يرى ابن جني أن النحاة القدماء خَبَروا شخصيًّا الكلام في الحياة
اليومية، ودلل على ذلك بقوله: «ليس المخبَر كالمعاين.»
١ وفي صفحة أخرى يقول: «يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا
يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه، ولم يحضره إنشاده.»
٢ يتحرز ابن جني بهاتين العبارتين من اللغة المكتوبة التي لا
تساعد على اكتشاف خصائص اللغة الحية؛ لأن اللغة المكتوبة «خارجة عن
ظروف الحياة الواقعية؛ وهي كذلك لا يمكن أن تعطي صورة صحيحة لحالة
لغوية؛ لأنها بحكم الضرورة، وبفضل امتيازها، تعيش الماضي والحاضر
والمستقبل جميعًا، ولأن الكاتب الواحد في صفحة واحدة يمكن أن يكون
سابقًا لتطوُّر اللغة المتكلَّمة ومتخلفًا عنه.»
٣
الصورة التي يوضح بها ابن جني اللغة المكتوبة ينقلها عن أحد شيوخه
حينما قال: «أنا لا أحسن أن أكلم إنسانًا في الظلمة.»
٤ وبالرغم من أن ابن جني يورد عبارة شيخه في سياق أهمية
مشاهدة وجه المتكلم، وكيف يمكن أن تكون مشاهدة وجهه دليلًا على ما في
نفسه، فإننا يمكن أن نستخدمها صورة للكلام الذي يُجرد الكلام من كل ما
هو شخصي وثقافي، ومن الخصائص الثقافية لحياة الناس اليومية، وهي صورة
تمثل ما فعله في كتاب الخصائص؛ حيث جرَّد ابن جني الكلام من كل ما هو
شخصي وثقافي وحياتي. والأمثلة التي يختارها تفي بالغرض من ناحية النحو
العلل والقياس، لكنها غالبًا معزولة عن حياة الناس حتى إنها ترد عنده
بدون سياق لغوي.
كلام العرب كما حلله ابن جني في كتاب الخصائص أكثر مما يعرَّف به
كتاب الخصائص، وهو أكثر من مجموع الصفات التي أطلقها عليه. لا سبيل فيه
إلى وصف الكلام الخاص والحميمي في تجربة الحياة اليومية، إذ يُحْيي
الإنسان الكلام وينعشه بما يتجاوز القياس والعلل. والسبيل الوحيد أمام
الإنسان لأن يجرب الكلام هو أن يتكلم، حينئذٍ يوقظ حريته وتواصله مع
الناس، أن يشعر في حياته اليومية أن هناك إنسانًا يتكلم معه وعنه في
موقف حياتي حميم. يمكن لابن جني أن يقترب من اللغة المتكلَّمة وأن
يقاربها، يمكنه أن يحاكيها، لكن المحاكاة تظل تحويلًا وتحريفًا.
٥ وقارئ كتاب الخصائص لن يستغرق وقتًا حتى يلاحظ الكلمات
المُبهمة، والتي في طريقها إلى أن تتلاشى، والتي ماتت، والتي صنعها ولا
يتكلم بها أحد. كل هذا بسبب اعتماده على اللغة المكتوبة التي لا تعطي
صورة أمينة عن اللغة كما يتكلمها الناس في حياتهم اليومية.
لكن ألا يُعد ما قام به ابن جني في كتابه الخصائص تقدُّمًا كبيرًا
لعلم النحو العربي؟ بلى. ذلك أن التزام ابن جني الجديد بتجريد النحو من
كل ما هو ثقافي أثبت في جانب آخر أنه تجريد مثمر وخصب؛ حيث وجه أنظار
النحويين من بعده إلى مسائل نحوية تمثل موضوعات جديدة؛ حين أصبح مفهوما
الاستقراء والقياس أشبه بالشرط في دراسات النحاة التاليين لابن
جني.
تجديد النحو بما هو أصل فكرة قوانين الصواب والخطأ
ينطلق نحو سيبويه من مفاهيم وقضايا نحوية تسمح للمتكلم بأن يركب
أي شكل للمعنى الذي تصوَّره قبليًّا؛ أي «قوانين النحو في سيرورتها
وتعدُّد إمكاناتها ولا نهائية الاختيارات المتاحة عند المتكلم».
٦ أما فكرة نحو ابن جني، فهي الفكرة النحوية التي تقوم
على قوانين الصواب والخطأ. أين الجدة ونحو الدؤلي يستند هو أيضًا
إلى قوانين الصواب والخطأ؟ تاريخ أي علم لا يكرر الأفكار ذاتها،
وإن حدث وتكررت فإن الفرق بينها يحول دون تطابقها؛ كالتاريخ الذي
لا يتكرر. وإذا ما حدث وتكرر فإن الفرق بين تاريخين يحول دون أي
تعميم بالتطابق بينهما. والفرق بين فكرتَي الدؤلي وابن جني هو
الفرق بين فكرة تنشأ ولا تعرف أي جهة تسلكها كما هي فكرة الدؤلي،
وبين فكرة يُراد لها أن تسلك جهة محدَّدة كما هي فكرة ابن
جني.
