ألفَا – بيتَا – جامَا
ألف – باء في تركيب الذرة
ألفا – بيتا – جاما؛ أول حروف الهجاء في اللغة الإغريقية، والحروف الإغريقية ليست غريبة علينا؛ إذ إن الحروف العربية نفسها قد رُتبت على نسق الحروف الإغريقية؛ فقيل: أبجد هوز … إلخ، وإذن فإن «ألفَا – بيتَا – جامَا» تقابل «ألف – باء – جيم»، ولذلك فهي تصلح كنقطة ابتداء لتعلُّم لغة الذرة، وقد دخلت هذه الحروف في لغة الذرة في أواخر القرن الماضي عندما اكتشف اليورانيوم والراديوم وغيرهما من العناصر ذات النشاط الإشعاعي.
والذين رأوا الشريط السينمائي عن حياة مدام كوري يذكرون ذلك التوهج أو ذلك الإشعاع المنير في الظلام الذي ظهر لمدام كوري عندما نظرت لأول مرة إلى عنصر الراديوم، وقد استرعى أمر هذه الأشعة نظر العالم العلمي؛ فقام العلماء يحللونها ويدرسون خواصها، وسُميت الظاهرة بظاهرة النشاط الإشعاعي؛ فمن ذلك أنهم جعلوا هذه الأشعة تمر بمجال مغناطيسي، فتحللت إلى ثلاثة أجزاء، انحرف أولها إلى جهة اليمين بفعل القوة المغناطيسية، وانحرف ثانيها إلى جهة اليسار بفعل نفس القوة، ومضى ثالثها في سبيله لا يلوي على شيء، ولما لم يكن السبب في ذلك واضحًا في أول الأمر فقد اكتفى العلماء بأن سموا الجزء الأول أشعة ألفَا، والجزء الثاني أشعة بيتَا، والثالث أشعة جامَا؛ تمييزًا للواحد منها عن الآخر.
وسيَرد ذكر جسيمات ألفَا كثيرًا في هذا الكتاب، ولذلك يحسن أن يتعرف القارئ على خواص هذه الجسيمات، فالجسم الواحد من جسيمات ألفا لا يزيد وزنه على سبعة أجزاء من مليون مليون مليون مليون جزء من الجرام، والواقع أن وزن مليون مليون جسيم من جسيمات ألفا يساوي نحو ٦٫٦ أجزاء من مليون مليون جزء من الجرام، ووزن جسيم ألفا أربعة أمثال وزن ذرة الأيدروجين التي هي أخف الذرات جميعًا، أما جسيم بيتا فوزنه أقل من ذلك بكثير، ويساوي نحو جزء من ١٨٠٠ جزء من وزن ذرة الأيدروجين، والكهرباء التي يحملها جسيم ألفا ضعف كمية الكهرباء التي يحملها جسيم بيتا من حيث المقدار، وهي — كما قدمنا — مخالفة لها في النوع.
تهشُّم الذرة وتناثر بعض أجزائها
وقد ثبت أن ما نسميه النشاط الإشعاعي لليوارنيوم والراديوم وأمثالهما إنما هو تهشُّم ذرات هذه المواد وتناثر أجزائها، فذرة اليورانيوم ليست باقية على حالها، وليست الأمور في داخلها مستقرة كما هو الحال في ذارت العناصر العادية، فهي ذرة مضطربة منفجرة يعوزها الاتزان والاستقرار، وتلك هي الميزة التي تميزها وأمثالها عن غيرها من الذرات، وإذا فهم القارئ ذلك فإنه يفهم ببساطة أهمية دراسة الجسيمات التي تنبعث عن الذرة في أثناء تهشُّمها وتحطمها؛ إذ إن هذه الجسيمات لا بد داخلة في تركيب الذرة، فهي — أجزاؤها أو أحشاؤها — تنبئنا بما استقر في باطنها، ونضرب لذلك مثلًا؛ فنفرض أن بناءً تهَشَّم وتناثرت بعض أجزائه، وأننا وجدنا بين هذه الأجزاء المتناثرة أحجارًا من نوع معين؛ فإنه يحق لنا أن نحكم بأن هذه الأحجار داخلة في تركيب هذا البناء، وهكذا الحال في أمر الذرة.
