الفصل الثالث
النحو في حدود العقل
سأذكِّر بفكرة سوزان لانغر عن الأفكار التي تفرض نفسها على المرحلة
تاريخية لتحل عددًا من المشاكل. وقد رأينا أن فكرة صيانة اللسان العربي
من اللحن هي الفكرة التي فرضت نفسها في مرحلة أبي الأسود التاريخية،
وقد حلت مشكلة على قدر كبير من الأهمية للدين وللثقافة وللعرق. تكمل
سوزان لانغر بأن الأفكار التي تفرض نفسها تصبح مع الزمن أفكارًا
مألوفة، وجزءًا من المفاهيم النظرية للجيل التالي، وبهذا تنتهي فورة
الفكرة. صحيح أن هناك مَنْ يتعصب لها ويراها تحل كل المشاكل، لكن الأقل
تعصبًا سيرى المشاكل التي ولدتها تلك الفكرة.
تبدو فائدة هذا لموضوعنا أن فكرة صيانة اللسان العربي من اللحن أصبحت
مع الزمن فكرة مألوفة، وجزءًا من مفاهيم النحويين النظرية. صحيح أن
هناك مَنْ تعصب للفكرة وتمسك بها (أحفاد هؤلاء ما زالوا موجودين إلى
الآن)، لكن في مقابل هؤلاء هناك من هم أقل تعصبًا كالخليل بن أحمد
الفراهيدي الذي أكمل ما بدأه أبو الأسود الدؤلي من شكل أواخر كلمات
القرآن الكريم، فرسم شكل العلامات المعروفة لنا الآن كالضمة والفتحة
والكسرة. يتزامن هذا مع تنقيط نصر بن عاصم كلمات القرآن الكريم. ما
الذي يعنيه هذا؟ يعني أن جو النحو الفكري بدأ يتخفَّف من الشرطين
التاريخي والأيديولوجي؛ حين كانت الوظيفة العملية والمجتمعية عند أبي
الأسود ومعاصريه من النحاة تتفوق من حيث الأهمية على الوظيفة المعرفية
(الوظيفة النظرية).
١
ترتب على هذا الفرق بين النظرية وبين الممارسة أن كل ما قيل قبل
سيبويه عن تعليل النحو، وتسْبيب علله إنما كان من أجل قراءة القرآن
والشعر؛ أي الممارسة، وليس من أجل النظرية. والحكايات المعروفة التي
نقلتها إلينا المصادر عن عبد الله بن أبي إسحاق، وتتبعه اللحن في شعر
الفرزدق تشير إلى الممارسة وليس إلى النظرية؛ أي قراءة الشعر. وبالرغم
من كل ما قيل عن غزارة علم النحاة واللغويين قبل سيبويه بما فيهم
أستاذه الخليل إلا أن الإشكالية؛
٢ أي الشكل الذي يجب أن تعرض فيه المشكلات النحوية لم
تتغيَّر منذ أبي الأسود الدؤلي. وقد انتظرت سيبويه الذي عرضها في أفق
فكر ذلك الزمان والمكان؛ مستغلًّا انفتاح البصرة على الفكر
العقلي.
تأسيس النحو على درب العلم الآمنة
يحسن اللاحقون الابتكارات ويكيفونها مع الوضعيات الجديدة؛ أي مع
وضعيات الأزمنة الجديدة وحاجاتها الجديدة.
٣ يتعلق الأمر بالأفق الفكري الذي عرض فيه سيبويه
المشكلات النحوية؛ وهو بطبيعة الحال أفق جديد بحكم تغير الزمان؛
فقد انهارت دولة الأمويين، وهاجرت المناقشة العقلانية من الشام إلى
العراق لا سيما البصرة. أثَّر جو البصرة العقلاني في سيبويه، وكان
سببًا في أن سيبويه استخدم العقل في البحث عن النظام في اللغة
العربية؛ أي إنه أجبر اللغة على أن تتبع عقله، ولم يجبر عقله على
أن يتبعها. وبقدر ما كان هذا محفِّزًا بقدر ما كان إبداعًا فكريًّا
في كتابه الفريد من نوعه؛ بحيث إن نموذجًا علميًّا نشأ معتمدًا على
توجهه العقلي.
في ضوء مبدأ أن اللغة قابلة لأن تعرف؛ أي إن اللغة تتيح للعقل
الإنساني أن يفهمها، وفي ضوء العقل فإن اللغة لم تعد قابلة لأن
تُعرف بإصلاح خطئها؛ إنما تُعرف بالعلاقة بين الكلمات التي يتركَّب
منها الكلام. ومن غير أن يُحلل الكلام؛ فلن يستطيع أحد أن يدرك
العلاقة.
هنا أمران جديران بأن نأخذهما بعين الاعتبار، وهما: الحصول على
الكلام عن طريق السماع عن العرب، وتشغيل العقل للعثور على قوانين
للكلام. تحدث هذه على مستويين؛ المستوى الأول: هو ملاحظة النحوي
الكلام كما يلاحظ العالم الطبيعة. والمستوى الثاني: هو ما يترتب
على الملاحظة من التحليل والترتيب والتصنيف. هناك إنصات إلى الكلام
في المستوى الأول مثلما ينصت عالم الطبيعة إلى الطبيعة، وهناك
استجواب للكلام في المستوى الثاني مثلما يستجوب عالم الطبيعة. بسبب
هذه العملية نشأ الطريق الآمن لعلم النحو العربي الذي أسسه
سيبويه.
ما يملكه العقل هو أن يسعى إلى تحقيق نسق المعرفة.
٤ والفكرة وراء العقلانية هي أن استعمال العقل يؤدي إلى
معرفة تختلف نوعيًّا عن أي معرفة لم يُستخدم فيها. وكتاب سيبويه
استخدم العقل في البحث عن النظام في اللغة العربية. لم ينشغل بما
نقله العرب إلا في حدود الاستعمال الفرضي للعقل؛ أي من معرفة
الجزئي إلى معرفة الكلي؛ لكي يعرف هل يقع الجزئي ضمن الكلي. بهذا
أجرى سيبويه تحولًا جذريًّا أثار إعجاب العلماء القدامى والمحدثين.
سأكتفي بما قاله صاعد الأندلسي. قال: «لا أعرف كتابًا أُلف في علم
من العلوم قديمها وحديثها اشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء
ذلك الفن غير ثلاثة كتب: أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة
الفلك، والثاني كتاب أرسطو طاليس في علم المنطق، والثالث كتاب
سيبويه البصري النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه
شيء إلا ما لا خطر له.»
٥
يهم موضوعي من عبارة الأندلسي الكتابان المجسطي لبطليموس، وعلم
المنطق لأرسطو؛ فمنذ كتاب علم المنطق سلك المنطق دروب العلم الآمنة
ولم يحد عنها، وما عُدَّ تحسينًا في علم المنطق بحذف بعض جزئياته
أو بتعيين مضمونه تعيينًا أوضح؛ إنما يعود إلى التنميق أكثر مما
يعود إلى وثوق العلم، فعلم المنطق من ذلك الوقت لم يتقدم خطوة
لإحكامه وكماله.
٦ يمكننا أن نقول هذا كتاب سيبويه، فقد سلك بالنحو دروب
العلم الآمنة، وما عُدَّ تحسينًا في علم النحو إنما هو نوع من
التنميق. أبعد من هذا أستطيع أن أرى النحو العربي منذ كتاب سيبويه
من المنظور الذي وضع فيه توماس كون كتاب المجسطي لبطليموس، فقد جعل
من نظرية بطليموس نموذجًا إرشاديًّا، وأيًّا كان عجز هذه المقارنة؛
فإنها تنصب هنا على النجاح والإعجاب والكفاءة.