يقوم نحو سيبويه على تشارك الوصفي والمعياري، وهذا ما هيَّأ
جزءًا من نحو سيبويه لكي يُطبق على أواخر كلمات اللغة. أما النحو
المستند إلى قوانين الصواب والخطأ فقد نشأ تحت توجيه فكرة النحو
الجديدة؛ أعني قول ابن جني في جزء من تعريفه النحو «ليلحق من ليس
من أهل العربية بأهلها من الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن
شذَّ بعضهم رُدَّ به إليها»؛
٧ أي إن النحو يصبح بالنسبة للكلام قوانين مُسْتخدمة
ينتج عنها علامات إعراب يخضع لها المتكلمون؛ لا من حيث إنتاج
الدلالة والمعنى كما في نحو سيبويه، إنما من حيث صواب الكلام
وخطؤه.
يمكنني أن أعيد بناء مسار التفكير الذي أوصل إلى فكرة ابن جني عن
النحو؛ فقد هُيئ الإنسان على نحو يجعله يتعلَّم اللغة بسهولة ما لم
يكن هناك عائق. ولا يثير تعلُّم الإنسان اللغة أي إشكال. حين يتكلم
الفرد في حياته اليومية، فهو يتكلم من غير أن يفكر في قوانين
الصواب والخطأ. إنما يتكلم باعتباره ذاتًا تعبر عن حياتها
الداخلية، ولكي يلبي حاجاته اليومية؛ لذلك فإن مركز الثقل ليس في
أن يطابق كلامه صيغ الكلام الصائبة، إنما أن يفهم المخاطب المعنى.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتحتم على الفرد، أن يأخذ بعين الاعتبار
وجهة نظر المخاطب الذي يتكلم معه؛ لأن المخاطب هو الذي سيفهم كلام
المتكلِّم. ولا علاقة هنا لقانون الصواب والخطأ؛ فصحة كلام الفرد
لا تهم بقدر ما تهم قيمة الحقيقة فيه أو الكذب، أو طابع الكلام
الشعري أو المبتذل
٨ … إلخ.
حين يتكلم الفرد في الحياة اليومية؛ فكلامه لا ينفصل عن محتواه
الأيديولوجي أو عن حياته اليومية. ما ينطقه في الحياة اليومية
ويسمعه الآخرون ليس الكلمات، إنما الحقائق أو الأكاذيب، الأشياء
الحسنة أو القبيحة، المهمة أو المبتذلة، المفرحة أو المحزنة … إلخ.
فالكلام محمَّل دائمًا بمضمون أيديولوجي أو وقائعي. وعلى هذه
الشاكلة يفهم الناس الكلام، ولا يستجيبون إلا للكلام الذي يوقظ
فيهم أصداء أيديولوجية، أو له علاقة بحياتهم اليومية.
٩
عندما يهتم أحد بكلامنا وينشغل به، ويتأمَّله، ويصفه ويصححه أو
يخطئه يركب كلامًا جديدًا انطلاقًا من هذه العلميات؛ وهنا يظهر
عالم النحو وعلم النحو. في مقابل كلام الفرد الذي ينشأ ضمن سياق
محدد هو سياق الحياة نشأ الآن تفكير خالص في كلام الفرد وبكلام
الفرد بما ليس من كلام الفرد. ومن هذا المنظور نشأت كلمات مميزة
(مفاهيم) ومحددة ومنضبطة كالفعل والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر
… إلخ. وإبداع النحو العربي يكمن في أنه استعمل كلام العرب، وأنتج
منه مفاهيم بكيفية نظرية، وفرضيات ومنهج مُصطنع.
١٠ يتعلق الأمر بأخذ عدد معين من الأمثلة تملك سمات
مشتركة، وجمْعها، واستخلاص الفروق بينها، والاحتفاظ بما يتشابه
منها. بهذه الطريقة تتشكل فكرة عامة عن فئة من الأمثلة فتتشكل
المفاهيم كالفعل والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر … إلخ. وهكذا
فالمفاهيم النحوية أفكار تمثل «كلية الخواص الجوهرية؛ أي جوهر
الأمثلة التي اهتم بها النحوي».
١١ التركيب النظري للنحو تحول من الاهتمام العملي
كالتعبير وتلبية الحاجات الإنسانية إلى اهتمام نظري لا يهتم بالحكم
على صواب الكلام أو خطئه.
بالعودة إلى موضوعنا؛ فحين يتحدث ابن جني عن النحو بوصفه أداة
يلحق بها من ليس من أهل العربية بأهلها من الفصاحة، فينطق بها وإن
لم يكن منهم، ويرد بها الشاذ منهم إليها؛ فهو يتحدث عن مهارات
اللغة العربية التي يصعب على الفرد أن يتعلمها من محيطه المباشر،
كما يشير إلى أن وصف نظام اللغة ليس كل النحو، وأن فكرة الخطأ
والصواب تحتفظ بدورها من حيث هي فكرة مكمِّلة لوصف نظام اللغة، وأن
المعيار يحتفظ بمكانته في تعليم اللغة، وبدونه لن يصبح النحو
قادرًا على أن يكون في جانب منه علمًا تطبيقيًّا يمكن تعليمه
والتدريب عليه.