جسيمات بيتا أو الإلكترونات
أول قنبلة ذرية
وما قيل عن الفرق بين السرعتين في حالة الإلكترونات يقال في حالة جسيمات ألفَا، فجسيمات ألفَا التي تُستحدث صناعيًّا داخل الأنابيب الغازية المفرغة، والتي تُعرف بأشعة القناة، ربما تصل سرعتها إلى جزء من مائة جزء من سرعة الضوء، أما جسيمات ألفَا الصادرة عن عنصر الراديوم فتصل سرعتها إلى عشرة أمثال هذا المقدار، ولما كان وزن جسيم ألفَا يعادل أربعة أمثال وزن ذرة الأيدروجين — كما تقدم — فإن اجتماع وزنه وسرعته معًا يجعله قذيفة لها خطرها إذا أُطلقت على الذرات عاملة على تفتيتها، فهي بمثابة قنابل يمكن إطلاقها على ذرات العناصر، فإذا اصطدمت بذرة اصطدامًا عنيفًا هزَّتها، وربما طردت بعض أجزائها خارجها.
وأول من استخدم جسيمات ألفَا كقنابل يطلقها على ذرات العناصر هو العالم الإنجليزي اللورد رذرفورد أستاذ الطبيعيات بجامعة كامبردج، ونحن إذا وصفنا تجارب رذرفورد على أنها إطلاق لقنابل ذرية فإننا لا نقصد بالقنابل الذرية تلك القنابل التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي والتي سُميت قنابل ذرية؛ لأن طاقتها مستمدة من داخل الذرات، أما القنابل التي أطلقها رذرفورد داخل معمله فهي قنابل ذرية، بمعنى أنها هي نفسها ذرات أو أجزاء من ذرات تُطلق على الذرات، ولما كانت كتلة القنبلة التي هي جسيم ألفَا لا تزيد على سبعة أجزاء من مليون مليون مليون مليون جزء من الجرام — كما قدمنا — فإن أبحاث رذرفورد لم تسترعِ إلا انتباه العلماء الذين يقيسون الأمور بمقياس المنطق والمعرفة، وليس بمقياس القوة الغاشمة، ومع ذلك فإن قنابل رذرفورد الذرية المتناهية في الصغر والضآلة هي التي فتحت خزائن الطاقة الذرية لمن يريد أن يستخدمها في التخريب والتدمير.
النتيجة الأولى لأبحاث رذرفورد – النواة
وحتى عام ١٩١١ لم يكن العلماء يعرفون إلا القليل عن طريقة اجتماع أجزاء الذرة في داخلها، فالذرة تحتوي على جسيمات مكهربة، ولكن كيف تأتلف هذه الجسيمات؟ وهل تجتمع كلها في حيز صغير فتوزع فيه توزيعًا منتظمًا؟ وإذا كان التوزيع غير منتظم فبأي كيفية هو؟
وقد ثبت أن جسيمات ألفَا إن هي إلا نوى عنصر الهيليوم، كما أطلق اسم البروتون على نواة الأيدروجين الخفيف، واستُخدمت البروتونات في مهاجمة الذرات بنفس الطريقة التي استخدمت بها جسيمات ألفَا، إلا أنه لما كان وزنها يعادل ربع وزن جسيمات ألفَا فإن مقدرتها على تجزئة النواة تكون أقل تبعًا لذلك، ويحمل البروتون نصف ما يحمله جسيم ألفَا من الكهرباء الموجبة، وهذا يساوي في المقدار ويخالف في النوع ما يحمله الإلكترون.
النتيجة الثانية لأبحاث رذرفورد – تحويل العناصر
عندما أطلق رذرفورد جسيمات ألفَا على غاز الأزوت تحقق حلم قديم للكيميائين، ألا وهو تحويل العناصر الواحد منها إلى الآخر، والذي حدث هو أن جسيم ألفَا دخل في تكوين نواة الأزوت وخرج من النواة في الوقت ذاته بروتون، فتحولت النواة من نواة أزوت إلى نواة أوكسجين، ومع أن تحول العناصر من عنصر إلى آخر كان معروفًا في دائرة العناصر ذات النشاط الإشعاعي كالراديوم، إلا أن هذه الظاهرة كانت محدودة النطاق، أما تحويل عنصر مثل عنصر الأزوت إلى عنصر آخر مثل عنصر الأوكسجين فلم يكن في طاقة البشر، والتجارب التي أجراها رذرفورد لم تكن تجارب كيميائية، فالتحويل إنما حدث لعدد قليل من الذرات بحيث تعجز الوسائل الكيميائية عن امتحانه أو التعرف عليه، ومع ذلك فقد برهن رذرفورد وأتباعه على أن ذرة الأزوت قد تحولت فعلًا إلى ذرة الأوكسجين، وبذلك بدأ عصر جديد في علم الطبيعة وعلم الكيمياء على حد سواء.