الفصل الخامس
النحو مدخلًا لتذوق النصوص
أراد عبد القاهر الجرجاني من نظريته في النظم أن تؤدي إلى انهيار
فكرة الإعجاز القرآني عند المعتزلة؛ فكتابه دلائل الإعجاز
١ يكاد يقتصر على رد وإبطال فكرتين هما: تزايد المعاني وعدم
تزايد الألفاظ من ناحية، وأن الفصاحة لا تظهر والكلمات مجردة من السياق
من ناحية أخرى. من هذه الزاوية ارتبط كتاب دلائل الإعجاز بمرحلته
التاريخية، وبمشكلاتها الفكرية، واحتفظ بمقاصده النقدية والسجالية، وما
قبله من أفكار وما رفضه. والنصوص التي استشهد بها عبد القاهر الجرجاني
إما ليدحضها أو يستند إليها تعطي فكرة عن اختلافه عن نحويي
عصره.
غير أن عمل عبد القاهر الجرجاني الأكبر لم يكن هذا، إنما يوجد في
كتابه على نحو ضمني. وسأكتفي هنا بإجمال ما سأفصله فيما بعد؛ فعبد
القاهر الجرجاني عرض في كتابه برنامجًا لقراءة الكلام الجميل والكلام
المعجز، وهو ما عسَّه — مجرد عس — مصطفى ناصف حينما أشار إلى أن عبد
القاهر الجرجاني أراد أن يحرِّض الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر
العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات؛ وإذ ذاك يجدون أن الشعر «البسيط»
سيكون مثقلًا بالمزايا.
٢
توجد هذه الفكرة الكبرى بشكل ضمني، لكنها ليست فكرة مكتملة؛ فلم يكن
من الممكن تأسيس هذه الفكرة وإظهارها مكتملة في كتاب مرتبك كدلائل
الإعجاز، وهو ما لاحظه محقق الكتاب بحق، وأشار إلى فكرة تهم موضوعي
هنا؛ وهي أن عبد القاهر لم يبنِ كتابه هذا بناء يؤسس علمًا جديدًا
مثلما فعل سيبويه في الكتاب، وابن جني في الخصائص اللذين شكَّلا مضمون
الفصلين السابقين من هذه التأملات الاستقصائية لتطور مفهوم النحو
العربي من جهة تطور مفهومه. لقد أراد الجرجاني أن يكون النحو علمًا
شاملًا لوصف الكلام وتأويله وتذوقه، وأراد من كتابه دلائل الإعجاز أن
يكون دليلًا للإعجاز يستند إلى النحو أداة لتذوق الكلام الجميل
والمعجز.
مشكلة العلوم التي ساهمت في معنى أسئلة الجرجاني
نقَد عبد القاهر الجرجاني علمي البيان وعلم النحو في عصره،
واستند في نقده إلى أن هذين العلمين تحولا إلى مُشكلة؛ لأنهما لم
يعودا علمين ينتميان إلى العقل؛ فعلم البيان من حيث كونه علمًا
يقوم على المفاهيم البلاغية لم يعد من وجهة نظر الجرجاني سوى خبر
واستخبار، وأمر ونهي.
٣ هذا من ناحية العلم، أما من ناحية عالم البيان فلم يعد
سوى مجموعة صفات كأن يكون جهير الصوت، جاري اللسان. أما من حيث
الأسلوب والطريقة، فلم يعد علم البيان سوى استعمال اللفظ الغريب،
والكلمة الوحشيَّة. والمأخذ الذي يأخذه عبد القاهر الجرجاني على
علم البيان، ويأخذه على العالم الذي يشتغل على البيان هو أن علم
البيان والعالم به أصبحا جهلًا؛ «لأن هناك دقائق وأسرارًا طريق
العلم بها الرويَّة والفكر، ولطائف مستقاها من العقل.»