الفكرة الأساس للنحو المستند إلى القياس
لا يمكننا أن نتصور علمًا يجْمد كما هو حين نشأ؛ وقد ظهر التركيب
النظري للنحو لأن علم النحو واصل تطوُّره. وجه هذا النحو الخالص
تفكير ابن جني النحوي؛ أعني النحو الذي يصف الإمكانات المتاحة
للمتكلم، وهو ما أفهمه من قوله: «أما في الحقيقة وحصول الحديث،
فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هو للمتكلم نفسه، لا
شيء غيره، وإنما قالوا لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم
بمضامة اللفظ للفظ.»
١٢ يقصد بقوله لفظي ومعنوي المفاهيم التي استخلصها النحاة
وهم يتأملون الكلام، وهذا ما أفهمه أيضًا من قوله: «وإنما قال
النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي؛ ليُروك أن بعض العمل يأتي
مسببًا عن لفظ يصحبه.»
١٣ يشير ابن جني هنا إلى المهمة الوصفية التي حفزت في
الأصل مهمة النحو الخالص عند سيبويه، وقد أصبح هذا النحو الخالص
وسيلة يصف بها النحاة تعدُّد الإمكانات المتاحة أمام المتكلم،
وموجهًا للنحو في تصور وإنجاز مهمة المتكلم التي تكمن في أن يفهم
المخاطب المعنى الذي يُقصد.
كان هذا كله موجودًا ومعروفًا عند ابن جني من نحو سيبويه، ولم
يكن ابن جني في حاجة إلى أن يعود من جديد ليعالج الكيفية التي ينجز
بها المتكلم الكلام؛ لأن سيبويه كان قد استنفدها، لا يليق بابن جني
الذي درس النحو، وخبَره وعرفه وعرف معه المفاهيم والقضايا النحوية
وتآلف معها أن يكرر ما فعله سيبويه. لقد قاد تمرُّس ابن جني وخبْره
بالنحو الخالص إلى التفكير النحوي في فكرة العلل التي نشأت لأول
مرة؛ أعني قوله: «ذلك أنا لم نرَ أحدًا من علماء البلدين (البصرة
والكوفة) تعرَّض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه.»
١٤
انطلاقًا من فهم ابن جني لفكرة النحو الخالص أراد أن يعلله؛ لكي
يجعله مقنعًا لِمَن يريد أن يدرسه؛ أي إن ابن جني أراد أن يبرهن
على أن التغييرات التي يجريها المتكلم على الكلام لا يجريها
اعتباطًا؛ إنما هي تغييرات معلَّلة. هذه العملية احتاجت من ابن جني
أن يسأل «لماذا؟» ليكتشف انتظام الكلام على العلَّة بالترابط بين
الكلمات التي توجد مع بعضها في الجملة، وبتعبير ابن جني «بعض العمل
يأتي مسببًا عن لفظ يصحبه». وقد مكَّن هذا الأسلوب المعتمد على
التعليل ابن جني من أن يضع في الكلام افتراضات واستقراءات وتنبؤات.
لقد ظهرت علل النحو عند ابن جني بديلًا لحُجَّة النحوي الضعيفة،
وليس بلا دلالة أن يُنسب هذان البيتان إلى ابن فارس المعاصر لابن جني.
١٥
مرت بنا هيفاء مجدولة
تركية تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن
أضعف من حُجة نحوي
يكمن الفرق بين علل النحو وحجَّة النحوي في الفرق بين ما ينتمي
إلى العلم وما يخرج عن العلم. فاستشهاد النحوي بآية من القرآن أو
ببيت من الشعر القديم لبيان مخطَّطات العرب في تأليف كلامهم هو
حجَّة، بينما تقتضي علل النحو القدرة المعرفية؛ أعني معرفة النحو
لا معرفة النحوي. تشير حجة النحوي إلى أن النحوي يجب أن يخضع لكلام
العرب، بينما تشير علل النحو إلى أن كلام العرب ينتظم وفقًا لمعرفة
النحو. أما الفرق الأهم فهو أن علل النحو تعني التلاؤم مع تصور ما.
والتلاؤم عنصر عقلاني ذو دلالة مهمة جدًّا ضمن تصور ابن جني
للتعليل. وهذا ما نفهمه من تمييز ابن جني بين علل الفقه وعلل
النحو، وكون علل الفقه أدنى رتبة من علل النحو. ويشرح هذا مستعينًا
بالتاريخ الثقافي والاجتماعي فالجاهليون يحصِّنون فروج مفارشهم،
ويجيرون الجار ويحفظونه؛ أي إن الشريعة جاءت بما هو معلوم ومعمول
به عند العرب، ولو لم تصادق الشريعة على تلك الممارسات الحياتية
لَما أخلَّ بحال تلك الممارسات ولاستمرت كذلك. ثم إننا لا نعرف علة
عدد ركعات الصلاة، ولا ترتيب الأذان، ولا ترتيب مناسك الحج.
