ينبغي أن يُشغَّل في حدود تعريف الناس بما
يرتكبونه من ضلاله حين يتحدثون، كما ورد في الأثر، عن وصف لحْن أحد
الرجال. يستخدم العقل هنا لدعْم الإيمان بقدسيَّة اللغة العربية في
أن تظل كما هي، وسيظل هذا الدعم لكي تجتمع حرارة الإيمان بقدسية
اللغة العربية مع حجج العقل.
حين كفَّ الجو الفكري للمرحلة التاريخية التي نشأ فيها النحو
كفَّ النحو عن متابعة صورته المعيارية ليناسب جوًّا فكريًّا آخر،
سنعرفه ونحن نتابع تطور مفهوم النحو. أكتفي هنا بالقول: إن كل تطور
في مفهوم النحو تلاءم مع الجو الفكري للمرحلة التاريخية، وإن هذا
ما جعل النحو يستمرُّ؛ ذلك أن علمًا ما إذا ما أراد أن يستمر فعليه
أن يتطور. غير أن تطور مفهوم النحو لا يعني أنه لم يبقَ حول موضوعه
الأول، بل بقي متَّصلًا مع نشأته الأولى، لكن من دون انخراط كلي
فيه.
الافتراض الضمني لنحو أبي الأسود الدؤلي
سأدرج هذا القول من مقدمة ابن منظور لمعجمه لسان العرب، وسيتضح
فيما بعد السبب. يقول ابن منظور: «فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله
بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.» ما
العلاقة بين لسان العرب وبين سفينة نوح؟ هناك فكرة وراء أحداث قصة
نحو يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما وُجد مجتمع مثالي،
ثم حلت الكارثة بهذا المجتمع حيث تمادى الناس في المعصية، وتعاظمت
منه الخطيئة، فحل الطوفان من أجل بناء مجتمع مثالي خالٍ مما يشوبه.
وسفينة نوح هي الأداة كما أنها هي النواة الأولى. أما الزوجان من
كل شيء فهو فإشارة إلى بداية حياة جديدة، ونواة أولى لمجتمع
صافٍ.
يمكن أن نسحب هذا التأويل على معجم لسان العرب؛ فالفكرة الرئيسة
وراء عمل ابن منظور يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما
كان هناك مجتمع صافٍ يتكلم اللغة العربية، ويحافظ عليها كما يحافظ
على وجوده، وفيما بعدُ حلت به الكارثة؛ إذ شرع المجتمع يتفاصح
ويتحدث بلغة أخرى غير لغته العربية؛ لذلك فالحاجة ماسة إلى إعادة
ذلك الصفاء.
من هذه الزاوية هناك يوتوبيا؛ محاولة لاسترجاع حالة الصفاء
اللغوي بدأها قبل ابن منظور أبو الأسود الدؤلي. وسواء أكانت ابنته
أم مَن خاطب زيادًا؛ فإن هناك من عكَّر صفاء اللغة. والحالة هنا
ليست فردية، إنما هي حالة عامة. لقد كانت المهمة جسيمة، شحذت قوى
أبي الأسود الدؤلي وقوى نحويين ولغويين آخرين، فانطبع تفكير أفضل
علماء تلك المرحلة بطابع استرداد حالة النقاء.
عبر انشغال أبي الأسود الدؤلي عن فرضية هي أن اللغة العربية لم
تعد لغة نقية وصافية كما كانت عليه في زمنٍ مضى، وصادق على فكرة
تنزع إلى هيمنة لغة وُصفت بكونها مقدسة أنزل الله بها كتابه.
وبالتالي فأبو الأسود الدؤلي لا يعبر عن رأي شخصي، إنما يستجيب
ويدعم اختيارًا وتحيزًا لمستوًى من اللغة تكرس في الغيب قبل أن
يكون بين الناس.
أحد مفاتيح المستقبل موجود في النحو؛ ذلك أن فيه رؤية حياة جديدة
نقية وصافية تكاد تعدل الحياة الجديدة النقية والصافية التي بدأتها
سفينة نوح. قد يعالج النحو مشاكل اللحن في اللغة العربية كالمشاكل
الصرفية والمعجمية والنحوية … إلخ. وهذه الرؤية الشاملة قد نضعها
في موازاة النظرة الشاملة لسفينة نوح من حيث هي وعد بعصر ذهبي،
وبُشْرى للعالم.