٤
يفترض نقد الجرجاني علم البيان وعلماءَه وأسلوبه عالمًا يوجد فيه
الناس بكيفية واعية؛ فهناك إنجازات علمية سابقة من المفترض أن
تندمج في أفق الزمان ومرحلته الزمنية، وأن تُستعاد وتنقل من جديد.
كان على جيل علماء البيان آنذاك أن يفهموا ويستوعبوا إنجازات علم
البيان السابقة، لكنهم نسوا تلك الانجازات أو صرفوها عن جهتها. وفي
النتيجة وبالتعالق مع ذلك الزمان الذي هجاه الجرجاني هجاءً مُرًّا
من جهة إحالته الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها «صار
أعجز الناس رأيًا عند الجميع، مَن كانت له همة في أن يستفيد علمًا
أو يزداد فهمًا».
٥ وقد جاء الوقت ليعيد عبد القاهر الجرجاني إلى علم
البيان مشروعيته. وفي هذا الإطار أفهم فاتحة دلائل الإعجاز التي
خصصها لمكانة العلم.
المجال القابل للكشف كمجال من مجالات النحو
ما تعرض له علم البيان تعرض له علم النحو؛ حتى إن الناس بما فيهم
علماء النحو أنفسهم تهاونوا به، وصغروا أمره، وقد اعتبر الجرجاني
هذا صدًّا عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه. تكمن قيمة النحو عند
الجرجاني في أنه يفتح المعاني، ويُعْرف به جميل الكلام من قبحه،
ويرجع إليه في معرفة تركيب الكلام الجميل والكلام المُعْجز، وما لم
يُعلم هذا فهو نقص في علم النحو، وغَبْن لعلمائه؛ ذلك أن النحو ليس
معرفة زائدة ومتكلَّفة، أو اشتغالًا بالفكر فيما لا يفيد.
٦
لكن ماذا لو كان النحو كذلك؟ يعترف عبد القاهر الجرجاني بأن ذلك
قد يكون، لا سيما في التمرينات التي يضعها النحويون في بعض مسائل
النحو والصرف كالتصريف، والتدريب على القياس، وذكر العلل في أبواب
النحو. ومن هذه الجهة قد يُعذر العلماء في قولهم إن النحو معرفة
متكلَّفة، واشتغال في الفكر بما لا يفيد، لكن النحو أكثر من ذلك،
وقد حرموا من أن يفهموه. غير أن ما لا يُعذر فيه علماء النحو، وما
لا يرضاه العقل عند عبد القاهر الجرجاني هو ألا يحتاج الكلام
الجميل كالشعر والكلام المعجز كالقرآن النحو مفتاحًا لفهمهما
وتحليلهما وتذوقهما.
إن ما أغاظ الجرجاني وهو العالم في النحو أن علماء النحو في
زمانه الرديء، كما وصفه، يكثرون من غير أن يحصِّلوا. وفي إشارة إلى
الأهمية الكبرى لإنجازات النحو السابقة التي يجهلها علماء النحو في
عصره يقول: «يحسِّن (عالم النحو) البناء على غير أساس، وأن يقول
الشيء لم يقتلْه علمًا.»
٧ ويمكن أن أشرح تعبيره (يحسِّن البناء على غير أساس)
بصقل النموذج العلمي النحوي، وتشذيبه، وأن أوضح تعبيره الآخر
(القتْل) بتجاوز النموذج العلمي النحوي؛ ذلك أن القتل مجاز للتجاوز
كما لو قلنا قتل الجرجاني سيبويه دراسة وبحثًا.
إذا ما أردت أن أوصل هذه التمعُّنات التي تتعلق بإنجازات علم
النحو قبل الجرجاني، فإن الكلام المُعجز كالقرآن والكلام الجميل
كالشعر لم يسبق أن كانا مجالًا لتحليل النحو. والنحاة السابقون
الذين يلجئون إلى القرآن، أو إلى الشعر العربي القديم، إنما كانوا
يلجئون إليهما ليستشهدوا بهما على أصالة التركيب العربي؛ فحينما
يورد سيبويه في الكتاب، أو ابن جني في الخصائص آية قرآنية أو بيتًا
من الشعر، فإنهما يوردانهما من حيث هما شاهدان على مخطط العرب في
كلامها، وليس من جهة جمال الشعر العربي، أو إعجاز القرآن.
