لقد بدا لنا إلى الآن أن السؤال عن مفهوم النحو محرج، وهو عند النحاة
أكثر إحراجًا من سؤال مفهوم الشعر عند النقاد العرب القدماء؛ فكما
رأينا فإن معنى مفهوم النحو أكثر من أن تحدده إجابة واحدة. وقد ترتب
على هذا أن مسألة مفهوم النحو وضعت وجود النحو ذاته من حيث هو علم موضع
سؤال؛ فعلم النحو يجب أن يجيب عما يجب أن يفعله النحو؛ لكن النحو إلى
الآن عاجز عن ذلك بسبب عجز المفهوم عن أن يحدد ما هو المتناثر بين
المشاريع النحوية التي توقفنا عندها.
عجز مفهوم النحو هو مدخل ابن مضاء في كتابه «الرد على النحاة»،
١ ومحاولة فهم هذا الكتاب ضرورية ومفيدة. وكما سنرى فيما
يتلو سينصب معظم اهتمامي على تصور ابن مضاء لمفهوم النحو، وسأنتقي
المسائل ذات العلاقة بمفهوم النحو؛ لذلك سأكون مؤولًا وليس عارضًا،
وسآخذ في الاعتبار فاتحة الكتاب من منظور يبرز بنية الكتاب العامة التي
قادت إلى ما اعتبره ردًّا على النحاة. وسأفكر انطلاقًا منها من غير أن
أدير بالًا للمظهر البدائي الذي تتخذه أفكار الكتاب.
يبدأ ابن مضاء نقاشه بالثناء على النحاة وعلى نواة مفهوم النحو
الأولى؛ أعني حفظ كلام العرب من اللحن، وصيانته عن التغيير،
٢ إلا أنه يتحفَّظ على ما هو أكثر من حفظ وصيانة اللسان؛ فمن
وجهة نظره أن النحاة «التزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزا فيها (الحجج
النحوية) القدر الكافي فيما أرادوه منها، فتوعرت مسالكها، ووهنت
مبانيها، وانحطت عن رتبة الإقناع حججها.»
٣
حين يقول ابن مضاء: إن النحاة ألزموا أنفسهم بما لا يلزم فهو لا ينكر
جهدهم؛ إنما يثني عليه؛ فجهدهم من وجهة نظره «بلغ الغاية التي أمُّوا،
وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا.»
٤ غير أن ما بعد هذا المطلوب هو ما بعد الغاية والمطلوب حين
ألزم النحاة أنفسهم بما لا يلزمهم به علم النحو. في الواقع فإن هذا
الإلزام لا يزيد عند ابن مضاء عن «الزجاج الذي صفا حتى ظُن زبرجدًا،
والنحاس الذي عولج حتى حُسب عسجدًا.»
٥ وأنه هو مَن سيبين للنحويين أن زجاجهم «لا يثبت للنار ولا
يصبر عليها».
٦ وبذلك فهو يظن أن عرضه سؤال ما النحو؟ لا تنقصه
الوجاهة.
وحدة مجال النحو عند ابن مضاء
يمكن لابن مضاء أن يجيب عن سؤال النحو «ما النحو؟» بأن يبرز وحدة
مجال النحو من حيث هو علم بالرغم من تعدد إجابات النحاة العلمية،
وذلك بأن يجعل من النحو نظرية عامة تحفظ كلام العرب وتصونه من
التغيير، وما عدا ذلك فيجب من وجهة نظر ابن مضاء أن يُتخلص منه،
ذلك أن قصده من مكتوبه كما سماه أن يحذف من النحو «ما يستغني عنه النحو».