والخلاصة هي «جميع علل النحو إذن مواطئة للطباع، وعلل الفقه لا
ينقاد جميعها هذا الانقياد.»
١٦
لقد فتح النحو الخالص الطريق أمام علل النحو بتركيزه على أن ما
في حوزة العقل الإنساني، ويسعى إلى تحقيقه هو نسق المعرفة. وإذا ما
وضعنا في الاعتبار ارتباط النحو الخالص بالقياس؛ فإن النحوي بفضل
هاتين الإمكانيتين (التعليل والقياس) يمكن أن يبدأ من كلام لكي
يقيس عليه كلامًا آخر. ومن هذا المنظور يصبح التعليل والقياس
منهجين عامين لمعرفة الكلام معرفة علمية. وفي هذا الإطار أفهم قول
ابن جني: «واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على
الأصل، ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن، وأنه منها
على أقوى بال.»
١٧
ما الذي يضمن دقة التعليل والقياس عند ابن جني؟ الصورة الشاملة
والواحدة لكلام العرب، فلا يوجد كلامان؛ هناك كلام واحد، وبمقتضى
بنية كلام العرب القبلية يتكلم العرب، وكلامهم امتداد لفكرة كلام
كلي. كلام العرب الكلي له صورة كلية تشتمل على كل صور الكلام، وهو
ما يمكن أن يُسيطر على الكلام عن طريق التعليل بالكيفية التي
حللتُها.
دافع تصور فكرة نحو ابن جني
ما الذي كان ممكنًا في النحو قبل قرن ابن جني (القرن الرابع
الهجري) ليغذي فكرته الجديدة عن النحو، حتى ولو عند مستوًى محدود؟
تأثر ابن جني بسيبويه، لكنه تأثر مصحوب بمقاصد نقدية كما أفهمه من
الأبواب التي عقدها في بداية كتاب الخصائص. يتعلق الأمر بالفصل بين
الكلام وبين القول، وبالقول في النحو، وبالقول في الإعراب والبناء،
وبأصل اللغة، وهي أبواب ذات صلة قليلة مع كتاب سيبوبه الذي لم
يعرِّف اللغة ولم يتوقف عند أصلها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمة
تأثير ابن السراج الذي سبَق أنْ أثارَ فكرة أصول النحو وعلله، وهي
فكرة عرفها ابن جني في قوله: «فأما كتاب أصول أبي بكر فلم يلملم
فيه بما نحن عليه إلا حرفًا أو حرفين في أوله، وقد تُعلق عليه به.
وسنقول في معناه.»
١٨ الكلمة الأهم في عبارة ابن جني هي (يلملم) فاللَّملمة
في المعجم العربي تشير إلى الإحكام
١٩ الذي يعبر عنه العرب أحيانًا بالاستدارة، كقول العرب
لملم الحجر؛ أي جعله مستديرًا، وإلى التنسيق كقولهم شعر مُلملم؛ أي
مدهون ومنسق، وإلى التماسك كقولهم رجل ململم. ومن منظور هذه
المعاني يمكنني أن أفهم عبارة «لم يلملم فيه» أن أثر ابن السراج في
ابن جني ليس حاسمًا؛ لأنه لم يبنِ نظرية متماسكة.
يختلف الأمر مع مقاييس الأخفش الأوسط؛ لأن طابع أصول النحو عند
الأخفش ارتبط بالقياس. وقد احتفى ابن جني بمعرفة الأخفش احتفاء قل
نظيره إلى حد أن جعل كتابه الخصائص نيابة عن كُتيِّب الأخفش، وجهده
بديلًا عن جهد الأخفش؛ احترامًا ومكافأة له على الطريق الذي فتحه
للمعرفة النحوية. يقول ابن جني: «على أن أبا الحسن كان قد صنف في
شيء من القياس كُتيِّبًا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك
أننا نُبْنا عنه فيه، وكفيناه كُلفة التعب به، وكافأناه على لطيف
ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة بماء البشر والبشاشة علينا.»
٢٠
ما الذي حفز ابن جني على أن يقتنع بمقاييس الأخفش؟ جرأة الأخفش
في القياس التي يفصح عنها في الباب الذي عقده للقياس على ما يقِل،
ورفض ما هو أكثر من ذلك. في هذا الباب وجدت جرأة الأخفش في قياس
ذلك قبولًا وإعجابًا من ابن جني إلى حد أنه قال عن الأخفش: «وما
ألطف هذا القول من أبي الحسن!»
٢١ هذا التعجب ورد سياق تحليل ابن جني فكرة أن يقل الشيء
وهو قياس، ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس.
لكي يصل ابن جني إلى فكرة قياس شامل لكلام العرب فضل أن يبحث في
كلام مستعمل بكثرة وفي الوقت ذاته قياسه قوي؛ أعني ما يتحدث عنه في
قوله: «وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس؛ فذلك ما لا
غاية وراءه.»