لماذا بقي مجال الكلام الجميل والمعجز خفيًّا على النحو في
إنجازاته السابقة؟ لماذا لم يثر إحساس النحويين بجمال الشعر
العربي، وإحساسهم بإعجاز القرآن اهتمامًا نظريًّا يكون مدخله
النحو؟ يتعلق الأمر هنا بوظيفة أيديولوجية؛ فلو اقتصرت هنا على
قراءة القرآن بما أنها قراءة تكاد تكون من نشاطات عالم النحو
المسلم اليومية، سيكون مفهومًا أن علمًا بالنحو يعني فقط ضبط أواخر
كلمات القرآن لكي يُفهم المعنى؛ أي إن قراءة النحوي اليومية للقرآن
لا تعطي أي فكرة عن عمق القرآن؛ لأنها قراءة إيمان لا تتيح مجالًا
إلا للأيديولوجيا. تعطي قراءة النحوي القرآن بعين الإيمان بعدًا
يهتم بالصحة والخطأ، ولا تعطيه بعدًا يتعلق بتشكيل نظري لفكرة
إعجازه.
لماذا هذا الوقت المتأخر لكي ينتبه عبد القاهر الجرجاني إلى أن
النحو يمكن أن يكون مدخلًا لفكرة إعجاز القرآن؟ يتعلق الأمر
بموضوعٍ، وبميدان معرفة ممكنة كان محجوبًا. لقد عبَر الجرجاني
بفكرة النحو المتعلقة بكلام البشر، إلى فكرة نحو تتعلق بكلام ما
فوق البشر. من الإنسان المتكلِّم إلى الله المتكلِّم والعبور هنا
عقلي؛ فالنحو مدخلًا لفهم كلام الله تعليل لجهل البشر وقصورهم،
وإبطال لفكرة القائلين بالصرفة؛ فالله لم يمنع الناس من أن يأتوا
بمثل كلامه، بل هو عجز البشر أمام مزايا كلام الله وخصائصه. عجز
العرب عن محاكاة القرآن نتج عن الدهشة التي أخرست ألسنتهم، وهو ما
أفهمه من كلام الجرجاني الآتي: «وجدوا اتساقًا بهر العقول، وأعجز
الجمهور، ونظامًا واتساقًا، وإتقانًا وإحكامًا، لم يدع في نفس بليغ
منهم، ولو حك بيافوخه السماء، موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن
تدَّعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول.»
٨
مثلما تولَّد عن دهشة اليونان تركيب نظري دُعي فيما بعد
بالفلسفة، تولد عن دهشة العرب من القرآن تركيب نظري هو نحو عبد
القاهر الجرجاني. يتضح معنى الدهشة فيما لو اعتبرناها المصدر
العقلي لنظرية النظم؛ فالجرجاني أورد دهشة العرب وأقوالهم وعلق
عليها في مناسبتين على الأقل. صحيح أن الجرجاني لم يحدد ما يعنيه
بالانبهار والهيبة والروعة، إلا أننا يمكن أن نفهم الدهشة على أنها
ردة أفعال العرب تجاه الخارج عن المألوف، وإلى هذه الدهشة تنتمي
ردة فعل الوليد بن المغيرة التي أوردها الجرجاني ردود فعل أخرى
ذكرها، ونسبها إلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والجاحظ؛
حيث ردود الأفعال تجاه الجليل والعظيم والجميل.
التعبير الذي يستخدمه الجرجاني للدهشة هو الإزعاج في قوله:
«والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم.»