حافز تصوُّر أبي الأسود الدؤلي للنحو
لكي نفهم حافز أبي الأسود لا بدَّ من أن نتذكر أنه هو مَن ضبط
المصحف الشريف؛ فاهتمامه بضبط أواخر كلمات القرآن أبعدته عن أن
يفكر في نظام اللغة العربية؛ أي إن نحو الدؤلي وسيلة تقنية للحصول
على نتائج مباشرة. أما التفكير في التركيب النظري الذي يمنح هذه
التقنية معناها فلم يفكر فيه؛ ربما لأن الظرف التاريخي وروح
المرحلة الفكري لم يكونا مناسبين.
غير أن النظريات الإنسانية والمعرفية في علم النفس المعاصر ترى
أن الظرف التاريخي وروح المرحلة الفكري لا يحددان وحدهما السلوك
الإنساني، فهناك أيضًا اتجاهات الإنسان وتوقعاته واعتقاداته؛
٣١ لا سيما العلماء منهم الذين ينتجون المعرفة. يعمل
هؤلاء العلماء على أن يظهروا الرصيد المتراكم من الأفكار والمفاهيم
التي تبلورت في أذهانهم، وشكلت استجاباتهم. وما يعطي لتوقعات
العالم واعتقاداته قيمة تحليلية هو بيان أثرها في سلوك العلماء.
ففي مرحلة تاريخية ما يندفع هؤلاء نحو وجهة محددة وواحدة، مطبوعين
بجو المرحلة الفكري. هذا الجو الفكري قوة عابرة للقوى الفردية،
وليس شرطًا أن يكون العلماء واعِين بهذه الروح؛ فروح العصر هي قدر
الوجود أو الشروط الجدلية لحقبة من حقب التاريخ.
٣٢ وفي مرحلة الدؤلي التاريخية التي نتحدث عنها لا بد من
وجود أفكار ومعتقدات تعلق بطبيعة اللغة ووظيفتها وعلاقتها
بالفكر.
تنشأ التصورات أفكار العالم ومعتقداته لأسباب ثقافية. ولا يقتصر
الأمر على مجال واحد، إنما على مجالات العلوم كلها. وفيما يتعلق
بموضوعنا فتصورات المرحلة التي نتحدث عنها لم تؤثر في نشأة النحو
فحسب؛ إنما أثرت أيضًا في تدوين اللغة الذي صاحَبَ نشأة النحو؛
فالكلمات التي جمعها اللغويون ليست مادة اللغة فحسب؛ إنما تشكل
حدثًا حيًّا وانعكاسًا لعلاقات اجتماعية؛ فالناس يجتمعون في أسر أو
جماعات دينية أو تجمعات مهنية … إلخ. وإذا ما أخذنا في الاعتبار
العلاقة بين الكلمات وبين مستخدميها، فإن شيوع كلمات أو تلاشيها
يشير إلى سهولة أو صعوبة اشتغالها بين تلك التجمعات البشرية. ما
يتداوله الناس ليس كلمات فحسب، إنما حقائق أو أكاذيب، أشياء حسنة
أو قبيحة، مهمة أو مبتذلة، مفرحة أو محزنة، وبالتالي فالكلمة محملة
دائمًا بمضمون أيديولوجي أو وقائعي. لا يستجيب الناس إلا للكلمات
التي توقظ في نفوسهم أصداء أيديولوجية؛ لذلك فمقياس التصحيح لا
ينطبق على الكلمات إلا في المواقف الشاذة أو الخصوصية. أما في
الحياة فإن الناس يتخلون عن مقياس التصحيح لصالح المقياس
الأيديولوجي؛ أي إن الناس في حياتهم اليومية لا يهتمون بصحة الكلمة
اللغوية أو النحوية بقدر ما يهمهم صدقها أو كذبها أو طابعها الشعري
أو طابعها المبتذل.
٣٣
خضع اللغويون والنحويون
للعوامل التاريخية والثقافية والفكرية التي ولَّدت تصوراتهم، وحددت
معتقدات كفايتهم العامة التي تتشكَّل من الخبرات وآراء الآخرين.
هذه المعتقدات أثرت في عمليات المعجميين والنحاة المعرفية التي
تتضمن التخطيط للأهداف، وتنظيم الأفكار، ومواجهة المصاعب، ومثلت
دافعًا إلى الإنجاز، وإلى التوقعات المتعلقة بالإنجاز وقيمته.
وبالعودة إلى موضوعنا، فقد عُرف عن الدؤلي أنه من سادات التابعين
وأعيانهم، وأنه «من أكمل الرجال وأسدِّهم عقلًا».