٧
غير أننا إذا ما أمعنَّا النظر سنجد أن وحدة مجال النحو التي
حددها ابن مضاء؛ أعني حفظ كلام العرب، وصيانته من التغيير، ليست
أكثر من تواطؤ بين النحاة، فبين أن يكون النحو كذلك، أو أن يكون
أكثر من ذلك، يبدو لي أن ما هو أكثر من أن يكون النحو حفظًا لكلام
العرب، وصيانة له من التغيير هو الذي يجعل من النحو علمًا. لا يمكن
أن يكون النحو علمًا تطبيقيًّا يحفظ كلام العرب، ويصونه من
التغيير، من دون الإطار النظري الذي نقده ابن مضاء. ثم إن فكرة حفظ
كلام العرب ليست أصيلة إنما مكتسبة، وقد اتضحت مع أبي الأسود
الدؤلي. وهي فكرة أعقبت مرحلة أولية من اللاتحدد، ومن تكافؤ يستطيع
النحوي أن يفترض مصيرًا، وسيرورة تتساوى فيها إمكانات ما يمكن أن
يكون النحو، ولقد اختار أبو الأسود الدؤلي أن يكون النحو على ما
عرفناه عنده.
قلة خبرة ابن مضاء بأعراف العلم
هناك حالة محتملة في كتاب «الرد على النحاة» تستحق أن تخضع
للتأمل والتحليل، وهي قلة خبرة ابن مضاء بأعراف العلم، وبوجه
الخصوص تلك الأعراف التي تخص علم النحو، وهي بطبيعة الحال أعراف
علمية عامة؛ ذلك أننا نعتقد أن عالم النحو العربي شخص يدرس اللغة
العربية بدلًا من أن يدرس القضايا التي تتعلق بالله والعلاقة
بالإنسان. يقول: «وأما القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضًا؛ فباطل
عقلًا وشرعًا، لا يقول به أحد من العقلاء … فإن قيل: بمَ يرد على
مَنْ يعتقد أن معاني هذه الألفاظ هي العاملة؟ قيل: الفاعل عند
القائلين به إما أن ينفعل بإرادة كالحيوان، وإما أن ينفعل بالطبع
كما تحرق النار ويبرد الماء، ولا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعل
الإنسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى، كذلك الماء والنار وسائر ما
يفعل … وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها قائل، لا ألفاظها ولا
معانيها؛ لأنها لا تفعل بإرادة ولا طبع.»
٨ قال ابن مضاء: هذا القول في سياق دعوته إلى إلغاء
نظرية العامل. وهو قول يُذكر بالقارئ الذي لا يصدق أن الحيوانات
تتكلم في الحكايات كحكايات كليلة ودمنة. ما ينقص هذا القارئ الذي
لا يصدق هو أن يتعاون مع حكايات كليلة ودمنة لكي تكون فنًّا. لا
يختلف ابن مضاء عن هذا القارئ؛ فهو لا يتعاون مع نظرية العامل لكي
يكون النحو علمًا، ولأنه كذلك فهو لا ينظر إلى العامل من حيث هو
«مفهوم ذهني يفسر علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة».
٩
لماذا نقل ابن مضاء مفهوم
العامل من مجال الذهن إلى مجال الواقع؟ يجيب نصر حامد أبو زيد بأن
ابن مضاء نقل موقفًا أيديولوجيًّا من مجال النصوص الدينية
(الظاهرية) إلى مجال الدرس اللغوي.