٩ بالفعل كما هو الانزعاج الدهشة انفعال غير مستحب،
ومزعج، وتعب للمخيلة، وحيرة، وقلق، وحب اطلاع، واضطراب عنيف، ومرض
قاسٍ للنفس.
١٠ لكن الأهم في هذا الذي يبدو موقفًا سلبيًّا من الدهشة
هو إيجابي في دلالته على أن التأمل ينشأ بسبب من الدهشة، وأن
التأمل في الجميل والعظيم والجميل والرائع يحدث بدافع داخلي تعبر
عن حاجة أصلية وأصيلة للفكر البشري، وأن الحاجة إلى المعرفة حاجة
إنسانية أساسية، وأن الإنسان يريد أن يفهم بحافز ذهني محض كما فعل
الجرجاني حين جعل من النحو كاشفًا عن الكلام الجميل
والمعجز.
الفرق بين الكلام بعامة والكلام الجميل والكلام
المُعْجز
أعني بالكلام بعامة الكلام الذي يصفه النحو كما هو عند سيبويه،
وهو معروف أكثر من الكلام الجميل. أعني بالكلام الجميل الحديث
النبوي والشعر العربي في نماذجه العُليا، وهذا بدوره معروف أكثر من
الكلام المعجز. أعني بالكلام المعجز القرآن، وسوف أستخدم هذه
المفاهيم فيما سيلي.
يُعرف الكلام بعامة في نمطيته المألوفة في الحياة اليومية،
ويكتفى بمعرفته لفائدته العملية. وهي فائدة تكفي البشر لأن يمارسوا
حياتهم اليومية. وقد تأسَّست على هذا الكلام معرفة النحو الوصفية.
غير أن الكلام الجميل كالشعر العربي أتاح للنحو العربي مهمة علمية
مختلفة؛ لكنها مهمة مرتبطة بمعرفة الكلام بعامة. وعلى حد ما أعلم
لم يتساءل أحد قبل عبد القاهر الجرجاني كيف تكون معرفة النحو
الوصفية للكلام بعامة قاعدة تحتية لمعرفة الكلام الجميل. سؤال عبد
القاهر الجرجاني هو: كيف يمكن أن تُنجز هذه المهمة العلمية التي هي
من نوع مختلف عن مهمة معرفة الكلام بعامة؟ وفق عبد القاهر الجرجاني
تُنجز المهمة بأن تتحدد فكرة الكلام الجميل من خلال مستواه اللغوي
الذي يأتي فوق المستوى اللغوي للكلام بعامة؛ حيث وظيفة الكلام
بعامة هي إنجاز حاجات عملية من غير أي تأويل إلا بما يتعلق
بالإنجاز العملي. في مقابل هذا لا يتوقف الكلام الجميل على الإنجاز
العملي، إنما يتوقف على الإنجاز الجمالي.
يتكون الكلام بعامة من اللفظ والمعنى، بينما يتكون الكلام الجميل
من اللفظ والمعنى والصورة. إن الجهل بالعنصر الثالث؛ أعني الصورة
هو عند عبد القاهر الجرجاني سبب الجهل بالكلام الجميل، وقد ترتب
على هذا من وجهة نظره الإعلاء من شأن اللفظ. أما العلم بالصورة فهو
سبب المعرفة بالكلام الجميل، وقد ترتب على هذا إعلاء شأن اللفظ على
أنه الصورة التي تحدث في المعنى، وهو ما يُفهم من كلام الجرجاني
التالي: «لما جهلوا شأن الصورة، وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على
قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث، وإنه إذا كان
كذلك وجب … أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وألا يكون
لها مرجع إلى المعنى.»