لقد شعر النحاة القدامى بعظمة إنجاز سيبويه. سأكتفي هنا بما قاله
علَمان بارزان هما السيرافي والمازني. قال الأول: «لم يسبقه إلى
مثله أحد قبله.»
٧ وقال الآخر: «من أراد أن يعمل كتابًا في النحو بعد
سيبويه فليستحِ.»
٨ إن تسميته كتاب سيبويه ﺑ «قرآن القوم»
٩ لهي تسمية بالغة الدلالة في هذا المقام؛ حيث لم يحظَ
كتاب عربي بمثل هذا الشرف العظيم. ترتب على هذا التقدير أنْ كسب
إنجاز سيبويه في الكتاب أنصارًا دائمين من العلماء، وهو كسب صرفهم
عن نشاطات علمية أخرى منافسة كلحن العامة ولحن الخاصة. ساعدهم على
ذلك أن كتاب سيبويه كالكتب التي بنت نموذجًا إرشاديًّا رحبًا
ومفتوحًا لا يدعي أنه القول الجامع، إنما فتح الباب للمشكلات
النحوية في مرحلته العلمية؛ لكي تُناقَش من قبل العلماء المشتغلين
بعلم النحو في مفهومه الجديد.
تَشكَّل بسبب نموذج سيبويه النحوي الإرشادي ما يسميه توماس كون
«العلم القياسي»؛
١٠ أي إن النحاة انشغلوا بتنقية وصقل نموذج سيبويه النحوي
الإرشادي، ونذروا له حياتهم العلمية. وما رُوي عن أن الفرَّاء
النحوي المرموق من أنه مات وتحت رأسه كتاب سيبويه
١١ لذو دلالة كبرى على أن توجيه الفراء في البحث العلمي
القياسي في النحو العربي كان في اتجاه الإبانة عما هو موجود في
النموذج الإرشادي الذي بُني مع كتاب سيبويه وبسببه. وهو ما يشير
أيضًا إلى أن المجالات التي يكتشفها العلم القياسي صغيرة جدًّا،
١٢ لكن في المقابل هناك «إحكام النموذج وحل بعض مظاهر
اللبس المتبقية»،
١٣ وهو ما ينطبق على كتاب سيبويه ونموذجه
الإرشادي.
معنى النحو بعد أن وجد دربه الآمن
وضع سيبويه النحو على درب العقل الآمن؛ أي العقل الذي يدرس اللغة
من حيث هي نظام، ولا يضع في قضاياه ومسائله العلمية لحنَ العامة
ولا لحن الموالي ولا إصلاح النطق ولا الحفاظ على اللغة العربية ولا
تعليم النحو للموالي؛ إنما يضع في اعتباره دراسة قوانين اللغة
العربية التي تمكِّن المتكلم من التعبير عن قصْده. لقد وضع التركيب
النظري لنحو الدؤلي بدون أن يتنكر له؛ فأن يقول سيبويه: «والله
لأطلبنَّ علمًا لا يلحِّنني فيه أحد»؛
١٤ يعني أنه ما زال يفكر في إطار فكرة الدؤلي ومعاصريه عن
مهمة علم النحو. إنني أظن أن هذين النوعين من النحو؛ أعني نحو أبي
الأسود المعياري، ونحو سيبويه الوصفي ضروريان لتقدم علم النحو. مَن
يجرؤ من النحويين الآن على أن يتمنَّى أن أبا الأسود الدؤلي لم
«يضع» علم النحو، أو أن كتاب سيبويه لم يظهر، وأن يكون اختفى بعد
موته؟ إن لكل من المعيار والوصف النحويَّيْن دورهما، ومن المفيد
لتاريخ النحو أن يُبحث تاريخ تطورهما، وما قدمه كل واحد منهما. لا
ينبغي أن نعتقد أن النظريات القديمة عقيمة وباطلة؛ لأن مسيرة العلم
لا تُقارن بالتحولات في مدينة؛ حيث تُهدم البنايات القديمة لتحل
محلها البنايات الجديدة، إنما يجب أن تقارن بتطور الأنواع
الحيوانية التي تتطور وتنتهي إلى أن تصبح العيون العادية غير قادرة
على أن تتعرفها، في حين أن العيون الخبيرة ستجد فيها دائمًا العمل
السابق الذي قامت به القرون الماضية.
١٥ وإذا كانت عيون معاصري سيبويه عادية فقد وجدت عينا
سيبويه الخبيرتان في نحو الدؤلي ما يُنتفع به. وقد أدى لزومه
الخليل بن أحمد الفراهيدي كما تكمل الحكاية إلى ما جعله يحدث
انعطافًا في فكرة النحو الأولى بفضل تأملات متجدِّدة في اللغة
لينجز بها كتابه، الكتاب الذي دشَّن فيه فكرة النحو الخالص، وأسس
به فكرة دراسة النظام اللغوي ووصفه. وهكذا فإن فكرة نحو سيبويه ككل
الأفكار التاريخية في مسار أي علم من العلوم؛ حيث تعيش الأفكار في
وعي حامليها، ثم تندفع مثل غريزة من دون أن يستطيعوا تبرير ذلك. إن
العقل هو الأداة التي توفر عليها سيبويه؛ لكي يقوم بهذا الانعطاف
في تاريخ النحو العربي.
يظهر الانعطاف الذي أحدثه سيبويه في تاريخ النحو العربي حين
نقارن النحو المعياري بالنحو الوصفي؛ فالنحو المعياري يجزئ الجملة؛
لكي يكتشف الصحيح والخطأ. نقطة ضعف النحو المعياري أنه لا يفهم
النظام اللغوي، ولا يصف اللغة؛ ولهذا ظل موضوع النحو ناقصًا. لقد
ظن النحويون المعياريون كالدؤلي أنهم يعرفون اللغة؛ لأنهم تصوروها
بمعيار الصحة والخطأ؛ لذلك كان على النحو أن يتطوَّر في اتجاه وصفي
لكي يجلو فكرة المعياريين الغامضة عن اللغة. وقد حدث هذا التطور
بالرجوع إلى نظام اللغة وإلى المفاهيم التي تصفه. لقد كانت مهمة
سيبويه الوصفية أن يعثر على مفاهيم علم النحو في نحو أبي الأسود
المعياري. وإذا ما كان لي أن أصنِّف النحويين إلى فئتين هما عمال
النحو وعلماء النحو، فإن أبا الأسود الدؤلي عامل من عمال النحو،
بينما سيبويه عالم من علماء النحو، ومقدِّمة الكتاب التي سماها
القدماء رسالة الكتاب أو خطبته هي دفاع مطوَّل عن استعمال المفاهيم
التي تكوَّنت مما جمعه أولئك العمال المجتهدون والمثابرون.
عرض الكتاب المفاهيم النحوية
رُتبت محتويات رسالة الكتاب لسيبويه (مقدمته) كما سماها الزجاجي،
أو خطبته كما سماها ابن جني وحدَّد نهايتها ﺑ «هذا باب ما يحتمل من الشعر»
١٦ على النحو التالي: (١) باب علم ما الكلم في العربية.
(٢) باب مجاري أواخر الكلم من العربية. (٣) باب المسند والمسند
إليه. (٤) باب اللفظ للمعاني. (٥) باب الاستقامة من الكلام
والإحالة. (٦) باب ما يحتمل من الشعر.