١٠ قد يكون هذا صحيحًا، لكن ما أميل إليه هو ضعف ابن مضاء
في التعامل مع أعراف العلم. معرفة ابن مضاء بالنحو، وتبحره في
الدين الذي جعل منه قاضيًا، وخبرته بالعالم الذي يعيش فيه لا تكفي
لجعله مدركًا لآليات العلم وأعرافه؛ لا لأن ابن مضاء لا يفهم أو لا
يدرك أو لقصور في لغته أو فهمه، إنما لابتعاده عن مجال العلم وهو
القاضي والفقيه والدارس لعلوم الدين التي تختلف أعرافها عن أعراف
العلم. وما ذكره عن مفهوم الفاعل النحوي من أن الله هو الفاعل عند
أهل الحق (المعتزلة)، وهو فاعل فعل الإنسان وسائر الحيوان يشير إلى
أن خبرة ابن مضاء القاضي في التعامل مع العلم قليلة، وفكرته عن
الكيفية التي يكون بها العلم علمًا ضعيفة. لا يمكن بحال من الأحوال
أن أنكر تمكُّن ابن مضاء من النحو، لكنه تمكُّن القاضي والفقيه
الذي يعرف النحو لكنه لا يعيه من حيث هو علم له أعرافه العلمية
المختلفة عن أعراف علم الفقه. لا بد أن يُفهم جيدًا تشبيه ابن مضاء
بالقارئ الحقيقي؛ ذلك أن القارئ الحقيقي يفرق بين ما يجري في
الحكاية وما يجري في الواقع. فلو أن حكاية أوردت أن جنيًّا قطع
مسافة بين المغرب والمشرق في غمضة عين فلن يصدق؛ لأنه قليل خبرة
بالفرق بين الفني والواقعي. وكذلك ابن مضاء فيما يظهر لي؛ فهو يخلط
بين النظري والعملي؛ ويبدو غير خبير بأُطر العلم النظرية؛ ذلك أن
نظرية كنظرية النحو العربي هي تنظيم لما «يعتقده» النحويون يساعد
على أن يُفهم النظام اللغوي. وقد وضعت «يعتقده» بين مزدوجتين لكي
أنبه إلى أن هذا التعبير يضعف النظرية من كونها من عمل الإنسان لكي
يفهم، فالإنسان هو الذي يبني النظرية ويكونها. ومع ذلك فحتى لو كان
«معتقدًا» علميًّا فلا مجال للحرام والحلال؛ لأن في هذا خلطًا بين
العلم وبين الأيديولوجيا. وبالرغم مما قيل عن نقل ابن مضاء المذهب
الظاهري من مجال النصوص الدينية إلى مجال الدرس اللغوي، فإنني أميل
إلى أنه ليس نقلًا واعيًا، بقدر ما هو خبرة قاضٍ وفقيه تدرب في
علوم تنتمي إلى الدين، وانتقل إلى علم يحتاج إلى خبرة مغايرة يشير
إلى ذلك قوله وهو يتحدث عن تقدير العامل المحذوف: «وأما طرْد ذلك
(تقدير العامل المحذوف) في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه وادعاء زيادة معانٍ فيه من غير حجة ولا
دليل إلا القول بأن كل ما ينصب إنما ينصب بناصب … فالقول بذلك حرام.»
١١ أليس كلام الله كلامًا؟ أبسط الإفادات العلمية في
النحو تجيب بأنه كلام؛ فالفهم المبني على فهم منظم للكلام كالنحو
قابل لأن يعمم على كل أنواع الكلام بدون استثناء، وتقويم مسألة
ذهنية كتقدير العامل لا تكون بالحلال والحرام؛ إنما تُقوم بالترابط
والتماسك من جهة. أعني هل ينطوي تقدير العامل على تناقض؟ هل تقدير
العامل منتظم؟ وعلى الشمول من جهة أخرى؛ أعني هل يغطي تقدير العامل
المحذوف ما يفترض أن يغطيه؟ صحيح أنه لا يوجد ضمان أن تكون فكرة
العامل فكرة حقيقية، لكن من قلة الخبرة أن نفكر على أنها فكرة غير
حقيقية؛ فمفهوم العامل وما يترتب عليه من حذف وتقدير وإضمار ليس
إلا مفهومًا يستعمله النحوي كعالم، والنحو كعلم يشرح الظواهر
اللغوية.