١١
يأتي الكلام المُعجز فوق الكلام بعامة وفوق الكلام الجميل. لا
تعني «فوق» الانفصال عنهما، إنما تعني أنه أعلى في القيمة. يستمد
الكلام المعجز من الكلام بعامة والكلام الجميل ما هو ضروري لتحقيق
أهدافه. تشترك هذه الأنواع الثلاثة من الكلام في التركيب، لكن
تركيب الكلام بعامة يتمايز عن النوعين الآخرين تبعًا للموقف
التواصلي، والموقف الجمالي. قد يخرج الكلام الجميل إلى التملُّق
والمبالغة والكذب، وإلى ما يُعجب ويطرب؛ لذلك يأتي الكلام المُعجز
فوقه من حيث القيمة فهو لا يتملَّق، ولا يبالغ ولا يكذب، وهو صادق
من الوجهة التاريخية. ليس هذا فحسب، إنما هو الكلام الصادق. لا
يريد الكلام المُعجز أن يحظى بإعجاب البشر مثلما يسعى الكلام
الجميل، إنما يريد أن يخضعهم، ولا يريد أن يُنسي البشر واقعهم كما
يفعل الكلام الجميل، إنما يريد من البشر أن يلحقوا واقعهم به. من
هذا المنظور لا يوصف الكلام المُعجز بأنه فن مثلما نقول فن الشعر،
إنما هو تعليمات ووعد ووعيد … إلخ. يهدف الكلام المعجز إلى طاعة
قائله المطلقة، يتجلى ذلك في الموقف الذي يمكن أن يكون فيما لو شكك
البشر فيه، أو خالفوا تعليماته.
الكلام المُعجز كمجال قابل لأن يُفهم، والنحو كتركيب نظري
لإعجازه
وعى عبد القاهر الجرجاني ما يجعل من الكلام الجميل كلامًا
مُعجزًا. سأكتفي هنا بتوقفه عند كلمة (قلب) في الآية القرآنية:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ،
١٢ أي لمن أعمل قلبه فيما خُلق القلب له من التدبر
والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر إليه. فهذا على أن يُجعل الذي
لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر، كأنه قد عُدم القلب من حيث
عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه، كما
يُجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا
يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له
ولا بصر.
١٣
تكمن فائدة هذا الاستشهاد الطويل في الأسئلة التي تثيرها بعض
عباراته. ما الفائدة التي تُرجى من عمل القلب؟ ما المطلوب من
القلب؟ ما الذي ينبغي أن ينظر فيه القلب؟ ما الذي خُلق من أجله
القلب؟ كيف يُنتفع بالقلب؟ لا يورد عبد القاهر الجرجاني سوى إجابة
واحدة هي: الإيمان؛ ذلك أن القلب يتدبر ويتفكر وينظر لكي يؤمن.
والعلاقة التي يقيمها بين القلب الذي لا يُنتفع به من ناحية،
والسمع والبصر اللذين لا ينتفع بهما من ناحية أخرى تستحضر آيات
قرآنية أخرى تربط بين عدم الإيمان وقفل القلوب وصم الآذان، وعمى
العيون والقلوب. «القلب» في الآية ليس بمعنى «العقل» إلا في حالة
واحدة، حين يُراد بالقلب ما يسميه الجرجاني بالدلالة على الغرض
بالجملة؛ عندئذ يكون القلب بمعنى العقل؛ ذلك «أن المراد به (القلب)
الحث على النظر، والتقريع على تركه، وذم مَنْ يخل به ويغفل عنه،
ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته.»
١٤ ما الطريق الذي قدمه الجرجاني؟ ما قدمه هو: «أصول
النحو جملة، وكل ما يكون النظم دفعة … (و) معلوم أن ليس النظم سوى
تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسببٍ من بعض.»
١٥
يمكن أن نفهم هذه العبارة على النحو التالي: النحو عند الجرجاني
علم، بينما النظم ممارسة خاصة للنحو. النحو من حيث هو علم قابل
للتعلُّم، بينما النظم من حيث هو ممارسة خاصة للنحو تعلُّم للنحو
وتدرُّب عليه في آنٍ. بإمكان أي أحد أن يتعلم النحو ويبرع في
تعلُّمه إلى حد يطلق عليه علامة في النحو، لكنه لا يستطيع أن
يستخدم ما تعلمه في النحو في تحليل الكلام الجميل والكلام المعجز؛
لأنه لم يتدرَّب على تشغيل النحو بما يكفي.