٣٤ ولا شك أن معتقدات كفايته العامة هذه مثلت دافعًا
لإنجازه، وأثرت في تحديد طبيعة هدفه. لقد أُنجزت حديثًا دراسات
أشارت في مجملها إلى أهمية معتقدات المرء العامة كدافع للمثابرة
والإنجاز في المجالات المختلفة، ومنها المجال العلمي. كما أن
نظريات التعلم الاجتماعي والمعرفي المعاصرة تشير إلى أن الخبرات
الناجحة تدفع الفرد إلى أن يدرك المهام الصعبة من حيث هي تحدٍّ
للإنجاز، وليس معجزات لا يمكن التغلب عليها. والخلاصة هي أن
معتقدات أبي الأسود الدؤلي المتعلقة بكفايته العامة في مواجهة
الصعاب والمشكلات التي أرَّقَتْه هي أساس من أسس ابتكاره.
ما يشير إلى اعتقاد أبي الأسود الدؤلي بكفايته العامة: الحكاية
التي تُحكى أنه قدم على الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد كان أبو
الأسود دميمًا، أعور، وقبيح المنظر. فقال له: «يا أبا الأسود، لو
علقتَ عليكَ عوذة من العين! فقال: إن لك جوابًا يا أمير المؤمنين …
أما والله لئن ابتلتني السنون، وأسرعت إليَّ المنون، لما أثبت ذلك
إلا في موضعه، ولرب يوم كنت فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن
… فقال عبد الملك: قاتلك الله من شيخ، ما أعظم همتك!»
٣٥ ما أعظم همتك! تشخيص عميق ومختصر. هذا هو ما جعل أبا
الأسود الدؤلي ذا الاعتقاد الإيجابي بكفايته العامة إلى أن يرسم
أهدافًا مثيرة للتحدي، ويبذل جهدًا أكبر لتحقيقها.
لا تنفصل اعتقادات المرء العامة عن النموذج أو القدوة. ويبدو لي
أن هذا الارتباط بينهما هو ما يفسر علاقة أبي الأسود الدؤلي بعلي
بن أبي طالب، فالأول نموذج ومثال حي وواقعي للثاني. وهناك حكايات
لهذا الارتباط الذي عبرنا عنه بالقدوة. أكتفي منها بما يشير إلى أي
حد بلغ فيها تمسُّك أبي الأسود بنموذجه وقدوته. فقد روي أن فخذًا
من أفخاذ العرب من العرب يُدعى «بني قشير»، هواهم مع عثمان بن
عفان. كان أبو الأسود نازلًا بينهم، وقد كانوا يرمونه بالليل؛ لأنه
يحب عليًّا ويمدحه، ومع ذلك لم يفت هذا من عضده؛ بل إنه حاججهم
حينما قالوا: ما نحن نرميك، ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم والله،
لو كان الله يرميني لما أخطأني.
٣٦ إن المدهش في علاقة أبي الأسود بعلي أن المهتمين بقضية
في جو فكري واحد قد يصلون إلى الأفكار ذاتها.
الطيف العقلي لمفهوم النحو
ما اسم هذا المبحث الذي يتشكل؟ يخصص النديم في كتاب الفهرست
فصلًا قصيرًا عنوانه: «سببٌ يدل على أن أول من وضع في النحو كلامًا
أبو الأسود الدؤلي.»
٣٧ أول ما نلاحظ في العنوان أن ما وضعه أبو الأسود هو
«كلام في النحو»؛ أي إن مضمون ما عُثر عليه في أربعة أوراق كالفاعل والمفعول
٣٨ هو كلام، وأن هذا الكلام ينتمي إلى النحو. هل هو نحو
أو كلام؟ هناك ارتباك؛ لأن النديم وراق محترف ومتخصص في تصنيف
الكتب يعرف أولًا موضوعات الكتب من المفاهيم التي تنتمي إلى العلم،
وذلك ما يبدو في العلوم الأخرى المستقرة، وسأشير هنا فقط إلى الكيمياء.
٣٩
ما يبدو لي هو أن بلورة قضايا المبحث الجديد في مفاهيم ما زالت
في مرحلة التشوُّش؛ أي إن مباحث النحو لم تتحدد إلا في مرحلة
متأخرة. مثلًا ما بدا للقدماء أن كتاب سيبويه كتاب في النحو فقط
تصنيف قلق. والأقرب أن يكون كتابه في «علم العربية» وهو المفهوم
البديل الذي استُخدم بدلًا من النحو. تبدو وجاهة هذا المفهوم فيما
لو عرفنا أن سيبويه بحث في أصوات العربية (علم الأصوات) وفي بناء
الكلمة (علم الصرف) وفي بناء الجملة (علم النحو). وقد ظل هذا
المفهوم مستخدمًا عند المغاربة، بينما ظل مفهوم النحو مستخدمًا عند المشارقة.