لم أرد أن يكون تحليلي لكتاب الرد على النحاة سجاليًّا، لكن عرض
ابن مضاء للقضايا النحوية يستدعي هذا السجال، ومنها العلة التي
يعرضها على النحو التالي: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل
الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام
زيد» لم رُفع؟ فيقال لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: لم رُفع
الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب. ثبت ذلك
بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولا فرق بين ذلك وبين من عرف أن
شيئًا ما حرام بالنص، ولا يُحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه
إلى غيره، فسأل: لم حُرِّم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على
الفقيه.» لا يمكن أن نخضع علم النحو للمفاهيم التي استخدمها ابن
مضاء في هذه العبارة؛ فالصواب والحرام والنص والتواتر استخدمها ابن
مضاء بمعزل عما تُستعمل فيه؛ أعني العلوم الدينية. ولن ينكشف عوار
هذه المفاهيم التي استُخدمت في مجال غير المجال الذي تنتمي إليه
إلا عندما يرفض أن «يُعطى الأثقل، الذي هو الرفع، للفاعل، وأُعطي
الأخف، الذي هو النصب، للمفعول»؛
١٢ ذلك أن ابن مضاء يغفل مفهومين من المفاهيم الموجهة
لعلم النحو وهما الخفة والثقل، وما بُني عليهما. إن الإجابة التي
يقترحها ابن مضاء لسؤال لماذا رفع الفاعل؟ (كذا نطقت به العرب)
(ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر) إجابة ليست من العلم في
شيء. ويمكن أن تتضح الفكرة فيما لو سأل أحد ما: لماذا ينبض القلب؟
فيقال: كذا خلقه الله. لا يمكن أن تطور إجابة ابن مضاء عن سؤال:
«لماذا رفع الفاعل» النظرية النحوية؛ فأهمية التفكير العلمي النظري
في كلام العرب الذي تنتمي إليه العلل الثواني والثوالث تكمن في أن
النحو يحرر الكلام من تجربته في حياة العرب اليومية، ويجعله يتعالى
عن تجربته اليومية الضيقة. وإذا كان ما يقترحه ابن مضاء يصح في
الفتاوى، فلا يصح في النحو من حيث هو علم. لا تتيح إجابة «كذا نطقت
به العرب» مجالًا لقيم المعرفة لا سيما الفضول العلمي باعتباره روح
العلم؛ فبدون الفضول الخلاق لا يمكن للنحو أن يكون نظامًا مفتوحًا
يتغير ويتعدل ويتطور. ومن دون الأسئلة التي تتلو الأسئلة، التي
نعبر عنها هنا بالفضول، لا يمكن للنحو أن يعيد بناء تاريخه.
تفترض إجابة ابن مضاء عن سؤال: لماذا رفع الفاعل؟ أنه يستطيع أن
يقف أمام غموض أن الفاعل مرفوع من دون أي رد فعل. فكون الفاعل
مرفوعًا لا يقلق ابن مضاء غموض أن يكون كذلك، وهو ما دفعه إلى
إجابته الظاهرة، والقامعة لأي تساؤل، ولهذا علاقة بغياب الشك الذي
هو أحد أهم قيم المعرفة؛ فابن مضاء قادر على أن يكون منغلقًا، وعلى
أن يتحمل غياب الإجابة.
إذا ما تبعت هذا النوع من التحليل الذي يظهر عدم خبرة ابن مضاء
بأعراف العلم؛ فسأتوقف عند دعوته إلى إلغاء القياس. لقد قيل عن
القياس الكثير من الغث والسمين، لكن من حسن الحظ أن هناك بحثًا
١٣ يمنح نظرة شاملة للقياس؛ أعني أصل القياس في الثقافة
الإسلامية، واستمراريته في علمي الفقه والنحو. وأول شيء نلاحظه أن
القياس هو حركة العقل لفهم الظاهرة، وهو أداة تنظيمية تحول
«الكلام» إلى لغة، وترد التغاير والتعدد إلى النسق والنظام. إن
الطريقة التي وصف بها نصر حامد أبو زيد كيفية اشتغال علم النحو لا
سيما ما وصف به النحو من كونه نظامًا ثانويًّا داخل إطار نظام موحد
هو الثقافة العربية الإسلامية: وصف يفترض قبليًّا مفهوم القياس؛
وبناء على ذلك يتحدث أبو زيد عن الاستعداد الذي يزخر به هذا
النظام.