النحو كتركيب نظري والنظم كممارسة عملية
يجد النحو كنظرية والنظم كممارسة أساسهما في مضمون الكلام
المعجز؛ انسجام البشر في حياتهم اليومية مع مضمون الكلام المعجز
يحتاج إلى التأويل. بمقتضى هذا الانسجام تنشأ علاقة بين حياة البشر
اليومية وبين معنى العالم الذي يريد الكلام المعجز أن يبنيه للبشر.
قد ترد تعاليم الكلام المعجز غامضة أو منصهرة في القول بكيفية لا
تقبل الفصل مما يقتضي الأمر التأويل والتنقيب. من هذا المنظور أفهم
خلاصة الجرجاني التالية: «أن تقول «المعنى» و«معنى المعنى»، تعني
بالمعنى المفهوم الظاهر من اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة،
وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يفضي بك ذلك إلى معنًى آخر.»
١٦ معنى «أن تعقل» في عبارة الجرجاني «الاستنتاج العقلي»،
ويتضح من تحليلاته أنه يستند إلى تصور يبدأ من الكل، ثم يستنتج
نوعية العلاقات في ذلك الكل، ويسمي هذا «توخي معاني النحو». وقد
قادته طريقته في التحليل إلى أن يصل إلى تصور يمكن صياغته على
النحو التالي: يجب أن يحظى الكل بأهمية أكبر من الجزء، وأن يُضحى
بالأجزاء لتتراجع إلى مكانة ثانوية. بصياغة أخرى: أن يحظى تركيب
الكلام بأهمية أكبر من الكلمات التي تكوِّنه؛ لتكون الكلمات في
مرتبة ثانوية.
لقد حلَّل الجرجاني الكثير من التراكيب. سأكتفي هنا بأن أدرج
تحليله الآية القرآنية الكريمة
وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ
الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ
وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
١٧ يقول: «فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع،
أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر
يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وإن لم يعرض لها الحسن
والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا
إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها.»
١٨ تبنى الجرجاني هذه الطريقة؛ أعني توخي معاني النحو
وعبر عنه بالنظم، وهي طريقة تتضمن فرضية هي: أن ترى الجزء متناسقًا
في الكل الذي هو عبارة عن أجزاء متناسقة ومتجانسة.
الإمكانية العلمية والوصفية للنظم كتوخٍّ لمعاني النحو
لكي يحل الجرجاني مشاكل النظم بدأ بنقد مفهوم اللفظ كما فُهم
آنذاك، ونقد القائلين بتفاضل الألفاظ المفردة، وخلص إلى أن
«الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم
مفردة، وأن الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي
تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ.»
١٩ سأشير هنا إلى أهمية أمر عام يورده الجرجاني بالنسبة
إلى ما هو أعم منه؛ أعني تفريقه بين «الحروف المنظومة» وبين «الكلم
منظومة»؛ ذلك أن نظم الحروف يعني عند الجرجاني مجرد تواليها في
النطق، وليس بمقتضى دلالتها على معنًى، بينما «كلم منظومة» يعني
اقتفاء الألفاظ آثار المعاني وترتيبها على حسب ترتُّب المعاني في
النفس.
لا يوجد دور للمتكلم في «نظم الحروف»؛ لأن هذا الدور أُنيط قبلًا
بواضع اللغة، وبتعبير الجرجاني «ولا الناظم لها (المتكلم) بمقتفٍ
في ذلك رسمًا من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تتحراه. فلو
أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي
إلى فساد».
٢٠ وعلى العكس من هذا، فإن المتكلم أُنيط به الدور في
«كلم منظومة» حيث يبني الكلام بمقتضى العقل، وهو ما يشير إليه
الجرجاني بقوله: «مما يوجب اعتبار الأجزاء مع بعضها حتى يكون لوضع
كلٍّ حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح.»