٢٢ يعرف ابن جني أن تعارضًا قد يحدث بين السماع وبين
القياس، وقد عقد بابًا لذلك.
٢٣ وقدم اقتراحات مفيدة لحل التعارض لصالح الاستعمال.
٢٤ فإذا شذ الشيء في الاستعمال، وقَوِي في القياس؛ فإن
استعمال ما كثر أولى، وإن لم ينتهِ قياسه إلى ما انتهى إليه
استعماله. وإذا أدى القياس بالمتكلم إلى شيء ما، ثم سمع العرب تنطق
بشيء آخر على قياس غيره، فيجب أن يدع المتكلم ما كان عليه إلى ما
هم عليه. أما إذا سمع المتكلم من عرب آخرين مثلما أجازه في القياس
فهو مخيَّر يستعمل أيهما شاء. قد يبدو هذا تنازلًا من ابن جني،
وثغرة في شمول القياس من حيث هو أداة شاملة، لكن لو تذكرنا أن
النحو الخالص معرفة علمية بتعدُّد الإمكانات، ولا نهائية
الاختيارات عند المتكلم؛ فإن تنازل ابن جني دعم لفكرة النحو
الخالص. وهو ما أفهمه من خلاصة ابن جني التي أنهى بها الباب الذي
عقده في تخصيص العلل.
٢٥
يخلُص ابن جني إلى أن عناية العرب بمعانيها أقوى من عنايتها
بألفاظها، ويسمِّي العلامات كالنصب والجر والرفع والجزم حِلية
الألفاظ وزينتها؛ إذ لم يُقصد بها إلا تحصين المعنى والإحاطة به.
وأن المعنى هو المكرم والمخدوم، وأن اللفظ هو المبتذل الخادم. وعلى
أي حال فالأهم عند ابن جني أن يجد أداة تُحسن باستمرار حتى يتجاوز
نحو سيبويه؛ لا ليلغيه، إنما ليؤكده ويقنع به؛ فنحو سيبويه الخالص
معرفة تهدف إلى وصف عناية العرب بمعانيها الأقوى من عنايتها
بألفاظها، وهذا ما أفهمه من قول ابن جني: «إنه معنًى عند العرب
مكين في أنفسها، متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها، وهو ما
أوردناه وشرطناه من كون الحركة غير لازمة، وكون الكلمة في معنًى لا
بد من صحة حرف لينة، ومن تخوُّفهم التباسه بغيره؛ فإن العرب — فيما
أخذناه عنها وعرفناه من تصرف مذاهبها — عنايتها بمعانيها أقوى من
عنايتها بألفاظها.»
٢٦
لا يحول السياق الجزئي الذي وردت فيه عبارة ابن جني هذه؛ أعني
سياق تقمُّصه دور المعارض في قوله: «فإن قلت … كأنك إنما جئت إلى
هذه الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل، فحشوت بها حديث
علَّتك لا غير.»
٢٧ لا يحول دون بلوغ السياق العام لطرح ابن جني؛ لذلك فهو
يسارع إلى القول: «أو لتعلم عاجلًا إلى أن تصير إلى ذلك الباب
آجلًا أن سبب إصلاحها (العرب) ألفاظها، وطردها إياها على المُثل
والأحذية التي قننتها لها وقصرتها عليها، إنما هو لتحصين المعنى
وتشريفه والإبانة عنه وتصويره؛ ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب
المفعول، إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول، وهذا الفرق معنوي،
أصلح اللفظ له، وقيد مقاده الأوفق من أجله.»
٢٨
لا يجب أن نغفل عن كلمتين موفَّقتين هما «معنوي» و«الأحذية». حيث
تشير كلمة «معنوي» إلى المعنى بالنسبة إليه، وتشير «الأحذية» إلى
القالَب؛ مما يعني أنه استوعب ترابط كلام العرب، وترابطه وفق
المعنى والقالب. إن القياس الذي يشير إليه معنى «الأحذية» يعني أن
يمسك ابن جني كلام العرب في شبكة واسعة من الأقيسة. هنا نسأل: هل
يمكن أن يكون هذا نحوًا جديدًا؟ هل يمكن أن يكون هذا معرفة علمية
بكلام العرب؟ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن ابن جني متحمس لتطوير
فكرة القياس ليبرهن على النحو الخالص من داخله، وبما ينتمي إليه؛
أي العقل. وهو حماس يقرب النحو الخالص من الكمال. ترتب على ذلك أن
القياس ليس علمًا جديدًا؛ إنما هو أداة لتحسين النحو الخالص، أداة
فنية إن صح هذا التعبير.