يمكن أن نرسم شجرة لهذا الترتيب، وبغض النظر عن الأبواب الثلاثة
الأخيرة التي تمثل المعرفة النحوية الأحدث في تلك المرحلة
التاريخية، فإن الأبواب الثلاثة الأولى تتضمن سلسلة من المفاهيم
النحوية التي تكوِّن عندنا فكرة عن أن سيبويه ليس نحويًّا يعلِّم
النحو، إنما عالم نحو يفكر بالنحو وهو ما هيأ رسالة الكتاب لكي
تكون موضوع تفكير آخرين إلى حد أن الزجاجي شرحها. رسالة الكتاب هي
فكرته الكبرى التي سبق غيره إليها، وتحليلها سيظهر الانعطاف الذي
أحدثه.
ما يثير الانتباه في الأبواب الأولى السبعة الأولى منها هو
إشارتها إلى جوانب أساسية ومركزية في النحو الخالص؛ كالقوانين التي
تتحكَّم في ترتيب وتنظيم وتركيب الكلام، وتُفهم من باب المسند
والمسند إليه، وباب الاستقامة من الكلام والإحالة، ومعاني الكلام
أو دلالته؛ أي العلاقات بينه وبين الأشياء والأفكار، ويُفهم من باب
اللفظ للمعاني، وباب ما يكون في اللفظ من الأعراض، والأهم كون
الكلام يوجد في مجتمع. كما أنها تعرض بعض المجالات العلمية
المحتملة؛ كالنحو من حيث هو الاعتبارات الشكلية للكلام، وفلسفة
اللغة وتاريخها؛ من حيث هي الطبيعة الرمزية للغة والعلاقة بينها
وبين الحقيقة، وأنظمة الاتصال كالعلاقة بين المتحدث
والسامع.
تعبر رسالة الكتاب عن جهد سيبويه التجريدي والمنهجي المختلف؛ أي
إننا أمام فكر نحوي غريب عن الفكر النحوي المألوف آنذاك. ففي زمن
لم تكن فيه المفاهيم النحوية محددَّة تحديدًا جيدًا حددها سيبويه
بالأمثلة؛ فالاسم كرجل وفرس وحائط، والفعل كذَهبَ وسمِع ومكُث
وحَمِد واذهبْ واقتُل واضرِبْ ويذهبُ ويضرِبُ والأحداث (المصادر)
كالضرب والقتْل والحمْد، وما جاء لمعنًى وليس باسم ولا فعل
(الحروف) ﮐ «ثُم وسوف وواو القسم ولام الإضافة».
علامَ يدل تحديد المفهوم بهذه الطريقة؟ يدل على أن سيبويه يعي ما
يفعل فبدأ بالتدريب على المفاهيم. يشبه هذا أن تعلِّم طفلًا؛ في
التعليم حين ننطق الكلمة (رجل) لتحل محل إنسان حاضر أمامنا، فإننا
نوجه الانتباه إلى المفهوم (اسم)، وليس إلى استحضار الصورة الذهنية
للرجل. وسيبويه حين يربط بين الكلمة وبين المفهوم فالهدف ليس
استحضار الصور الذهنية للكلمات، مثلما تستحضر كلمة (رجل) صورة
ذهنية إنما الكيفية التي تتدرب بها ليُعرف المفهوم.
يرتبط هذا الأسلوب في التدريب على المفاهيم عند سيبويه بما
يُعْرف في سيكولوجية التعلُّم ﺑ «المفاهيم السيئة التحديد»؛ أي تلك
المفاهيم التي تكون فيها سمات المفهوم غير واضحة. مثل هذه المفاهيم
لا تُعلَّم بالتعريف إنما بالأمثلة. مثلًا لم يكن بإمكان سيبويه أن
يعرف الاسم بأنه ما يدل على معنًى بنفسه من دون أن يرتبط بزمن؛ لأن
علم النحو ما زال يبلور مفاهيمه. لذلك فإن ذكر مثال للاسم هو
الأسلوب المناسب، وهكذا الفعل والحرف. والمهم بالنسبة لفكرتنا أن
تمييز سيبويه بين الاسم والفعل لم يكن تمييزًا بإعطاء سمات محدَّدة
للمفهومين إنما بإخبارنا بالأمثلة.
يستطيع سيبويه في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ النحو أن يورد
كلمات مثل رجل وذهب واذهب ويذهب؛ لأن الجماعة النحوية العلمية
اعتادت على أن تنظر إليها باعتبارها أمثله للاسم والفعل. أما
مفهوما الاسم والفعل فلم تحِنِ اللحظة لكي تُوصف سماتها المحدَّدة
بدقة. والحال أنه من المحال اليوم أن نتكلم عن مفاهيم كهذه من دون
أن ندقق في سماتها. إن عددًا من شروح كتاب سيبويه لا تتمثل غايتها
في شرح وتوضيح ما غمض منه فحسب؛ إنما تتمثل أيضًا في متابعة البحث
في سمات المفاهيم النحوية وخصائصها المميِّزة، وإن كان سيبويه لم
يذكر سماتها في المستوى نفسه الذي ذكره شُراح كتابه فيما بعد، فإن
هذا لا يمثل نقصًا بقدر ما يكون ميزة تعطي مؤرخ النحو منطقة عمل؛
أعني كشف النحاة عن سمات المفاهيم بصورة تدريجية.
تكوُّن المفهوم النحوي في الكتاب
لا يمكن أن يكون تاريخ النحو غريبًا غرابة تامة عن تاريخ علم
التفسير وعلم اللغة. والعلاقة بين هذه العلوم الثلاثة لا يمكن أن
تُتصوَّر في اتجاه واحد؛ وإن كان الاتجاه المعتاد أكثر عند
الباحثين هو الاتجاه الذي يسير من التفسير إلى النحو، ويوفر لنا
أحد الباحثين أمثلة
١٧ على أن تاريخ بعض المفاهيم النحوية كالنعت (الصفة)
والخبر والاستثناء والعلامة (أثر العامل في المعمول) تجد بدايتها
في التفسير، كتفسير مقاتل بن سليمان الذي يعد واحدًا من أقدم
التفاسير الكاملة التي يمكن أن يتتبَّع فيه مؤرخ نحْوي نشوءَ بعض
المفاهيم النحوية. ويعيد هذا الباحث كون هذه المفاهيم بدأت في
التفسير إلى أن علماء البصرة في النصف الثاني من القرن الثاني من
الهجرة اهتموا ببنية اللغة بالمقابلة مع بنية النص. وكانوا نشطين
كونهم مختصِّين في تفسير القرآن الكريم، ولكنهم توسعوا في بحوثهم
لتشمل الظواهر العامة في اللغة. وقد أثمرت هذه التطورات في أول
كتاب عن النحو العربي، وهو الكتاب لسيبويه المتوفَّى سنة ٧٩٣ ميلادية.
١٨
لكي نفهم كيف تكونت المفاهيم التي بدأ بها سيبويه كتابه؛ فلا بد
من أن نحدد علاقات التعارض والتكامل بين المفهوم وبين جذره اللغوي،
وأن ننصت إلى إيحاءات الفعل. هذه العمليات المعقَّدة في الانتقال
من المعنى اللغوي إلى معنى المفهوم تسمى النقل المعرفي. لقد
توجَّهت بعض الأبحاث اللاحقة إلى تحليل هذه العملية المعقدة،
كأبحاث ابن جني في كتاب الخصائص، سأكتفي منها هنا بالبناء. يقول
ابن جني: «وكأنما إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضربًا واحدًا، فلم
يتغيَّر تغيُّر الإعراب؛ سُمِّي بناءً، من حيث البناء لازمًا
موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره؛ وليس كذلك سائر الآلات المنقولة
المبتذلة، كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه
قد أوقع هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ
البناء؛ تشبيها لذلك — من حيث كان مسكونًا، وحاجزًا ومظلًّا —
بالبناء من الآجر والطين والجص.»