بيد أننا يمكن أن نقر بأن القياس أداة من أدوات العلم من دون أن
يكون هذا المفهوم مرتبطًا بتأويل أبي زيد عن النظامين الإطار
والثانوي، ولا بد من أن ندرك أن مفهوم القياس ضروري للعلوم. وحتى
ما قيل عن الظهور المبكر للقياس الفقهي، فإن هذا الظهور ليس هو ما
خلق الانسجام بين علمي الفقه والنحو؛ إنما افتراض العلم أن يكون
العالم قد وصل إلى المرحلة التي تجعل منه عالمًا يفكر بأدوات
العلم، ومنها القياس الذي أوصل النحو إلى أحد المفاهيم الموجهة
لعلم النحو، وأعني به مفهوم المشابهة، وهو ما لم يكن حاضرًا في وعي
ابن مضاء لقلة خبرته بأعراف العلم.
يدعو ابن مضاء إلى إلغاء تمارين النحو غير العملية. يقول: «ومما
ينبغي أن يسقط من النحو «ابن من كذا مثال كذا» فيقول قائل: «بوع»
أصله بُيْع فيبدل من الياء واوًا لانضمام ما قبلها؛ لأن النطق ثقيل.»
١٤ يعلق شوقي ضيف: «وهكذا يريد ابن مضاء أن يريحنا من كل
ما يعدل بنا عن صيغ اللغة إلى ظنون النحاة في عبارات لا نستخدمها،
وألفاظ يمتحن بها بعضها بعضًا، وهي لا تجري في كلام العرب، وإنما
تجري على ألسنة النحاة، كي يضيفوا إلى النحو كل ما يمكن من مشقة وتصعيب.»
١٥ يجانب تعليق شوقي ضيف الصواب؛ فظنون النحاة، وامتحان
بعضهم بعضًا هو ما يجعل من النحو علمًا، فعلماء النحو يختارون
المسائل التي يدرسونها، وكل عالم منهم لا يعمل خارج انتمائه إلى
النحاة. والحال أن هذا الانتماء إلى جماعة علمية نحوية يؤدي دورًا
حاسمًا في اشتغال العلماء؛ فامتحان علماء النحو بعضهم بعضًا الذي
ينتقده شوقي ضيف هو رغبة هؤلاء العلماء منتجي المعرفة النحوية في
الاعتراف ببعضهم بعضًا. إن القول بعدم أهمية التمارين غير العملية
كونها لا تجري في كلام العرب موقف يتناسى امتلاك النحاة موقفًا
نظريًّا يتعاملون فيه مع الفكر، وليس مع ما هو موجود حقًّا؛ فثقافة
النحو النظرية تفضي إلى وراء ما ينطقه العرب. هذا من جهة، ومن جهة
أخرى يتناسى أن هذه التمارين العملية جزء من تدريب العلماء الشباب
تنمي فيهم القدرة على الملاحظة والتعليل، ولكي يسيطروا على النموذج
العلمي المعتمد.
الحياد العاطفي أحد معايير العلم والعلماء؛ وهذا لم يكن ممكنًا
عند ابن مضاء وهو متعلق بأفكاره الشخصية؛ يدافع عن وجهة نظر خاصة
كونه فقيهًا وكونه ظاهريًّا، ومن دون أن يكون مقنعًا بما فيه
الكفاية. ربما نجد له العذر في كونه تكون معرفيًّا في حقول معرفية
أخرى، لكن ما نشير إليه هنا هو أن ابن مضاء لم يضف شيئًا إلى مفهوم
النحو من حيث هو علم إن لم يكن كتابه مخيبًا للآمال. وما جعله يأخذ
الهالة لا سيما بين الداعين إلى تيسير النحو وتسهيله هو ما يمكن
الإشارة إليه بقول ريلكة من أن الخلود يرتبط بسوء فهم شخصية ما،
وأنا أعتقد أن هذا ينطبق على ابن مضاء.