ما زال في السياق الذي أتحدث فيه مسألة معلَّقة؛ ذلك أن إنجاز
القياس الحاسم هو أنه وفَّر إمكانية القيام بتنبؤات محددة؛ أي أن
يُركب نظريًّا كلام قد لا يستخدم في الحياة اليومية. وهنا تنشأ
مشكلة؛ حيث يتحول النحو من الدراسة العلمية للكلام كما يُستعمل في
الحياة اليومية إلى مجرد تركيب نظري للكلام غير المستخدم في الحياة
اليومية. انطلاقًا من هذا الفهم يحتاج مفهوم القياس إلى توضيح
دقيق، وذلك بالنظر إلى كونه تحوَّل إلى أداة تُستخدم بكيفية مُحكمة
ودقيقة من دون أن تستحضر الإنجاز المؤسس لها إلا في سياق ما فات
عليه؛ أعني ما فات النحو الخالص عند سيبويه الذي يصف الكلام كما
يُستعمل في الحياة اليومية في إنتاجه المعنى. وفي هذا الإطار يمكن
أن أفهم الباب الذي عقده ابن جني لفوائت كتاب سيبويه،
٢٩ حيث وسع فيه القياس توسيعًا غير معروف بالنسبة لنحو
سيبويه. لقد أصبح القياس في هذا الباب حرًّا ومستقلًا عن الكلام في
الحياة اليومية، ويهتم بالغريب والطريف.
تفريغ النحو الخالص من معناه
تحول القياس إلى فنٍّ في الباب الذي خصصه ابن جني للأمثلة التي
فاتت كتاب سيبويه؛ أعني أنه تحول إلى مجرد أداة فنية ابتعدت عن
التفكير الذي يمنح القياس معناه. يفهم ابن جني السبب الذي جعل تلك
الفوائت تفوت سيبويه، بل إنه ينص عليها؛ فما فات سيبويه يعيده إلى
عدة أسباب «منها ما ليس فصيحًا عنده، ومنها ما لم يُسمع إلا في
الشعر، والشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيرًا ما يُحرف فيه
الكلم عن أبنيته، وتُحال فيه المثل عن أوضاع صيغها.»
٣٠
دفع حماس ابن جني للقياس إلى أن يهتم لا بطبيعة النحو الخالص،
إنما بما يسمح به القياس. وإحدى الحكايات التي أوردها توضح ما أريد
قوله. يقول: «وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية،
ويتباعد عن الضعفة الحضرية، إلى أن أنشدني يومًا شعرًا لنفسه يقول
في بعض قوافيه: أشْئَؤُها، وأدأَؤها (بوزن أشععها وأدععها) فجمع
بين الهمزتين كما ترى، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس
يسوِّغه. نعم، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له، بضد ما
يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما، فكيف
أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظَّ له في
الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد
بمثله سماع.»
٣١ لقد كان بإمكان ابن جني أن يعتبر ما سمعه من الرجل
كلامًا ممكنًا في الشعر كما هو ممكن في الحياة اليومية حتى لو لم
يرد على القياس؛ لا سيما أن ابن جني وثق في فصاحة الرجل؛ حيث يقول
عنه: «من أمثل مَن رأيناه ممن جاءنا مجيئه، وتحلَّى عندنا حليته.»
٣٢
هناك حكاية أخرى لهذا الرجل مع ابن جني. يقول: «وأنشدني أيضًا
شعرًا لنفسه يقول فيه: كأن فاي … فقوي في نفسي بذلك بعده عن
الفصاحة، وضعفه عن القياس الذي ركبه … ولكن هذا الإنسان حمل بضعف
قياسه قوله (كأن فاي) على قوله: كأن فاه، وكأن فاك، وأُنسي توجيه
ياء المتكلم: من كسر قبلها وجعله ياء.»
٣٣ لماذا لم يأخذ ابن جني ما قاله الرجل في إطار الشعر
الذي يقول عنه هو نفسه «يُحرف فيه الكلم عن أبنيته، وتُحال فيه
المثل عن أوضاع صيغها»؟
٣٤ يبدو لي أن ذلك بسبب القياس الذي تحمس له. وهكذا يشبه
ابن جني الحرفي الذي توجِّهه المعرفة العملية؛ كتلك التي توجه
النجار من حيث إلفته ودرايته بموضوعه، مما يجعله ماهرًا في إنتاج
ما يريد أن ينتجه؛ أي إن ابن جني حوَّل القياس إلى معرفة عملية،
وقد سطَّحه بهذا التحويل، فهو يقيس من غير أن يستحضر المعنى الأصلي
للنحو الخالص. فلو أن سيبويه على سبيل المثال سمع من الرجل
(أشْئَؤُها، وأدأَؤها) وهو يثق بفصاحته لما تردد في قبولهما
والتفكير فيهما تفكيرًا علميًّا، من جهة إيصالهما المعنى كما هي
وظيفة النحو. لكن ماذا لو أن ابن جني يحكي؛ أي يفترض سياقًا نسب
فيه الكلام إلى رجل من دون أن يكون هناك رجل ليتحدث عن مسألة يريد
أن يتحدث عنها؟ سيكون قد ركب كلامًا لا يُستعمل في الحياة اليومية.
ما يجعلني أميل إلى هذا هو أن ابن جني وريث نحو ونحويين؛ فالنحاة
والنحو المُعطى له مسبقًا لا يركب الكلام من دون أن يكون مستعملًا،
وإذا ما حدث، فيُنبه إليه كما فعل سيبويه في قوله: «هذا تمثيل ولم
يُتكلم به»؛
٣٥ أي إن الكلام في الحياة العامة يسبق النحو، وهو الأساس
الذي يعطي النحو معنًى من حيث هو علم.