٢١ ولكي يرسخ الجرجاني دور المتكلم، يستعير مفاهيم من
مجالات الفنون الجمالية العملية كالنسج والصياغة والوشي والتحبير
ليرسِّخ دور المتكلم.
يتقصى الجرجاني عناصر اللفظ — المعنى — الصورة. يجب في المقام
الأول ألا يُفهم اللفظ على أنه مجرد «نطق اللسان، أو ما يسمعه
المتكلم، أو من حيث هو كلمة مجرَّدة». ويجب في المقام الثاني ألا
يكون المعنى بتعبير الجرجاني غُفلًا وساذجًا، ثم في المقام الثالث
الصورة التي تحدث في المعنى ويشرحها بعبارات «لفظ متمكِّن غير قلق
ولا نابٍ في موضعه» و«طبقًا للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص»
و«ألفاظه قوالب لمعانيه» أو «لفظ ليس له فضل عن معناه».
٢٢
ترتب على عناصر الجرجاني الثلاثة (اللفظ - المعنى - الصورة)
نموذج علمي لنظرية النظم. استُخدم النموذج هنا بمعنى الاسم؛ أي من
حيث هو يمثل الكلام وعلاقات أجزائه. وبمعنى الفعل من حيث هو يوضح
ويشرح ويفسر تركيب الكلام. وبمعنى الصفة؛ أي من حيث أن هذا النموذج
لا يمكن أن يُبدَّل شيء فيه، لكي يعمل على أكمل وجه.
٢٣ ولكي يبني الجرجاني هذا النموذج انطلق من الكلام
الجميل والكلام المعجز الموجودين من قبل؛ إذ لو لم يكونا موجودين
ما أمكن أن يفكر في مثل هذا النموذج الذي سعى إلى أن يكون على أكبر
قدر من التماسك. هذا النموذج تُقاس فاعليَّته بمدى قدرته على أن
يستوعب الكلام الجميل والمعجز، وقدرته على أن يستمر، وأخيرًا قدرته
على أن يمثل ما أراد الجرجاني أن ينمذجه. قلب هذا النموذج هو مفهوم
الفصاحة في كونها مرتبطة باللفظ المفرد؛ أي إن فصاحة الألفاظ
وتفاضلها لم تعد من منظور هذا النموذج مرتبطة بألفة اللفظ
واستعماله أو غرابته ووحشيَّته، أو بخفة حروفه؛ إنما الفصاحة حيث
يقع اللفظ في التركيب، والنظر إلى مكانه من التركيب، وحسن ملاءمة
معناه لمعاني الألفاظ المجاورة له، وبتعبير الجرجاني: «تناسق دلالة
الألفاظ وتلاقي معانيها على الوجه الذي يقتضيه العقل.»
٢٤
هنا يجب أن أنبِّه إلى أن هذا المعنى الخاص للفصاحة يتعارض مع
المعنى التقليدي الذي عُرف آنذاك؛ فالنظم من حيث هو توخي معاني
النحو يخضع لتوجيه التركيب؛ أعني يخضع لبناء نظري كأن يُعمد إلى
اسم فيُجعل فاعلًا أو مفعولًا، أو إلى اسمين فيُجعل أحدهما خبرًا
عن الآخر، أو يُتبع الاسم فيكون صفة للثاني أو تأكيد له أو بدلًا
منه، أو أن يؤتى لاسم بعد تمام الكلام صفة أو حالًا أو تمييزًا.
ولا يقتصر هذا المفهوم على الأسماء، إنما أيضًا على الأفعال
والحروف. أركز هنا على الحروف؛ ذلك أن حرفًا لا يعمل لم يكن نحو
سيبويه ليتوقَّف عنده مثلما فعل عبد القاهر الجرجاني في الباب الذي
عقده ﻟ إنما.