١٩
ينتمي أصل كلمة البناء كما يشرح ابن جني إلى حياة الإنسان العامة
(التعلُّم الحدسي) أي ما يقتضيه الإنسان في حالته الطبيعية. في
مقابل هذا الإنسان يوجد الإنسان الخبير الذي عرف مفهوم «البناء»،
ويستطيع أن يشغله بصورة ملائمة. ولكي أوضح هذه الفكرة فسأستحضر
الطلاب الذين يفهمون بسهولة كلمة البناء في مجال استخداماتها
اليومية، بينما يفشلون في فهمها في مجال النحو؛ لأن البناء في مجال
النحو لا يعني ما هو مألوف للطالب في الحياة اليومية. وهكذا
فالتفكير في اللغة تقرُّه صياغة المفهوم؛ فما إن تنفصل الدلالة
اللغوية لكلمة «بنى» عن عالم الأشياء والكائنات والمخلوقات، وبشكل
عام عن الحياة الإنسانية حتى يتكوَّن المفهوم (البناء).
حين بدأ سيبويه رسالة الكتاب بتحديد المفاهيم النحوية الأساسية،
فإنه يعامل اللغة بوصفها ظاهرة بشرية لا ترتبط بما هو فوقي، كأن
تكون من وضع الله. ما فعله سيبويه شكل من البرهنة لا يستحضر النصوص
الدينية، إنما يستقصي كلمات اللغة ليصنفها إلى أسماء وأفعال وحروف.
يرتبط بهذا ولا ينفك عنه أن تتخذ الرسالة شكل النثر، وأن يختلف
شكلها النصي النثري؛ فلم تكوِّن نصًّا سرديًّا إنما نص يعرض
ويفسِّر ويعبِّر ويشرح. ولهذا النوع من النصوص علاقة بالكتابة؛
فسيبويه لم يكن ليستطيع أن يعرض ويشرح ما يفكر فيه كتابةً إلا لأن
الكتابة كانت قد خلقت نمطًا جديدًا من الخطاب، ومنطقًا وشكلًا
جديدَين من التواصل بين المؤلف وبين القراء.
٢٠
إن المفهوم هو الفكرة التي تمثل كلية الخواص الجوهرية؛
٢١ فالعقل يشكل المفاهيم بأخذه عددًا معينًا من الموضوعات
التي تمتلك خصائص مشتركة؛ أي إنها تتطابق من بعض النواحي، ثم
يجمعها ولا يحتفظ منها إلا بالمتشابهات ليتأملها. وبالعودة إلى
الأفعال التي سردها سيبويه في رسالة كتابه؛ فإن ما هو جوهري وكلي
فيها هي أنها حسبما يرى «أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيت لما
مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع».
٢٢
تنويع الكتاب تقديم المفهوم النحوي
يضيف سيبويه إلى طريقة الأمثلة التي قدم بها مفهومي الاسم والفعل
طريقة أخرى في تقديم مفهوم الحروف. تستند هذه الطريقة إلى أمثلة
ليست على المفهوم. يقول: «وأما ما جاء لمعنًى وليس باسم ولا فعل،
فنحو: ثُمَّ، وسوف، وواو القسم، ولام الإضافة، ونحوها.»
٢٣ بعبارة أخرى: إن الأفعال كذهب ويذهب واذهب، والأسماء
كرجل والضرْب، ليست أمثلة على الحروف. هذا الأسلوب يُسمى أسلوب
المثال واللامثال؛ أي إن سيبويه عرض مفهوم الحرف بطريقة جديدة
تتمثل في المقارنة بين الأمثلة واللاأمثلة؛ فذهب والرجل ليست أمثلة
على الحرف بينما «سوف» مثال عليه.
لقد استخدم سيبويه ما يُسمى متطلبات التعلم حين عرض مفهوم الحرف
بعد عرض مفاهيم الاسم والفعل والمصدر؛ فهذه المفاهيم خبرات سابقة
لتعلُّم مفهوم الحرف. وبتقديم سيبويه الأمثلة غير المنطقية للحرف
بجانب أمثلة الحرف المنطقية؛ فذلك يعني تيسير عملية فهم
المفهوم.
تدفعنا الكيفية التي عرض بها سيبويه المفهوم النحوي إلى أن نلاحظ
أن التفكير النحوي لا يهبط كما لو أنه وحي. إنما هو إعمال للعقل
يحتاج إلى وجود خبرات سابقة، وإلى سمات وخصائص تبرز بالمقارنة.
وإذا ما لاحظنا أن النحاة آنذاك لم يكونوا مناصرين للعقل الذي
يتأمل اللغة، إنما العقل الذي يصلحها من الفساد، فإن عرض سيبويه
للمفاهيم النحوية جديد وبلا سابقة.
هل تصنيف سيبويه للكلام في اللغة العربية تصنيف مناسب؟ لا مجال
لأن نحكم بأن يكون مناسبًا أو غير مناسب؛ فالمجال مجال توصيف.
لنتصور متكلمًا يريد أن يتواصل مع متكلم آخر ليبلِّغه بشيء ما. لا
مناصَ أن يبني هذا المتكلم كلامه مستخدمًا مفاهيم سيبويه. سيستخدم
فعلًا واسمًا وحرفًا، أو فعلًا واسمًا … إلخ. وهنا يمكن القول إن
سيبويه يصف نظامًا لغويًّا للتفاهم ولإيصال المعنى الذي يقصده
المتكلِّم. وسيبويه ما فتئ يكرر على امتداد صفحات الكتاب بدون كلَل
ولا ملَل أن هدف التحليل هو المعنى الذي يقصده المتكلم. إن المهم
هنا هو أن سيبويه عالم درس اللغة مستخدمًا لهذا الغرض «المفاهيم
العلمية التي تشكل علم النحو». درس نظام اللغة بدلًا من أن يُؤَول
نصوص اللغة أو يصحح لحنها، ونظر إلى المعرفة النحوية التي وصلت
إليه على أنها معرفة يجب أن تُحسَّن، ونظر إلى نفسه بوصفه نحويًّا
يتساوى في القيمة المعرفية مع القيمة يتمتع بها الفقيه أو المفسِّر
للنصوص الدينية. إن الحياد العاطفي الذي يظهره سيبويه تجاه اللغة
العربية منذ الصفحة الأولى (هذا باب علم ما الكلم من العربية) لهو
أحد معايير العلم؛ ذلك أن تعلُّقًا عاطفيًّا باللغة العربية سيبدو
غير مستحسن؛ لأنه سيدفع سيبويه إلى أن يدير ظهره للروح العلمية،
وسيجعله يدافع عن نظرة خاصة تكون فيها اللغة العربية هبة إلهية
فريدة ومتفرِّدة.
استعارة الكتاب بعض مفاهيمه من علوم أخرى
عنون سيبويه الباب الثاني في رسالة الكتاب «هذا باب مجاري أواخر
الكلم من العربيَّة».
٢٤ وقد استعار مفهوم «المجرى» من علم آخر، ثم اختفى من
علم النحو، فلم يعد له أثر إلا نادرًا. ينقل ابن منظور في معجم
لسان العرب عن ابن سيده أن الأخفش قال: «والمجرى في الشعر حركة حرف
الروي فتْحتُه وضمَّته وكسرته، وليس في الرويِّ المقيد مجرًى؛ لأنه
لا حركة فيه فتسمى مجرى، وإنما سُمي ذلك مجرى؛ لأنه موضع جري حركات
البناء والإعراب.»