كلام الحياة المنسي
تكلم الإنسان قبل أن يكون هناك نحوي ونحو. لا يدري النحوي كيف
تكلم الإنسان، وليس من مهمته ولا من مهمة النحو الخالص أن يعرِفَا؛
ذلك أن مهمة النحوي هي أن يتمعَّن في تركيب الكلام. ترتب على هذا
أفكار في غاية الأهمية بالنسبة للنحو الخالص، فللكلام غاية وقصد،
وغاية الكلام تنعكس في تركيبه، وتركيبه يناسب وظيفته، والكلام لا
يعمل على العكس مما تقتضيه طبيعة تركيبه؛ لذلك فالحاجة قائمة
لمعرفة تركيب الكلام. هناك توافق مفترض بين وظيفة الكلام وبين
تركيبه؛ مما يقتضي العقلانية التي نشأ وفقها النحو الخالص عند
سيبويه. مهمة هذا النحو المعرفية هي أن يعرف معرفة علمية ما
يستعمله المتكلمون في حياتهم اليومية؛ لذلك لا يكل ولا يمل سيبويه
من تنويع العبارات التي تشير إلى المتكلم في الحياة الواقعية إلى
حد يمكن فيه أن نستلَّ من الكتاب معجمًا تحيل كلماته إلى إرادة
المتكلم ومشيئته، وظنِّه وإضماره، وإعماله وخياره، واقتصاده في
الكلام، واستفادته من الموقف الحياتي.
تحضر الحياة خلف نحو سيبويه؛ أعني الناس الواقعيين الذين يتكلمون
ويشكلون خلفية الكتاب، وقد انتبه ابن جني إلى هؤلاء وعدَّدهم في
سياق ثنائه على سيبويه وكتابه. يقول: «أحاط بأقاصي هذه اللغات
المنتشرة … كلام الصرحاء والهجناء، والعبيد والإماء … حتى لغات
الرعاة الأجلاف، والرواعي ذات صرير الأخلاف، وعقلائهم والمدخولين،
وهذاتهم والموسوسين، في جدهم وهزلهم، وحربهم وسلمهم، وتغاير
الأحوال عليهم.»
٣٦
ثم جاء ابن جني ليواجه مهمات علمية جديدة، وكتابه الخصائص شهادة
على الطريقة التي أدار بها ابن جني هذه المهمات العلمية الجديدة،
وبوسع المرء الذي قرأ كتاب الخصائص أن يتوصل إلى فكرة عن تأثر ابن
جني بالكتاب لسيبويه. لكن في الوقت ذاته بوسع المرء أيضًا أن يتوصل
إلى فكرة أخرى هي أن ابن جني لم يكن متماهيًا مع سيبويه؛ ذلك أن
ابن جني يهدف أساسًا إلى تطوير برنامج علمي للنحو خاص به. وتكمن
القيمة الأولية لتأملاته في كتاب سيبويه في إزالة الغشاء الذي
غطَّى به النحويون نحو سيبويه حين اعتبروه كتابًا في المعيار
النحوي؛ ليبدو النحو الخالص عند سيبويه يتحدث بلغة العلم في تلك
المرحلة التاريخية من تطور العلوم العربية.
تحدثت الأبواب الأولى من كتاب الخصائص عما لم تتحدث عنه الأبواب
الأولى من كتاب سيبويه؛ كالفصل بين القول والكلام، وتعريف النحو،
والإعراب والبناء. يعرض سيبويه من خلال الأمثلة كقوله: «فأما بناء
ما مضى فذهب وسمع ومكُث وحُمِد.»
٣٧ بينما يعرض ابن جني المفاهيم من خلال عدد من الصفات
المرتبطة بقاعدة ما كالإعراب والبناء. يكمن الاختلاف بين المفاهيم
شبه الطبيعية عند سيبويه وبين المفاهيم الجيِّدة التحديد عند ابن
جني في الفرق بين المفاهيم الأولية التي ترتبط بغموض الكلام في
الحياة اليومية، وما يترتب على الغموض من أن المتكلم لا يستطيع أن
يحدد بيقين فئة المفهوم الصحيحة فيذكر لها أمثلة كما فعل سيبويه،
وبين المفاهيم التي تُحدد بالاستناد إلى مجموعة من السمات كما فعل
ابن جني.
يمكن أن أفهم هذا التحول في إطار المهمات التعليمية الجديدة التي
تسهِّل فهم النحو؛ ذلك أن إنسانًا ما سيسهل تعلُّمه النحو فيما لو
أنه يعرف مسبقًا الفرق بين الإعراب والبناء، ووظائف علامات الإعراب
وهو ما يفهم من قول ابن جني: «ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد
أباه، وشكر سعيدًا أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل والمفعول.»