٤٠ والمفارقة هنا هي إذا ما نشأ النحو تحت مفهوم علم
العربية، فإن أبا الأسود الدؤلي قد يكون مات قبل أن يعرف أنه
نحويٌّ.
يتَّفق هذا مع طبيعة المفاهيم التي لا تولد فجأة، إنما تتكون في
عملية طويلة ومعقدة، وهذا ما أظنه ينطبق على النحو. ويبدو أنه نشأ
كطيف عقلي مشوَّش وغير مكتمل، لكنه يمثل بعض العناصر الرئيسية
كدراسة الأصوات اللغوية وبنيتَي الكلمة والجملة ومباحث أخرى تتعلق
بدقة إشارة الكلمات إلى المعنى، والمناسبات التي تُقال فيها الحكم
والأمثال العربية القديمة، وشرح الأبيات الشعرية … إلخ؛ أي إن
النحو اشتمل إبَّان نشأته على كافة المباحث اللغوية. وتبدو وجاهة
هذا الطيف العقلي أن القائمين على «هذه المباحث اللغوية يُعرفون
بالنحاة، على أن ذلك لم تنفرد به اللغة العربية، بل كان هذا شأن
النحو والنحاة بالنسبة للإغريقية واللاتينية.»
٤١
لكي أوضح الفكرة سأفترض أننا دؤليون. يشير هذا الافتراض إلى أننا
نفكِّر في فساد اللغة، ثم في أن نفكر فيما يمكن أن نفعله. إذن هناك
مشكلة. والخطوة التالية هي أن نفحص ونصنِّف الأخطاء وهي كما نعرف
من الحكايات التي وصلت إلينا أخطاء صوتية وصرفية وتركيبية. لقد
اتخذ المفهوم عندنا أبعادًا مختلفة؛ بعدًا يتعلق بالأصوات، وبعدًا
ببنية الكلمة، وبعدًا ببنية الجملة.
في مقابل أننا دؤليون سأفترض أن هناك سيبويهيين. أن يكون هؤلاء
سيبويهيين يعني أن يفكروا في النظام اللغوي، لكن من ناحية وصف
أصواته وكلماته وتركيبه، لا من أجل إصلاح الخطأ في النطق بأواخر
الكلمات؛ إنما من أجل معنى المتكلم والقوانين التي تحكمه. نحن الآن
في وضع متأخر زمنيًّا؛ لكي ندرك الفرق بين أن نكون دؤليين أو
سيبويهيين، لكن العلماء آنذاك لم يكونوا يدركون إلا ما يجمع
بينهما؛ أي إصلاح النطق بالعربية، رغم أنهم يعرفون اختلاف نحو هذا
عن نحو ذاك بدليل التسمية «علم العربية» لأبي الأسود الدؤلي
و«النحو» لسيبويه.
يمكننا أن نلخص ما بدا للقارئ تحليلًا طويلًا ومملًّا على النحو
التالي: توفَّر لنشأة النحو المُفترضة على يد أبي الأسود الدؤلي
مجموعة من العوامل كاعتقادات أبي الأسود الدؤلي العامة، والحتمية
القائمة بينها وبين الجو الفكري للمرحلة التاريخية. وتظافر هذه
العوامل معًا يشير إلى فكرة الخطأ اللغوي وصوابه. يعني الصواب
اللغوي ما يساير عرف الجماعة اللغوي، والخطأ هو ما يخالف ذلك
العرف. ولا يجب أن نحاكم نحو تلك الفكرة على ما نعرف الآن؛ ذلك أن
مستوى الصواب كالصوغ القياسي فيما يذهب تمام حسان لا يمكن النظر
إليه باعتباره فكرة يستعين الباحث بواسطتها في تحديد الصواب والخطأ
اللغويين، وإنما هو مقياس اجتماعي يفرضه المجتمع اللغوي على
الأفراد، ويرجع الأفراد إليه عند الاحتكام إلى الاستعمال. وإن
المستوى الصوابي لا يوجد في اللغة فحسب، إنما يوجد في كل شئون
الثقافة بالمعنى الأعم.