٢٥ يعلق أحد الباحثين المعاصرين على هذا بقوله: «فالمجرى
مصطلح عروضي أساسًا، وليس مصطلحًا نحويًّا، ولكن سيبويه استعار هذا
المصطلح واستعمله.»
٢٦ ويضيف في مكان آخر من دراسته: «ولسيبويه الحق في أن
يأخذ مصطلحًا ما من أي علم من العلوم، ويوظفه كيفما شاء في علمه،
وعلى القارئ أن يحذر من مفاهيم المصطلحات، ولا يؤول المصطلح إلا
داخل العلم المستخدم فيه.»
٢٧
يضيف ابن منظور إلى ما قاله عن المجرى: «والمجاري: أواخر الكلم؛
وذلك لأن حركات الإعراب والبناء إنما تكون هناك. قال ابن جني:
سُمِّي بذلك لأن الصوت يبتدئ بالجريان في حروف الوصل منه.»
٢٨ يقصد ابن جني بالوصل المفهوم العروضي الذي يعني حرف
المد الذي يتولد عن إشباع حركة الروي، فيكون ألفًا أو واوًا أو
ياءً في اللفظ. والأمثلة التي ساقها تشير إلى هذا؛ فالفتحة في حرف
العين «مصرعا» هي ابتداء جريان الصوت، وهكذا الكسرة في «فالسندِ»
والضمة في «لائمُ».
ما أضافه سيبويه إلى مفهوم المجرى ليكون مفهومًا نحويًّا هو أنه
«لم يقصر المجاري هنا على الحركات، كما قصر العروضيون المجرى في
القافية على حركة الرويِّ دون سكونه.»
٢٩ ثم استقر على مفهوم الجر في الإعراب وعلى مفهوم الكسر
في البناء، وهو تطور مهم؛ لأنه ينقص كثرة المفاهيم في حالة كهذه.
فعلى ما يُحكى عن الخليل بن أحمد أن حالة كهذه تستدعي أربعة مفاهيم
«الخفض: ما وقع في أعجاز الكلم منونًا، نحو زيد. والكسر: ما وقع في
أعجاز الكلم غير منون، نحو لام «الجمل». والإضجاع: ما وقع في أوساط
الكلم نحو باء «الإبل». والجر: ما وقع في أعجاز الأفعال المجزومة
عند استقبال ألف الوصل نحو: يذهب الرجل.»
٣٠ استبعد سيبويه مفهوم «الإضجاع» من النحو؛ لأنه لا
علاقة له بكون الكلمة معمولًا لعامل فيتحرك آخرها، إنما علاقته
بتركيب الكلمة حين يُحرك مثلًا فاء الكلمة أو عينها أو لامها
بالكسرة مما لا علاقة له بالنحو.
أُخذ على سيبويه أنه جعل الجزم والوقف حركتين؛ لكن ابن جني فنَّد
هذا المأخذ. فمن وجهة نظره أن سيبويه يعني بقوله مجاري أواخر الكلم
«أحوال أواخر الكلم وأحكامها والصور التي تتشكل بها، فإذا كانت
أحوالًا وأحكامًا فسكون الساكن حال له، كما أن حركة المتحرك حال له أيضًا.»
٣١ وقد استعاد باحث معاصر رأي ابن جني؛ فالمجرى علامة في
آخر الكلمة تكون بالحركة أو بغيرها؛ لأنه مرتبط بالتكوين المكون في
نظر سيبويه من عوامل ومعمولات، بينما الحركة مرتبطة بالتركيب ولها
علاقة بالحرف فقط، سواء أكان في حشو الكلمة أم في آخرها أم في بدايتها.
٣٢
من جهة أخرى؛ يتضمن الباب الخامس من الرسالة «هذا باب الاستقامة
من الكلام والإحالة فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم
قبيح، وما هو محال كذب»
٣٣ مفاهيمَ تنتمي إلى علم مصطلح الحديث، وهو علم طلبه
سيبويه ثم تركه إلى علم العربية كما هو معروف، ويبدو أنه حافظ على
ما تعلَّمه حتى وهو يدرس النحو. ويبدو من الأمثلة التي أوردها
سيبويه، وحُكْمه عليها بمفهوم مستقيم حسن، أو محال، أو مستقيم كذب،
أو مستقيم قبيح، أو ما هو محال كذب أنها أحكام تشبه الأحكام التي
يصدرها رجال الحديث. على سبيل المثال: فأتيتُك أمس، وسآتيك غدًا،
كلام مستقيم حسن يذكر بالأحاديث النبوية التي تتبعها الرُّتبة
كقولهم عن أحد الأحاديث: حديث صحيح أو حسن. وتكمن الأهمية العلمية
للمفاهيم التي أوردها سيبويه كحسن وقبيح في معياريَّتها؛ أي في
استخدامها للحكم على صحة تركيب من الوجهة النحوية.
المفهوم المفتاح في مفاهيم سيبويه هو «مستقيم» ثم تأتي بعده
مفاهيم رُتْبة الصحة، كأن تكون حسنة أو قبيحة أو كاذبة. ويبدو لي
أن مفهوم «مستقيم» يعادل في علم مصطلح الحديث مفهوم «صحيح» من حيث
هو حكم تأتي بعده رتبة الحديث كأن يكون صحيحًا لكن رتبته
متفاوتة.
يعني الكلام المستقيم في رتبة الحسن عند سيبويه: ما رُوعي فيه
قواعد اللغة العربية صوتًا وتركيبًا ودلالة؛ أي إنه اشتمل على أعلى
صفات الصحة اللغوية؛ لذلك فهو كلام مستقيم حسن. ويعني الحديث
الصحيح السلامة من الشذوذ والعلل، واتصال السند بنقل العدل الضابط
عن مثله. قد يكون الحديث الصحيح لذاته؛ أي إنه اشتمل على أعلى صفات
القبول، وقد يكون الحديث صحيحًا لغيره؛ أي صُحح لأمر أجنبي عنه؛
لكونه لم يشتمل على أعلى صفات القبول كالحسن، فإذا روي من غير وجه
ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى درجة الصحة.
٣٤
من وجهة النظر هذه، يتبين لنا أن أحد الباحثين المعاصرين لم
ينتبه إلى التغيُّر الذي يحدث للمفهوم حينما يُستعار من حقل علمي
إلى حقل آخر. يقول هذا الباحث عن وصف سيبويه لبعض الكلام بالحسن:
«ويبدو أن هذا «الحسن» يكاد يقترب من الحديث الحسن.»
٣٥ وكما قلنا فإن الحُسن رُتبة يرتقي بها الحديث الصحيح
بغيره إلى رتبة الصحيح لذاته، وهو ما يشير إلى أن المفهوم المفتاح
هو الصحيح؛ وليس الحسن، وهو ما يقابل مفهوم المستقيم عند
سيبويه.
يذهب باحث آخر إلى أن القبح والحسن مفهومان كلاميان.
٣٦ وكما هو معروف فإن هذين المفهومين يُعبر بهما في علم
الكلام عن الخير والشر، وقد يُعبر بهما عن المصلحة والمفسدة.
والحكم بهما إما أن يكون عقلًا (المعتزلة) أو شرعًا (الأشاعرة).