٣٨ وهكذا فكتاب الخصائص فوق أنه شرح للكلام وما يُقصد منه
إلا أنه أضاف العلل والقياس للتعلُّم.
ربما أشار الفرق بين مفهوم المجرى عند سيبويه وبين مفهوم الحركة
عند ابن جني إلى الفرق بين نحو سيبويه ونحو ابن جني؛ ذلك أن
«سيبويه يفرق بين المجرى والحركة، فالمجرى علامة في آخر الكلمة
تكون بالحركة وغيرها، فهو مرتبط بالتركيب المكوَّن في نظر سيبويه
من عوامل ومعمولات، على عكس الحركة، فهي غير مرتبطة بالتركيب،
وإنما لها علاقة بالحرف فقط.»
٣٩ ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم تحليل ابن جني الأصول
الثلاثة (الثلاثي، والرباعي، والخماسي) وكون الثلاثي أعدلها،
والعلل التي نسبها إلى الحركات في كونه كذلك.
٤٠
إن ما لا يخطر على بال أحد في ضوء مهمات ابن جني العلمية
والتعليمية هو أن يلجأ إلى علل غير علمية لكي يتخلص من مأزق بعض
المعترضين المُفترضين. يقول: «فإن قلت (فما تنكر) أن يكون ذلك
شيئًا طبعوا عليه، وأجيبوا إليه، من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا
لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه؛ بل لأن
آخِرًا منهم حذا على ما نهَج الأول فقال به، وقام الأول للثاني في
كونه إمامًا له في مقام من هدي الأول إليه، وبعثه عليه، ملَكًا كان
أو خاطرًا؟ قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا روسلوا به، أو تيقُّظًا
نُبهوا إليه على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه
فهو أنبه له، وأذهب في شرف الحال به، وانطواء على صحة الوضع فيه.»
٤١
ليس هذا تعليلًا علميًّا؛ إنما هو ظن ورأي رجل حكيم، وحتى لو كان
الرأي هنا صادقًا فلا أحد يسميه معرفة علمية، ذلك أن المعرفة يجب
أن تستند وتتأسس على العقل وليس على الاعتقاد والإيمان. يمكن أن
نسمع الرأي الصادق من خطيب مفوَّه ومتمكن في البلاغة، أو من متنبئ،
أو من حكيم، أو من متصوِّف، وليس من باحث علمي؛ لأن المعرفة
العلمية لا تصدر إلا عن العقل. قد يكون الرأي الصادق أحكم وربما
أفضل إلا أنه فهم لا ينتمي إلى العلم.
ومع ذلك يمكن أن أتفهَّم رأي ابن جني في ضوء دهشته من كلام العرب
التي عبَّر عنها في الباب الذي عقده عن أصل اللغة أإلهام هي أم
اصطلاح؟ وكيف أن فكره «يتغوَّل» وهو يفكر في حال كلام العرب؛
رقَّته ودقته وإرهافه وإحكامه حتى قوي في نفسه «اعتقاد كونها
توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي. ثم أقول في ضد هذا لا ننكر أن
يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف
منا أذهانًا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا، فأقف بين الخلتين حسيرًا،
وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى
الجهتين، ويكفها عن صاحبتها قلنا به.»
٤٢
نعثر هنا على شهادة مؤثرة على الكيفية التي أدار بها ابن جني
مهماته العلمية. تمتمة معذَّبة تصارع من أجل أن تفهم. لماذا هذا؟
الأعراف والتصورات والمفاهيم التي حددها التراث الديني؛ أعني قوله:
«وارد الأخبار المأثورة بأنها (اللغة) من عند الله عز وجل»
٤٣ التي تهدد تفكيره. وقد بقي موقف ابن جني متأرجحًا بين
هذا وذاك؛ أي بين الإلهام (التوقيف) والاصطلاح، وهو تأرجح يشير إلى
التحدي المستمر للمهمة العلمية التي كرس اهتمامه لها، وفِتْنته
العظيمة باللغة العربية.
لم تكن لتخفى على ابن جني الجهود التي بذلها سيبويه وغيره في
بيان جمال اللغة العربية ودقة تراكيبها من منظور غير ديني. يقول:
«من ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنها ما حذوته على
أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما
وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أُسعدوا به، وفُرق لهم عنه.»
٤٤ غير أن ابن جني يشك في إخفاق هؤلاء حينما تُقارن
آراؤهم بقوة الأخبار الدينية. من المؤكد أن ابن جني أدرك أن سيبويه
أستاذ في صوغ المفاهيم أو استعاراتها، وهو السبب في إحالته الدائمة
إليه رغم تعاطفه مع الأخبار والمرويات الدينية التي تحفز دوافعه
الداخلية. وهو ما يجعلني أذهب إلى أن ابن جني رغم علميَّته لم
يُشفَ الشفاء الكامل من أثر الاعتقاد والإيمان في البحث العلمي؛
ذلك أن المرء «عندما يتعافى من ألم أو مرض، فإن الشعور بالألم أو
بالمرض يظل قائمًا بتمامه؛ إذ ليس من البساطة نسيانه.»
٤٥