وفر الانتقال من معنى الفصاحة المرتبط باللفظ إلى معنى الفصاحة
المرتبط بالتركيب معارف جديدة مثلما حدث مع الحروف غير العاملة،
وهي معارف ستؤدي عند تأمينها بفكرة النظم إلى إعادة صياغة جذرية
لفهم الكلام الجميل والمعجز. ولغرض هذا التأمين شرع الجرجاني في
تمعُّنات شغلت الجزء الأكبر من الكتاب. سأكتفي هنا بالإشارة إلى ما
عقده للتمعُّن في التقديم والتأخير والحذف والخَبر والفصل والوصل
والعطف والحال والقصر والاختصاص.
ظهور مشكلات غير قابلة للحل وضعت النظم موضع سؤال
غير أن تمعُّنات الجرجاني سرعان ما تعرضت إلى مشكلات لم يكن
الجرجاني نفسه ينتظرها، وهي مشكلات أرى أنها تضع مشروع الجرجاني
موضع سؤال. تكمن المشكلة الأولى في إعراض النظم عن الكلام بعامة
الذي ينشأ في موقف الحياة اليومية، وعن حاجة عملية يسعى البشر
بواسطته إلى أن يلبوا حاجاتهم، وأن يؤمِّنوها. وقد ترتب على هذا أن
فقد النحو مهمته الأولى؛ أعني أن يصف ويحلل الفروق الشكلية من غير
أن يكون المعنى مركز ثقل التحليل؛ ذلك أن المعنى في الظروف العادية
يعود إلى المتكلم الذي يميِّزه، والمخاطب الذي يفهمه. ما نواجهه
هنا هو الفرق بين النحو الذي يقوم على أساس الكلام بعامة في تجربة
الحياة اليومية، وتصنيفه واستقرائه كما هو عند سيبويه، في مقابل
النحو الذي يقوم على أساس الكلام الجميل والمعجز وقراءته من أجل
معناه.
تظهر مشكلة أخرى وهي أنه بمقتضى النظم الذي يتوخى معاني النحو
يتساوى الكلام بعامة في خبرة الحياة اليومية مع الكلام بنوعيه
الجميل والمعجز، فيتساوى التقديم والتأخير في الكلام بعامة مع
التقديم والتأخير في الكلام الجميل والكلام المعجز. والمشكلة هنا
تكمن في أن الجرجاني لم يشعر بالمسافة التي افترضها بين الكلام
المعجز وبين نوعي الكلام الآخريْن. وأكثر من هذا أنه جعل من الكلام
المعجز الذي حلله أقل روعة مما كنا نعتقد. ليس الكلام الجميل أو
المعجز موضع فهم فحسب مثلما أراد أن يبرهن لنا الجرجاني؛ إنما
أيضًا موضع حب أو كره أو احتفاء … إلخ. وكلام البشر جميلًا كان أم
كلامهم اليومي أبعد مما يمكن أن يعرف به كتاب؛ ذلك أن الحوار
الحقيقي تجربة الحياة اليومية يوصل إلى أفكار لم يكن أحد المتكلمين
ليتعرف عليها هو نفسه فيما لو كان وحيدًا، وربما لا يستطيع؛ لأن
كلام البشر مدفوع بالآخر.
ومع هذا، ورغم كل المشكلات التي أفضت إليها نظرية النظم إلا أن
عبد القاهر الجرجاني عرف كيف يجعل نحو سيبويه أسلوبًا للتفكير في
النصوص الجميلة والمعجزة. لقد عثر الجرجاني في نحو سيبويه على جوهر
فكرته الخاصة عن النظم. ويمكن أن ننظر إليه على أنه مفهوم تحليلي
داخل مفهوم النحو من حيث هو مفهوم وصفي. لقد كان للجرجاني الفضل في
كونه دسَّ الفكرة القائلة بأن يكون النحو مدخلًا لتذوق الكلام في
الفكرة القائلة بأن يكون النحو وصف الكلام.