وما يهم هنا هو أن سيبويه وإن استعارهما من علم الكلام؛ إلا أنه لم
يستخدمهما استخدامًا كلاميًّا. وإذا صح أن الاستقباح والاستحسان
يعتمدان على «الشيوع والكثرة في الظاهرة اللغوية»؛
٣٧ أي إن الشائع الكثير حسن والنادر قبح، فإن هذا تحسين
لغوي أو تقبيح لغوي عقلي؛ أعني حكَمَ بهما العقل وهو يستقرئ
الظاهرة اللغوية، ويستنبط أحكامها وقواعدها، ولا مجال هنا للتحسين
أو التقبيح الشرعي.
سأكتفي بما توقفت عنده من استعارة النحو بعض مفاهيمه من علوم
أخرى، وهي استعارة تتعلق بالشروط العقلية للممارسة العقلية
النحوية. ومن غير أن أحمِّل مرحلة سيبويه التاريخية فوق ما تحتمل
من شروط التفكُّر العقلي، فإن ممارسة عقلية كهذه لم تكن لتوجد ما
لم يتوفَّر حد أدنى من الشروط على المستويين الثقافي والاجتماعي
لتلك المرحلة التاريخية.
لا يمكن لي أن أعيد تفكير سيبويه العقلي في النظام اللغوي من حيث
هو نحو في حدود العقل إلى مؤسسات مدينة البصرة، كما يقال مثلًا على
المدينة في اليونان. وإن كان الاعتراف بعقلانية البصرة يجب أن يؤخذ
في الاعتبار؛ فنحو سيبويه يتميز بمعاصرته؛ ليس لعلوم الشرع فحسب
إنما أيضًا للعلوم الأخرى كعلم الكلام. وإذا ما كانت معرفة سيبويه
بعلم الحديث معرفة المحترف الذي تعلَّمه، فإن معرفته علم الكلام
معرفة الهاوي التي انعكست على تفكيره.
حين ترك سيبويه تعلُّم الحديث تعلَّم على الخليل بن أحمد، وسيبدي
لنا وصف ابن المقفع للخليل أي شيء تميَّز به الخليل بن أحمد حينما
قال عنه: «رأيت رجلًا عقله أكبر من علمه.» وهو ما أثَّر في سيبويه
الذي تجاوز العقل البلاغي للنحاة الذين سبقوه إلى المفاهيم النحوية
التحليلية. لقد وجد وصف ابن المقفع لسيبويه الصدى الذي يستحقه.
يُروى عن صاحب الأخبار وراوية الآداب أبي بكر الباهلي البصري أنه
نظر في كتاب سيبويه فقال: «علمه أبلغ من لسانه.»
٣٨ والمهم هنا ليس الحبسة التي في لسان سيبويه كما يُروى،
إنما التفكير العقلاني الذي تُنبئ به العبارة.
المفاهيم الموجهة للكتاب
في المتن الذي أحلِّله (رسالة الكتاب) سلسلة من أقوال سيبويه ﮐ
«اعلم» أن:
-
بعض الكلام أثقل من بعض؛ فالأفعال أثقل من الأسماء.
٣٩
-
ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ووافقه
في البناء أُجري مجرى ما يستثقلون، ومنعوه ما يكون لما يستخفون.
٤٠
-
النكرة أخف من المعرفة، وهي أشد تمكُّنًا.
٤١
-
الواحد أشد تمكنًا من الجميع.
٤٢
-
المذكر أخف عليهم من المؤنث.
٤٣
مفهوما الخفَّة والثقل اللذان تضمنهما كلام سيبويه مفهومان في
غاية الأهمية؛ لأن سيبويه يختبر بهما صحة الاحتمالات حين يستعرض
المفاهيم النحوية المترتبة عليهما. وقد تجاوبت استنتاجاته مع هذين
المفهومين؛ فالأفعال أثقل من الأسماء لذلك لا تُنوَّن لكنها تُجزم
وتُسكَّن. وترتب على خفة النكرة والمفرد على الترتيب أنهما أشد
تمكنًا من المعرفة والجمع. وهكذا فسيبويه لا يحلل مفاهيم النكرة
والمعرفة والمذكر والمؤنث والمفرد كيفما اتفق؛ إنما يحللها
استنادًا إلى مفهومي الخفة والثقل اللذين يستخدمهما الناطقون
لكنهما غير مصاغين، وعلى هذا المستوى فإن عمل سيبويه هو الإخراج
المبتكر لهذا المفهومين بعد أن كانا مألوفين، لكنهما غير
معروفين.
يتضح هذا في مفهوم موجه آخر هو مفهوم التشابه. يقول: «وإنما
ضارعت (الأفعال المضارعة) أسماء الفاعلين»؛ وذلك بسبب اجتماعهما في
المعنى. ودليل اجتماعهما في المعنى أن الاسم يمكن أن يحل محل الفعل
المضارع وليس العكس؛ مما يعني أنه فعل وليس اسمًا. وقد رتب سيبويه
على هذا استنتاجات دقيقة، وتعليلات دخول اللام على الفعل المضارع،
والتحاق السين وسوف به. وعلى أي حال لا مجال هنا لأن أتوسع، فما
أردته هو أن أشير إلى مجال لم يدرس بعد.
تكفي هذه المفاهيم الموجهة التي شرحها سيبويه في كتابه لتضعه في
مكان فريد ومميَّز عن نحويي عصره بالنسبة لمرحلته التاريخية، وهي
المفاهيم التي يعرفها جميع النحويين الآن. إنني أعتقد أن لكتاب
سيبويه نظامَ تفسيره، ولكي نفهم هذا النظام علينا أولًا أن نحدد
المفاهيم الموجهة، وفيما توقفنا عنده أعلاه بينَّا أنه حيث يوجد
ثقل أو خفة أو تشابه، فإن ثمة شيئًا يمكن أن يحلل بوصفه تفسيرًا،
الأمر الذي يجعل المفاهيم الموجهة جزءًا أصيلًا من مشروع سيبويه
النحوي.
مفاهيم الكتاب المتعلقة بالتركيب
تتضمن رسالة الكتاب بابًا عنوانه «هذا باب المسند والمسند إليه»،
٤٤ وكما نعرف فإن مفهومي المسند والمسند إليه انتقلا فيما
بعد إلى البلاغة العربية؛ وأُسس عليهما علم المعاني. وقد نقد بعض
المعاصرين هذا؛ فالنحو العربي من وجهة نظره «أحوج ما يكون أن يدعي
لنفسه هذا القسم من أقسام البلاغة الذي يُسمى علم المعاني حتى إنه
ليحسن في رأيي أن يكون علم المعاني قمة الدراسات النحوية أو فلسفتها.»
٤٥ وهو رأي من الصعب ألا أتفق معه؛ لأن النحو قبل سيبويه
نشأ تحليليًّا؛ أي إنه كان يُعنى بمكونات التركيب أكثر من عنايته
بالتركيب ذاته؛ لذلك فإن حديث سيبويه عن المسند وعن المسند إليه في
كتاب نحوي يُعتبر نقلة نوعية في مجال البحث النحوي.
يعرِّف سيبويه مفهومي المسند والمسند إليه بأنهما «ما لا يُغني
واحد منهما عن الآخر»؛ وهو تعريف يستند إلى علاقة الإسناد بينهما؛
فالمسند إليه عبد الله لا بد له من مسند هو أخوك في قولنا: «عبد
الله أخوك». ويعبِّر سيبويه عن هذا بقوله: «لم يكن للاسم الأول بد
من الآخر في الابتداء.» وكذلك فإن المسند «يذهب» لا بد له من مسند
إليه هو «عبد الله» في قولنا: «يذهب عبد الله». ويعبر سيبويه عن
هذا بقوله: «فلا بد للفعل من اسم.» وكما نعرف الآن فقد وُصفت علاقة
الإسناد في قولنا: «عبد الله أخوك» بالجملة الاسمية، وبالجملة
الفعلية في قولنا: «يذهب عبد الله».
يضيف سيبويه أن «مما يكون بمنزلة الابتداء قولك: كان عبد الله
منطلقًا.» ويبدو أن هذه إضافة «كان» لها علاقة بإضافة معنًى زمني
لجملة لا تشير إلى زمن «الجملة الاسمية». وتبدو أهمية هذه الإضافة
إذا ما أخذنا في اعتبارنا قرائن التعليق المعنوية، ومن أهمها
الإسناد، وهو ما اهتم به تمام حسان؛ فقد أكد على أن علاقة الإسناد
قرينة معنوية تميِّز المسند إليه بما لا يحتاج إلى إضافة.
٤٦
غير أن سيبويه لا يكتفي بعلاقة الإسناد بين اسمين أو بين فعل
واسم، إنما يُشرك المتكلِّم فيقول: «ولا يجد المتكلِّم منه بدًّا».
ويمثل إدخال المتكلِّم تطورًا نوعيًّا في مفهوم النحو؛ ذلك أن
المتكلم يحضر في نحو أبي الأسود الدؤلي من حيث هو ناطق يتجنب
الخطأ، بينما يحضر في نحو سيبويه؛ ليس لأنه ناطق فحسب، إنما فوق
ذلك لأنه يقصد معنًى؛ كأن يثبت شيئًا لشيء، أو ينفيه عنه، أو يطلبه
منه؛ أي إن للإسناد معنًى وظيفيًّا، ترتبت عليه تفريعات شرحتها
فيما بعد كتب البلاغة.
على أننا لا نتوقع من بلورة سيبويه مفهومي المسند والمسند إليه
أن يكون ردًّا على نحو أبي الأسود الدؤلي؛ فما زال النحو بمعنًى ما
دؤليًّا ولم يحدث القطيعة التامة. فسيبويه استخدم المفاهيم النحوية
التحليلية التي دشنها الدؤلي، لكنه سيضع البذرة التي نبتت في كتاب
دلائل الإعجاز الذي صُنِّف على أنه بلاغي وليس نحويًّا، وهو ما
يمثل عندنا مفهوم النحو المنسي.
٤٧
مفاهيم المساءلة الجديدة في الكتاب
حسب التقليد العلمي الذي وصَلَنا؛ فإن قضية اللفظ والمعنى تنتمي
إلى البلاغة، لكن محمد عابد الجابري يذهب إلى أكثر من ذلك؛ فقد
«هيمنت «قضية اللفظ والمعنى» على تفكير اللغويين والنحاة وشغلت
الفقهاء والمتكلمين واستأثرت باهتمام البلاغيين والمشتغلين بالنقد،
نقد الشعر ونقد النثر، دع عنك المفسرين والشراح الذين تشكل العلاقة
بين اللفظ والمعنى موضوع اهتمامهم العلني الصريح.»
٤٨ ثم يرتب على هذا أن سيبويه لم يكن «الوحيد الذي اتجه
بالدرس النحوي العربي هذا الاتجاه الذي يتداخل فيه المنطق واللغة،
بل إن عمله إنما كان جمعًا وتنظيمًا للمناقشات النحوية اللغوية
البلاغية المنطقية التي انشغل بها جيله والجيل السابق له.»
٤٩
غير أن فرضية الجابري الأساسية؛ أعني النظرة إلى اللفظ والمعنى
من حيث هما منفصلان لا تفسر ما تخيَّله وسماه النظام المعرفي
البياني. وليس كافيًا أن يقول: إن جمع اللغة وتدوينها وتأليف
المعاجم اللغوية نتَجَ عن تصوُّر اللغويين الفصل بين اللفظ
والمعنى؛ فالأمر الأهم يؤول إلى التصورات الشخصية المتعلقة
بمعتقدات اللغويين اللغوية وتصوراتهم عن طبيعة اللغة
ووظائفها.
لقد استند جمع اللغة وتدوينها إلى تصورات شخصية لجامعي اللغة عن
طبيعة اللغة ووظيفتها وعلاقتها بالفكر، وعن طبيعة المنهج وعلاقته
بما يدونونه أو يتجاهلونه. وقد كان لهذه التصورات أسباب تاريخية
وثقافية. وإذا كانت هذه العوامل التاريخية والثقافية قد ولدت
تصورات المعجميين اللغوية، وأن هذه التصورات نجم عنها معاجم لغوية
فصلت اللغة عن أُفقها الاجتماعي، وأن هذا الفصل ولد مشكل الكلمة في
علاقتها بالأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي بين الطبقات والفئات
والشرائح الاجتماعية. إذا كان كذلك فإن الأسئلة التي تنتظر
الباحثين هي: ما الأصول التاريخية لهذا المشكل؟ ما الشروط
الاجتماعية لبقائه؟ وما الأسس الثقافية لهذا كله؟ وهو ما لا تجيب
عنه فرضية الجابري المتعلقة بفصل اللغويين بين اللفظ وبين
المعنى.
نشأت معتقدات اللغويين والمعجميين المتعلقة بطبيعة اللغة العربية
من جو المرحلة الفكري الرافض لأي تجديد لغوي؛ لأنه يتعارض مع ثبات
اللغة العربية وأزليتها. ومن زاوية ثبات اللغة وأزليتها من الطبيعي
أن يتجاهل اللغويون وجود الكلمة المجتمعي الجديد، وتسرب الكلمات
الجديدة إلى العلاقات التي تربط بين الأفراد، ولحمة الكلمات لمجال
العلاقات الاجتماعية، وسجل الكلمات الذي تتواصل به شرائح المجتمع.
لهذا كله لا أوافق على الفصل الذي افترضه الجابري بين اللفظ
والمعنى وأدَّى إلى ما اعتقده في كتاب سيبويه، فالجابري يرى أننا
لسنا «بإزاء تقرير قواعد نحوية تضبط كيفية النطق والكتابة».
٥٠ إنما بإزاء «جهات — أو موجهات — مركبة من جهات عقلية
منطقية تخص المعنى وجهات لغوية تخص تركيب الكلام».
٥١ ما أغفله الجابري هو أن قضية اللفظ والمعنى تتعلق
بتفسير نصوص مؤسسة للمجتمع الإسلامي. ومن هذه الزاوية لا تمثل
علاقة اللفظ بالمعنى قضية طارئة من خارج الثقافة العربية
الإسلامية. بل إنني أذهب إلى أن قضية اللفظ والمعنى قضية أساسية
داخل الثقافة العربية الإسلامية؛ لكنها حتمًا لم تأخذ التوجه
النحوي الذي توصل إليه الجابري حين قابل بين مشتقات النحاة وبين
مقولات أرسطو.
٥٢
يختصر سيبويه في بابين من كتابه علاقة اللفظ بالمعاني، وما يكون
في اللفظ من الأعراض. وقد أتاح هذان البابان تقدمًا يسيرًا على
مستوى المعرفة النحوية في عصره، من حيث إنه أعطى بهما الفرصة للنحو
ليشتغل في مجال لم يكن الآخرون قادرين على وطئه، وفتح بهما ميادين
البحث النحوي التي ستظهر ناضجة فيما بعد عند نحويَّيْن هما ابن جني
وعبد القاهر الجرجاني؛ ففكرة أن العرب يحذفون ويعوضون، ويستغنون
بالشيء عن الشيء، التي أشار إليها سيبويه فرضت انتظام التحليل
النحوي فيما بعد، وهي بمعنًى ما مبادئ استُخدمت في شرح ما ينطق به
المتكلم.
لا أعني بالمبادئ سلسلة مرتبطة من المفاهيم العلمية التي تصف
ظاهرة أو حدثًا كما عرفها العلم الحديث؛ إنما أعني ظهور مفاهيم
جديدة للمساءلة في النحو والصرف كالحذف والتعويض والاستغناء.
٥٣ وهي مفاهيم تعبر بوضوح عن إشكاليات فعلية في اللغة، ﮐ
«لماذا قالوا يدع ولم يقولوا ودع؟ لماذا قالوا زنادقة ولم يقولوا
زناديق؟» هناك أسئلة أخرى سعى سيبويه إلى الإجابة عنها. ولكي يجيب
عنها فكَّر على مستويين: مستوى ما يُسمع، ومستوى ما لم يُنطق. وقد
أتاح له هذا شكلًا من التعقُّل أخذ شكلًا كافيًا من الوضوح مما أدى
إلى نتائج جديدة في البحث النحوي.
لم يكن سيبويه ليستطيع أن يتابع مشروعه؛ أعني إنشاء تفكير نحوي
جديد إلا بعد أن يفطن إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى. والفصل الذي
افترضه الجابري لم يكن مفكَّرًا فيه آنذاك. وما فعله سيبويه هو
تطوير فكرة التقصِّي عن العرب. وهو يبدأ البابين ﺑ «اعلم أن من
كلامهم» و«اعلم أنهم مما (ربما) يحذفون» وهو مما أدى إلى أفضل
النتائج؛ أعني التقصِّي الذي رسم إلى حدٍّ ما الحدود للألفاظ
والمعاني؛ فاللفظان قد يختلفان لاختلاف المعنى، وقد يختلفان
والمعنى واحد، وقد يتفقان ويختلفان في المعنى وإن كان الواقع
اللغوي قد يستعصي على هذا التحديد الدقيق.
مفاهيم الكتاب الذهنية
يهدف سيبويه من أمثلته على اختلاف الألفاظ لاختلاف المعنى «جلس
وذهب»، واختلافهما والمعنى واحد «ذهب وانطلق»، واتفاقهما
واختلافهما في المعنى «وجدت عليه، ووجَدت» إلى استكشاف معنَى ما
يُنطق به. ما الذي دفع سيبويه إلى هذه التفصيلات؟ الفضول العلمي هو
ما دفعه إلى البحث في الفروق الدقيقة بين الألفاظ؛ فالناس يتكلمون
في تجربتهم اليومية بكيفية عائمة وفضفاضة، وحين يتحدثون لا يتوخون
الدقة في دلالة اللفظ على المعنى أو «مطابقته». هناك نمطية عامة في
التحدُّث مشروطة بألا تعرقل التواصل في الحياة اليومية، وتبادل
التجارب مع أناس يشبهوننا.
بسبب الفضول العلمي المتعلق باللفظ والمعنى سلكَتِ المساءلة
الذهنية في كتاب سيبويه دربًا جديدًا أفضى إلى مفاهيم تشير إلى ما
يختفي خلف الظاهر المنطوق به، وهو ما يُفهم من حذف العرب بعضًا من
كلامهم. ثم شمل هذا الفضول المعرفي استكشاف مجمل الظاهرة اللغوية.
ومن هذا المنظور فالحذف هو ما قاد إلى مفهوم الإضمار، ومن ثم قاد
هذا إلى مفهوم العامل، وليس العكس.
٥٤ فالحذف أقل تجريدًا من الإضمار والعامل، مما يعني أن
الأكثر تجريدًا يتلو الأقل تجريدًا. التفكير في الحذف ثم في
الإضمار ثم في العامل هو عمليات النحو العلمية التي توقفت عند
العامل بوصفه تصورًا ذهنيًّا تأويليًّا، وأداة تحليلية لعلم النحو.
٥٥
ما كان لسيبويه أن يعقد باب «مجاري الكلم العربية» بدون مفهوم
العامل، وما كان له أن يكون عقلانيًّا وعلميًّا معًا ليتوقف عند
قضايا تتعلق بأساليب النداء والقسم والاختصاص … إلخ من دون افتراض
الحذف أو الإضمار. تكمن وظيفة مفاهيم الحذف والإضمار والعامل في
أنها تجعل من إحدى وظائف اللغة «التبليغ» افتراضية. وبفضل هذا
الافتراض يصبح معنى الكلام موضوع النحو. قد كان سيبويه واعيًا بذلك
حين يقول: «وهذا تمثيل ولا يُتكلم به.»
٥٦ يعلق أبو زيد على أن هذه العبارة دليل «على وعي سيبويه
بالفارق بين «العبارة الأصلية» موضوع التحليل وبين «العبارة
الشارحة». ومعنى قول سيبويه إن «العبارة الشارحة» «تمثيل ولا يتكلم
به» هو أن تقدير المحذوف مسألة افتراضية. وإذا كان المحذوف هو
العامل؛ فذلك يؤكد ما ذهبنا إليه من أن «العامل» مجرد تصور ذهني
تأويلي، أو هو أداة تحليلية لبناء العلم.»
٥٧
المنزلة المعرفية للغة الكلام مقابل لغة الشعر
أنهى سيبويه رسالة الكتاب بمجموعة من الملاحظات، وأدرجها تحت
عنوان عام هو «باب ما يحتمل الشعر». يقول: «اعلم أنه يجوز في الشعر
ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف … وحذف ما لا يحذف …
وربما مدُّوا مثل مساجد ومنابر … وقد يبلغون بالمعتل الأصل،
فيقولون رادد في راد، وضننوا في ضنوا، ومررتم بجواري قبل … ومن
العرب من يثقِّل الكلمة إذا وقف عليها، ولا يثقلها في الوصل، فإذا
كان في الشعر فهم يجرونه في الوصل على حاله في الوقف نحو: سبسبَّا
وكلكلَّا … ويحتملون قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه … وجعلوا
ما لا يجري في الكلام إلا ظرفًا بمنزلة غيره من الأسماء.» لقد أطلت
الاستشهاد لكي أحدد قيمة ما أورده سيبويه فيما يتعلق بالمنزلة
المعرفية للغة الكلام في مقابل لغة الشعر، ولكي أدعم تصور لغة
الشعر على طريقة الخليل بن أحمد (الشعراء أمراء الكلام) الذي قد
يرى البعض أن سيبويه أورده متأثرًا بالخليل؛ فالنصان فيما أذهب
إليه لا يتماثلان، ولا يتحملان المعنى ذاته من جهة الغاية؛ ذلك أن
الغاية عند الخليل بن أحمد غاية عروضية تتعلق بالوزن؛ فالفرزدق —
مثلًا — مد الصيارف في بيته الشهير «تنقاد الصياريف» من أجل أن
يستقيم الوزن. أما الغاية عند سيبويه فهي غاية نحوية؛ أي لا يجب أن
تخضع لقواعد النحو من حيث الصحة والخطأ، ذلك أن الشاعر اضطر إلى
ذلك اضطرارًا لكي يكون له لغته الخاصة، وهو ما يفهم من قوله: «وليس
شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا.» ويمكن أن نفهم هذا
القول في إطار أن اللغة منظومة اجتماعية، فهي تقتضي دائمًا بأن
يضحي الفرد بلغته الخاصة من أجل لغة الناس جميعًا، وما يحدث للغة
الشعر هو أن الشاعر يضحي بلغة الناس من أجل لغته الخاصة.